العدد 1809 - الأحد 19 أغسطس 2007م الموافق 05 شعبان 1428هـ

الاحتلال الأميركي... وما بعده

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المعلومات التي سربتها صحيفة «نيويورك تايمز» نقلا عن مصادر رسمية بشأن خطة الرئيس جورج بوش في العراق توضح إلى حد معين مسار الاحتلال في بلاد الرافدين في الفترة المتبقية من عهده. فالمعلومات تشير إلى أن بوش سيعتمد على «تقرير سبتمبر» الذي سيقدم إلى الكونغرس في الخامس عشر من الشهر المقبل لإعلان عزمه بدء الانسحاب المبرمج من العراق في مطلع السنة المقبلة.

الانسحاب المتوقع سيبدأ بإعلان تخفيف القوات إلى المستوى العددي الذي كانت عليه قبل إضافة 30 ألفا. بعد ذلك ستبدأ خطوة التراجع التدريجي المدروس وفق جدول زمني يقوم على تكتيكات ميدانية متنوعة. فهناك مجموعات من الجنود المحترفين سينسحبون إلى داخل العراق لا خارجه أي أنهم سيعيدون انتشارهم ضمن بلاد الرافدين في مناطق آمنة. وهناك قطاعات سيعاد تجميعها في قواعدَ عسكرية ومهابطَ طيران في مطارات ضخمة تم تجهيزها في 9 مناطق حيوية (آبار نفط وخطوط مواصلات). وهناك ألوية ستوضع في الشمال (المناطق الكردية) ضمن اتفاقات خاصة مع الحكم الذاتي. وهناك جزء كبير من القوات سيبقى في محيط العراق وعلى حدوده وسيعاد توزيعه مع معداته الثقيلة على دول الجوار وتحديدا الكويت وربما تركيا. أما الجزء المتبقي من قوات الاحتلال فسيرسل تباعا إلى الولايات المتحدة وفي وقت سريع لا يتعدى الصيف المقبل.

هذا السيناريو المتوقع إعلانه في الشهر المقبل يطرح الكثير من الاحتمالات السياسية في منطقة استراتيجية وحيوية وغنية بالثروات الطبيعية. وتتركز الاحتمالات على سؤال: ماذا بعد الانسحاب المجدول ضمن خطة زمنية؟

«ماذا بعد» يعني ماذا سيحصل بالعراق؟ وكيف ستكون عليه صورة الدولة بعد التخفيف من قوات الاحتلال أو تجميعها؟ وأيضا يعني السؤال ماذا سيحصل في دول الجوار المحيطة جغرافيا ببلاد الرافدين؟ كذلك يعني السؤال ماذا سيحل بالدول القريبة والبعيدة عن دائرة الصراع المتوقع على العراق؟

كل الترجيحات تقول إن بلاد الرافدين سائرة موضوعيا نحو التقسيم الفيدرالي (وحدات ضمن اتحاد) بعد أن رسمت التطورات الميدانية وعنف الطوائف والاقتتال المذهبي خطوط تماس سياسية واضحة في تجانس هويتها الأهلية.

ميدانيا تغيرت على الأرض تلك الشبكة السكانية التي كانت تربط الأطياف ضمن منظومة علاقات تشدها المصالح المشتركة وروابط الجغرافيا النهرية (المدن الرئيسية الثلاث وهي الموصل وبغداد والبصرة تقع على مجرى دجلة). الآن اختلفت العلاقات بعد الاحتلال الذي أودى بالدولة وقوض أسسها واقتلعها من الجذور. وإعادة تأسيس دولة بديلة بات تحت أمر حكم الواقع الذي تشرذم إلى وحدات (كانتونات مذهبية وطائفية وأقوامية وعشائرية ومناطقية).

تقسيم دولة العراق إلى وحدات سكانية متجانسة (دويلات) يعني شرذمة هوية بلاد الرافدين وإعادة توزيعها ضمن إطار منظومات غير وطنية تعتمد هوية الطائفة أو المذهب أو المنطقة أو القوم (الأكراد مثلا). وتحت مظلة التقسيم يرجح أن تستأنف الطوائف والمذاهب والأقوام والمناطق حروبها الداخلية الخاصة بها لتحسين المواقع ضمن دائرة الكانتون الواحد. وهذا الأمر يستدعي عدم استبعاد احتمال حصول مواجهات سياسية بين أبناء الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد في مناطقَ مختلفة من الشمال إلى الجنوب ومن الوسط إلى الغرب. فكل منطقة تشتمل الآن على صواعقَ تفجير أهلية يمكن أن تعصف باستقرار كل «كانتون».

انقسامات وانقسامات

تحت الانقسامات العامة هناك انقسامات خاصة في دائرة من النار تلف حدود العراق ومحيطه. فالدول المجاورة جغرافيا لبلاد الرافدين لن تكون بعيدة عن أجواء سخونة «الكانتونات» وتجاذباتها السياسية والأمنية، وهي ستتأثر بحرارة المشاحنات مهما حاولت الابتعاد أو الاقتراب من تداعيات الفراغات الأمنية التي ستنشأ في فترات الانسحابات الأميركية على امتداد أشهر السنة المقبلة.

حرارة الصراع على ساحة العراق يتوقع لها ألا تقتصر على محيط بلاد الرافدين الجغرافي. فالمحيط في تركيبته الأهلية يمتد سياسيا إلى دول الجوار وما بعد الجوار باعتبار أن طبيعة الاقتتال الأهلي سيتلون أو سيتأقلم مع واقع منطقة «الشرق الأوسط» المذهبي والطائفي والأقوامي. وهذا التأقلم سيضع المنطقة أمام استحقاقات خطيرة تتطلب من الدول المسارعة منذ الآن إلى قراءة التداعيات المنتظرة ومحاولة احتواء سلبياتها ومخاطرها على التوازنات والاستقرار.

فرضية تقسيم العراق إلى «فيدراليات» لم تعد مسألة نظرية نصّ عليها الدستور البديل الذي أشرف الاحتلال على وضع بنوده ومواده في العام 2003. فالدستور افترض التقسيم الجغرافي وفق النموذج الأميركي (ولايات فيدرالية) مرتبطة بعاصمة مركزية ودولة اتحادية. إلا أن واقع العراق الطائفي/ المذهبي/ الأقوامي فرض شروطه الميدانية على صيغة الدستور فأعاد إنتاج دويلات مناطقية متجانسة طائفيا ومذهبيا وأقواميا في إطار عنف أهلي فرز التركيب السكاني إلى دوائرَ ملل ونحل. الفيدراليات في الولايات المتحدة إدارية وسياسية في دائرة جغرافية على حين الفيدراليات التي اصطنعها دستور الاحتلال أو شجع على قيامها هي اقرب إلى الكانتونات (وحدات سكانية) متجمعة في منطقة واحدة لعواملَ طائفية ومذهبية. وبين الصيغة الأميركية والصيغة العراقية هناك مسافات زمنية تفصل بين الدولتين. وهذه المسافات متلونة بالتخلف الاجتماعي وتعثر الوعي السياسي.

عملية الإنزال التي قامت بها قوات الاحتلال ضد الدولة العراقية انعكست سلبا على الشعب العراقي. فالإنزال الجوي قوّض الدولة، ولكنه أيضا ساهم في تقويض العلاقات الأهلية حين أسقطت قوات الاحتلال دستور «العراق الجديد» بالمظلات على واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي مغاير لذلك القائم في الولايات المتحدة.

تقسيم العراق الواقعي والدستوري تتحمّل مسئوليته السياسية إدارة جورج بوش باعتبار أن القانون الدولي يؤكد هذه النقطة. فكل دولة تحتل أخرى تتحمّل كل التداعيات التي تقع. وما حصل وسيحصل في العراق لا يمكن تسجيله إلا في خانة مسئولية الاحتلال الأميركي.

الآن وبعد خراب بلاد الرافدين بدأت إدارة واشنطن تفكر في وضع خطة انسحاب مبرمجة تتنوع بين إعادة الانتشار وإعادة التمركز (التجميع) وبين تخفيف القوات وإرسال جزء منها إلى أميركا والإبقاء على جزء منها في دول الجوار. إلا أن النتائج التي ترتبت على قرار الاحتلال ثم قرار الانسحاب ستبقى من مسئولية الولايات المتحدة مهما حاولت التنصل وادعاء البراءة للتهرب من الاعتذار ودفع التعويضات.

أنفقت الولايات المتحدة على احتلال العراق وتقويض دولته وتخريب علاقاته الأهلية نحو 600 مليار دولار في السنوات الخمس الماضية، ويحتاج العراق بعد انسحاب الاحتلال إلى سنوات لإعادة ترميم عمرانه بكلفة ربما تزيد على كلفة الدمار. وهذا يعتبر في الأعراف الدولية مسئولية تتحمّل نفقاتها الدولة المحتلة. إلا أن المشكلة في حال العراق الآن أسوأ من ذاك الخراب التي أحدثته الحرب العالمية الثانية في أوروبا واليابان. فالدمار في بلاد الرافدين تجاوز البنى التحتية للحجر وطاول علاقات البشر وعمرانهم الأهلي.

الكل الآن ينتظر ماذا سيقول بوش في كلمته تعليقا على «تقرير سبتمبر» إلا أن الكلام لن يتجاوز حدود التأزم الداخلي القائم بينه وبين أعضاء الكونغرس وتجاذبات الديمقراطي والجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولكن المصيبة التي سيتجاهلها بوش في خطابه هي تلك الكارثة التي أورثها للمنطقة وسبل معالجتها وكلفة ترميمها الحجرية والبشرية. فالمصيبة وقعت وربما يرى بوش أن نجاحه الوحيد في مشروعه الاحتلالي كانت تفخيخ المنطقة بهذه المصيبة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1809 - الأحد 19 أغسطس 2007م الموافق 05 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً