العدد 1849 - الجمعة 28 سبتمبر 2007م الموافق 16 رمضان 1428هـ

ذخيرة قيمية تؤسس للفساد!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

التصريحات التي صدرت من سمو ولي العهد أخيرا بشأن محاربة الفساد في جميع مؤسسات الدولة، والتي توعد من خلالها المفسدين باختلاف مستوياتهم ومواقعهم بالعقاب والجزاء الرادع جاءت كخطوة أولية حسنة وإشارة مبدئية لابد منها لإعلان الحرب على خطر جبار ذي قدرات تدميرية عارمة لطالما أطلقها في هدر واستنزاف الموارد الوطنية للدولة وممكناتها الاستراتيجية، وإثخان إمكاناتها ومحاولاتها التنموية للصعود والتنفس الحضاري الحيوي على خطى دروب جديدة وجدية من التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

وفي اعتقادي الشخصي بأن معركة مصيرية وحتمية مع آفات يخلفها الفساد، وذلك قبل أن تطول بنية شبكاته التنظيمية وتمترساته ومواقعه المؤسساتية لابد وأن تنسف أو على الأقل تحد من تبرعم تلك الذخيرة القيمية والعرفية والبطانة الشرعية لبنيان الفساد إذا ما أريد لها أن تكون خطوات استراتيجية منهجية في محاربة الفساد ومحاصرته في جميع مؤسسات الدولة، والسعي للحد من آثاره المعرقلة والتدميرية بحق الوطن والمجتمع والمواطن، وعسى أن لا تستخدم للتعمية والتغطية عن أوجه فساد أكبر وأكثر جوهرية، وحتى لا تتقلص وتنكمش إلى مستوى تصفية الحسابات السياسية مثلاُ، أو لا تتعدى تشذيب الأضافر وتبديل الوجوه وتجديد الدماء وشد الجلد للقضاء على الترهلات والتجاعيد التي لا تخدم حيوية ورشاقة شبكات الفساد ذاتها عبر السنين والأعوام والعقود!

وقد يتساءل بعض القراء الأعزاء عن ما يعنيه كاتب المقال من وجود قيم تؤسس للفساد، في الوقت الذي يعنيه الفساد ذاته من تحلل وتجرد من القيم والأخلاقيات ذاتها، كما أن جميع التشريعات تنص بصراحة مبدئية على نبذ الفساد وتجريمه وتتوعد مرتكبيه بالعقاب الصارم بغض النظر عن الالتزام بتطبيقها من عدمه؟!

فأقول إن مثل تلك الذخيرة القيمية والتشريعية المساندة للفساد وآلياته تستمد جوهرها ومعناها بطبيعة الحال من مختلف التعريفات الاصطلاحية والمحددات الوصفية لـ «الفساد»، والتي وضعتها الأدبيات العامة للمنظمات والمؤسسات الدولية المحاربة.

وتلك التعريفات لم تخرج في جوهر وباطن معناها عن حصرها لمفهوم الفساد في كونه يتعلق إجمالا بالنماذج السلوكية لاستغلال السلطات العامة في تحقيق المنافع والمآرب الخاصة المحدودة فرديا، فتتيح له حق التصرف في الاستغلال والتصرف المنفلت المعيار في الموارد والثروات والأملاك العامة على سبيل المثال لتحقيق منافع خاصة وضيقة!

كما أن مثل هذه القيم والأسس العرفية تحرض على الخلط بين ممارسة السلطة السياسية العامة والخوض في مغامرات ومضاربات تجارية ذات أفق شخصي بحت، فلا تكاد أن تفرق أبدا بين ما هو عام وما هو خاص، وما يرتبط بتحديد التحولات والانعطافات المصيرية لشعب ومواطنين، وما يتعلق بتجربة شخصية عابرة وتطعيم وإشباع عابر لذات فردية تنتهك حدود المجال العام وتبسطه للمجال الخاص!

فمثلما يؤدي غياب أو تدني الفاعلية الحقيقية للمحاسبة والرقابة الشعبية إلى استقواء هذا الفساد وشيوعه وانتشار عدواه حتى بين من يفترض أن يكون ممثلا دستوريا أمينا وصادقا للشعب وجميع المواطنين، حينما يقتدوا ويتأسوا بمن يفترض بهم محاسبته فيقبضوا العمولات والرشوات نظير تهاونهم وارتدادهم عن مواقفهم المبدئية، فإنه ينتشر أيضا بين النائب الذي ينظر بضيق حدقات مصلحته الخاصة أو حتى حدود دائرته الانتخابية ومرماه السياسي إلى محور جميع المصالح والمشتركات العامة والمتحدات الوطنية!

ومثلما أن للحالة الأخيرة قيما تشريعية وأعرافا تنظيمية خاصة بها ما زالت للأسف تسهم بتسييرها وتزيت مسارها، فـإن للفساد بتباين أشكاله وأنواعه وتمظهراته الشكلية وتغلغلاته البنيوية وتناسخاته المتأقلمة مع كافة تطورات الأنواع البيئية قيما تشريعية وأعراف تنظيمية مصلحية مشابهة، وربما ثغرات وفجوات مقدسة وإن كان مكمنها في أعلى السقوف التشريعية إلا أنها كانت ومازالت تسهم في التبرير لضروب الفساد تلك، وإفساح الميادين كافة لخلط المصالح العامة بالآفاق الخاصة!

وللتباينات الحادة بين مستويات التنافسية الاقتصادية ومستويات التنافسية السياسية دورا لا خلاف عليه في تبيئة الفساد حينما تلعب التخلخلات البنيوية المتفاوتة بين حراك اقتصادي ساع للتحدث والتحرر وجمود وتكلس سياسي واجتماعي في الجهة المقابلة، وتصلب في الشرايين الشرعية بمفاصل الأنظمة والسياقات المؤسسية المختلفة، وفي إفراز تلك القيم وتزكية المعادلات الاستغلالية الواقعية والمنطقية لإذكاء نار الفساد، وحتى عندما يتجرد هذا الحراك الاقتصادي من مسئولية محفظته الاجتماعية كما هو سائد دوليا!

كما أن للترهل البيروقراطي أعظم الآثار السلبية، فإن لأية خطوات إصلاحية دورا مماثلاُ وربما أخطر في تمكين هذا الفساد وتحويره فطريا طالما أنها كانت خطوات ومبادرات غير متكاملة ومتناسقة ومتدارسة، ولم يهيأ لها أن تتداخل مع تكوينات الأنسجة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة! أضف إلى ذلك اعتماد أسس المحاصصة الطائفية والإثنية والفئوية التاريخية في مختلف التعيينات الوظيفية، والتي تؤسس لضروب أخرى من الفساد المتداول في بورصات الطائفية والإثنية والفئوية، والتي لا يمكن أن تجتث إلا بتعزيز واقع المواطنة والتأسيس على مبادئ الجدارة والاستحقاق والكفاءة!

وعلى الوزن ذاته هنالك التخريجات والتلبيسات الفقهية ذات الوصف الإسلامي والفحوى الجاهلي والمحقونة بالفيتامينات السياسية والإنزيمات الاجتماعية، والتي تبيح الوصاية على مقدرات الشعب من دون أن تكون هنالك حقوق مكفولة وشرعية بممارسة النقد البناء المتأتي بالمساءلة الفاعلة والمحاسبة الضرورية لهذه الوصاية العامة على ما تنجزه أو ترتكبه في حق الوطن والمواطنين، أو حتى في حق ذاتها ومقامها!

فلأجل مصلحتنا العليا وسلامتنا الوطنية واستقرارنا العام المنشود هل ندرك بأن معركتنا مع الفساد هي معركة قيم وأعراف نوعية أولية، حتى يتهيأ لها أن تكون معركة إجراءات عقابية وردود فعل؟!

وإن كان ولأجل ذلك يلزم وجود عوازل بيئية حيوية وموانع وقائية تحول دون تبرعم واتساع حيز تلك القيم والأعراف والفجوات التشريعية، فإنني أعتقد بأننا كشعب سيد وقيادة كريمة خليقون وجديرون بخوض هذه المعركة المصيرية، ونحن أهل لها.

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1849 - الجمعة 28 سبتمبر 2007م الموافق 16 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً