العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ

برنامج «ما وراء السؤال» وجهل مسئولية المنصب العام!

حيدر محمد haidar.mohammed [at] alwasatnews.com

الخيط الأبيض الذي يفصل بين المنصب العام والإدارة الخاصة هو حاجز المسئولية العامة، لأنني عندما أدير شركتي الخاصة أو ممتلكات عائلتي فليس من حق أحد أن يتدخل أو يعترض أو ينتقدني إلا بمقدار النصيحة الشخصية، ولي أن أأخذ بها أو أضربها في عرض الحائط. ولكن الأمر يختلف تماما عندما يتعلق الموضوع بمنصب عام، فهذا الكرسي ليس ملكا لي، لأنه أمانة كبيرة وثقة من الملك والحكومة ومن قبلهما الشعب، و التعامل مع المنصب العام على أنه حظيرة خاصة للوزير أو الوكيل أو المسئول خلط كبير وخطير يقع فيه كثير من المؤتمنين على الكراسي في بلدنا.

عندما أجلس على كرسي عام فهذا يعني أنني أصبحت خادما للأمة، أقبل نقدها بل وتوبيخها، وأتحمل المسئولية كاملة أمام الله وأمامها، وإذا لم أكن راغبا في «عوار الرأس» لأترك هذا المنصب العام لغيري وأجلس في بيتي أو أدير مؤسستي الخاصة بكل حرية، وحينها سأكون معفيا من حق المحاسبة العامة، ولكن إذا كنت متمسكا بالكرسي، ومستحليا لأبهة المنصب وراقت لي الوسادة الوردية و مرسديس آخر موديل وأصبحت مشدودا لجمال الظهور على صدر الصحف فعلى الأقل يجب أن أتحمل شيئا من تبعات هذا النعيم وهي القابلية للنقد والمحاسبة، وهذا أضعف الإيمان.

من دواعي الأسف أن كثيرا من المسئولين في بلدنا صغارا وكبارا لا يعرفون - أو لا يريدون أن يعرفوا - الحمل الكبير الذي يفرضه المنصب العام، فتراهم يصدون آذانهم عن النقد البرلماني أو الأهلي أو الشعبي أو الإعلامي... لأن ثقافة المنصب العام ومسئوليات المنصب العام غائبة عن أذهان شريحة واسعة من المسئولين.

والمصيبة الأدهى أن في البحرين لم يعد الوزراء قادرين حتى على استماع الرأي الآخر مهما كان صادقا أو نابعا من ضمير مخلص أو قلم تهمه مصلحة البحرين، وقد تفاجأت عندما عرفت أن مكتب وزيرة «التنمية» أقام الدنيا ولم يقعدها على برنامج تلفزيوني يعده المذيع البحريني المتميز محمد الشروقي، ببساطة ثقافة عدم تقبل الرأي الآخر استدعت من هذه الوزارة أن تحمل الهاتف لتوبخ إدارة التلفزيون على برنامج «ما وراء السؤال» الذي يذاع على الفضائية البحرينية، و الذي تناول فيه رأي كل المعنيين في قضية ذوي الاحتياجات الخاصة وما تقدمه وزارة «التنمية» لهم.

المشكلة التي استدعت من مديرة مكتب الوزيرة أن تهرع إلى الاتصال بمدير التلفزيون لتبلغه غضب الوزيرة واستياءها من النقد الموجه إليها وإلى الوزارة من أحد المشاركين في البرنامج، وزعل الوزيرة كان أهم لدى التلفزيون من مقدم البرنامج ومن الضيوف بل ومن آلاف المشاهدين، والنتيجة تنجح هذه الضغوط في ثني إدارة التلفزيون عن إعادة بث البرنامج في وقته المعتاد، وفعلا - ولله الحمد من قبل ومن بعد - نفذت رغبة الوزيرة ومديرة مكتبها ولم يعاد البرنامج!

أستميحكم عذرا أهو أمر مبكٍ أم مضحك، وزير من الوزراء لا يعجبه كلام أحد المشاركين ولا يعاد البرنامج، واليوم اتصلت مديرة مكتب الوزيرة وفي المستقبل قد تتصل سكرتيرة أو حتى فراشة أي وزير لتطلب من التلفزيون عدم عرض أي برنامج لأنه يخالف رغبة الوزير، و بصراحة ما حدث سابقة خطيرة، وهو أمر يفتقر للكياسة «يعني ما في اتكيت كلش».

بالأمس القريب حذف مقطع من حديث جاء في سياق الناشطة السياسية عفاف الجمري مع الإعلامية سوسن الشاعر، وانتصر جلالة الملك لحرية التعبير، وأمر بإعادة بث البرنامج كما هو من دون حذف، واليوم أنا واثق أيضا أن جلالة الملك سيتدخل ليضع النقاط على الحروف ليعاد البرنامج كما هو حتى يثق الناس في تلفزيونهم الوطني، خصوصا أن الجميع بدأ يلحظ قدرا مهما من التطور في التلفزيون على مستوى التفاعلية مع المجتمع وتناول قضايا الشأن العام بجرأة أكثر من ذي قبل، و يجب أن نحافظ على هذا التقدم ونطوره تدريجيا.

والأهم من ذلك يجب محاسبة من قام ومن أمر ومن اتصل ليمارس ضغوطا مختلفة على إدارة التلفزيون، ويجب أن نعطي درسا متحضرا في علاقة الوزارات مع المؤسسات الإعلامية الرسمية أو الخاصة، حتى لا تكون مكاتب الوزراء أو سكرتيراتهم هي المرجعية في تحديد المصلحة الوطنية من النشر أو البث أو عدمه.

إذا كنا نعيش في أجواء ديمقراطية، وفي وطن القانون والمؤسسات، فيجب أن نعرف أن القانون أتاح حق الرد والتعقيب بالكيفية التي يراها المعقب، و لدينا سلطة قضائية يمكن اللجوء إليها للاحتكام، وربما كشف حادث (الشروقي/ التنمية/ التلفزيون) عن حاجة حقيقية وحيوية لتأسيس كيان مهني جديد قادر على حماية مهنة الصحافة والنشر من جهة وحقوق العاملين في الحقل الإعلامي من جهة أخرى، لكي لا نترك الأمور على عواهنها.

ليس هناك ثمة مشكلة أن أجلس في بيتي وأضمن أن لا يعترض أحد على جلستي أو قيامي أو سفري، ولكن عندما أجلس في موقع متصدر من الحياة العامة فيجب أن أضع في حساباتي أن هناك من سيراقبني ومن ينتقدني بشكل مستمر وصريح وفي كل مكان في حدود ما يتيحه الدستور والقانون والذوق الإنساني قطعا.

في الكويت القريبة منا، تتجسد ثقافة المنصب العام بوضوح شديد، وما استقالة وزيرة الصحة معصومة المبارك - وهي من الكفاءات التي عملت في الحقل الجامعي والنضال المجتمعي لسنوات طويلة - أعطت درسا عاليا ومهما في الإدارة الناجحة، ومن الحس العالي في تقدير المسئولية، عندما بادرت إلى تقديم كتاب استقالتها إلى سمو أمير الكويت، وهذا النوع الراقي والمتحضر من المسئولية لا يوجد عندنا.

في البحرين لا وزير يمتلك الشجاعة في الاستقالة، إلا ما حدث في مرة واحدة في التسعينات - بل ما نراه على النقيض الكامل، نراهم يتمسكون بتلابيب كراسيهم حتى النفس الأخير، وتقارير كثيرة عن الفساد المالي والإداري الواردة في تقرير ديوان الرقابة المالية لم تكن كافية لأن يجرؤ وزير على تحمل المسئولية أمام من منحه الثقة وأمام الناس ليتنحى عن منصبه!

«مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر: 29)... هذا هو منشأ الفكر الاقصائي، وكل الطغاة في العالم من هتلر وموسليني إلى صدام حسين ربما كانوا يرون أنهم يرفعون من قدر شعوبهم ولكن بطريقتهم الخاصة، فهؤلاء يعتقدون أن منهجهم في إدارة الأمور يصيب كبد الحقيقة دائما، لكن المشكلة أن جل سلوكياتهم تسير في مسلك معاكس، فهم يسبحون في واد والحقيقة في وادٍ آخر.

وفي الخلاصة، إن من يمتلك منصباَ عاما يجب أن يكون على قدر عال من الوعي واليقظة بمستحقات هذا المنصب، وما يتطلبه من تطبيق للقانون وتقبل للنقد والمحاسبة وجرأة على الاعتذار أو حتى التنحي، وخيار الوزير ليس أعلى من حق شعب كامل أو فئة منه، والحديث هنا ليس موجها إلى وزير أو وزيرة، ولا يستهدف الإطاحة بأحد، أو التقليل من أي جهد يبذل للبحرين، ولا يجب أن يفهم على هذا النحو إطلاقا.

وإذا كان لكل شيء ثمن فإن قيمة الديمقراطية هي المحاسبة، وهي ليست سيفا مسلطا، والخطأ وارد من أي طرف، ولكن من حق بل من واجب الشعب المحاسبة!

إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"

العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً