العدد 1864 - السبت 13 أكتوبر 2007م الموافق 01 شوال 1428هـ

استراتيجية أميركية ثابتة... وعالم يتغير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل فقدت الإدارة الأميركية قدرتها على السيطرة على انفعالاتها ولم تعد قادرة على ضبط سلوكها السياسي العام؟ وهل تتعمد إدارة واشنطن إثارة مشكلات يمكن تجنبها بقصد توتير العلاقات الدولية لتبرير نهج تصعيدي غير مفهوم عقلانيا؟ وهل أصبحت إدارة جورج بوش أسيرة استراتيجية تيار «المحافظين الجدد» ولم تعد في موقع يسمح لها بالاعتراض على قرارات لا فائدة منها سوى توسيع دائرة خصوم الولايات المتحدة في مناطقَ مختلفة من العالم؟

أسئلة كثيرة يمكن وضع نقاطها على البرنامج السياسي الذي تتبعه إدارة مأزومة دخلت سنتها الأخيرة قبل توديع «البيت الأبيض». هناك أقل من 15 شهرا تفصل الحزب الجمهورية عن حفل التسلم والتسليم الذي يرجح أن يعقد لمصلحة الحزب الديمقراطي. وقبل غياب السلطة الجمهورية عن الشاشة الرئاسية الأميركية تصر الإدارة على مواصلة نهج اتبعته منذ الأسبوع الأول وأودى إلى إثارة عواصفَ سياسية دولية اعتراضا على خطوات اعتبرت انقلابية على معاهدات جرى توقيعها مع موسكو في فترة «الحرب الباردة».

الخلاف الذي تجدد أمس الأول بين الكرملين و «البيت الأبيض» بشأن نصب صواريخ مضادة للصواريخ في بولندا والتشيك (الدرع الصاروخي) يذكّر بذلك التوتر الذي ظهر حين أعلنت إدارة بوش عدم التزامها تلك الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مع «الاتحاد السوفياتي» في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بذريعة أن الدولة السوفياتية لم تعد موجودة.

هذا الموقف السلبي أثارته آنذاك مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس في مطلع عهد بوش وقبل أشهر من حصول هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وأدت التصريحات النارية إلى ردود فعل دولية حذرت واشنطن من عواقب هذا السلوك المنفرد الذي قد يدفع موسكو إلى الخروج على طورها والرد على الإساءة والذهاب مجددا في طريق «الحرب الباردة».

آنذاك كانت الولايات المتحدة تتحرك منفردة وتتصرف بصفتها الطرف المنتصر والقادر على الاستغناء عن صداقة أي حليف في العالم. فأميركا في تلك الفترة (النصف الأول من 2001) كانت فعلا القوة العظمى الأولى بينما الدول الأخرى وخصوصا روسيا الاتحادية كانت في حالٍ من الفوضى والاضطراب وتعاني من مشكلات بنيوية وخلخل سياسي يمس أمنها القومي.

الغرور كان يسيطر على عقل الإدارة. فالدولة قوية عسكريا والأقوى في العالم. والموازنة سليمة وفيها كمية من الفائض النقدي الذي تراكم في الخزينة بفضل تلك السياسات التي اتبعها الرئيس السابق بيل كلينتون. والاقتصاد كان يمر في فترة نمو وازدهار لم تشهد مثله الولايات المتحدة من قبلُ حتى في مرحلتها الذهبية في الخمسينات ومطلع الستينات.

في مقابل القوة العظمى الأميركية كانت هناك مراكزُ قوى ومواقعُ ولكنها لم تكن تملك القدرات الكافية على التنافس. فالاتحاد الأوروبي لايزال في مرحلته الأولى ويعاني من انقسامات على الزعامة. وروسيا كانت لاتزال تبحث عن منقذ يرفع عنها تلك الكوارث التي أنزلها بها عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين. والصين دولة نامية يشهد اقتصادها قفزات نوعية في التطور التقني والتقدم الاجتماعي، ولكنها لم تصل بعدُ إلى طور يسمح لها بالتمرد على الهيمنة الدولية الأميركية. بكين بحاجة إلى السوق الأميركية لمواصلة تحسين سوقها الداخلية وبالتالي تعتبر نفسها في موقع المفاوض مع واشنطن، وهو مركز لا يسمح لها بفرض شروطها. والهند أيضا التي بدأت تشهد نموا غير مسبوق في بعض قطاعاتها الاقتصادية والتقنية تعتبر في طور التقدم وتحتاج إلى سنوات وعقود للمنافسة.

صورة عالم متغير

صورة العالم هذه في مطلع 2001 شجعت إدارة تيار «المحافظين الجدد» على التحدي والتمرد وخرق قوانين الطبيعة وتمزيق معاهدات ومواثيق وقعتها في فترة زمنية مع دولة لم تعد موجودة على الخريطة السياسية.

هذا الإحساس بالقوة رفع من درجة الغرور في إدارة مهووسة بالعظمة وترى أن العالم يعاني من فراغ وعلى الولايات المتحدة اقتناص الفرصة والانقضاض على مناطق الضعف والاستيلاء على مواقعها وثرواتها لقطع الطريق على قوى نامية قد تتطور يوما ما وتنافسها على الغنيمة والحصص.

آنذاك أعلنت الولايات المتحدة بكل بساطة تخليها عن المعاهدات والمواثيق الموقعة مع «السوفيات» ضاربة بعرض الحائط السياسة الأخلاقية التي تربط الدول وتحفظ أمنها تحت سقف من التوازنات الدولية. وعظمة القوة التي مرت بها إدارة بوش دفعت واشنطن إلى عدم احترام تعهداتها وتجاوز توقيعات رؤساء الولايات المتحدة في عهود سابقة.

أثارت المناكفة الأميركية ضجة دولية وبدأت المقالات والدراسات تفسر هذه الظاهرة. البعض أعلن أن الخطوة هي الأولى في عصر الامبراطورية الأميركية. والبعض اعتبر الخطوة بداية عودة إلى فترة السباق على التسلح من دون وجود منافس حقيقي. والبعض الآخر تخوّف من احتمال انزلاق الولايات المتحدة إلى مشروع امبراطوري يحاكي تاريخيا الدولة الرومانية في البحر المتوسط والدولة البريطانية في القرن التاسع عشر.

استمر الضجيج نحو تسعة أشهر إلى أن وقعت هجمات سبتمبر في واشنطن ونيويورك فأعلنت إدارة بوش «حربها العالمية» وقررت الخروج من ديارها بذريعة مكافحة الإرهاب في موطنه الأصلي.

مضت الآن ست سنوات وأكثر على تلك الهجمات التي تذرعت بها واشنطن لتغطية سلوك كانت قررت السير به قبل وقوعها. عنف الهجمات أعطى ذريعة للإدارة لإعلان حربها الخاصة من دون حاجة إلى الاستئذان من دول تعتبرها واشنطن غير قادرة على الاعتراض أو المواجهة. وهكذا استغلت إدارة بوش الفرصة لتضرب ضرباتها المتلاحقة مستفيدة من دعم الشارع الأميركي والتعاطف الدولي وذهول أوروبا وصمت روسيا وارتباك الصين وضعف العرب وغياب العالم الإسلامي.

الآن وبعد مرور السنوات الست بدأت صورة العالم تتبدل. فأميركا اكتشف أنها قوية ولكن قوتها ليست كافية لتمرير مشروع امبراطوري يتجاوز إمكاناتها وقدراتها. وأوروبا الاتحادية التي تعاطفت مع الولايات المتحدة ليست مستعدة للسير معها طويلا في مشروع غير واضح المعالم والأهداف. وروسيا التي عصفت بها رياح التغيير أخذت تستقر اقتصاديا وتستعيد موقعها العسكري القادر على المناكفة والاعتراض على استفزازات تلجأ إليها واشنطن بقصد الإثارة والتخويف. كذلك تبدو الصين والهند وإيران وتركيا وبعض الدول العربية في حال أفضل من السابق تسمح لها بالاحتجاج على سلوك يخرّب ولا يعمر.

اختلاف صورة العالم وتغيّر ظروف الولايات المتحدة ونمو قوى دولية منافسة، تفترض ضمنا بدء ظهور وعي سياسي مضاد لتلك الرؤى التي اعتمدتها واشنطن في مطلع العام 2001. إلا أن مراقبة المشهد العام يرسل إشارات لا تتوافق بالضرورة مع تلك التحولات المفترضة. فالسلوك الأميركي لايزال أسير الغرور وعقدة التفوق بإصراره على متابعة استراتيجية انكشفت ثغراتها اللوجستية في الميدان الدولي. بل إن تصريحات وزيرة الخارجية في خريف 2007 ليست بعيدة عن إعلاناتها السابقة التي صدرت في شتاء 2001 حين كانت مستشارة للأمن القومي. فهي تعاملت بفوقية مع تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتنبيهاته وتعاطت بخفة سياسية مع إشارات أطلقها بشأن احتمال انسحاب موسكو من معاهدات الحد من انتشار الأسلحة التقليدية في حال واصلت واشنطن مشروع نصب شبكة الصواريخ في مجالها الجغرافي (أوروبا الشرقية).

لم يقتصر التحدي الأميركي على الشطر الروسي وإنما أخذت باستفزاز أكبر حليف آسيوي للولايات المتحدة في إطار الحلف الأطلسي (الناتو) من خلال تحريك ملف الأقليات (الأرمن والأكراد) الذي يهدد استقرار تركيا ويزعزع أمنها القومي ويعرض مصالحها للخطر على مستوى العراق ودائرة «الشرق الأوسط».

هذه الاستراتيجية التي تتبع أسلوب الثبات في توسيع جبهة الخصوم وتقليص حلف الأصدقاء تطرح فعلا أسئلة عن الأسباب الحقيقية التي تدفع إدارة فاشلة تنتظر سنتها الأخيرة لمغادرة «البيت الأبيض» إلى انتهاج هذا السلوك التقويضي. فهل الإحساس بالفشل هو السبب الذي يغذي الغرور ويرفع من نسبة أوهام القوة، أم أن إدارة بوش أصبحت أسيرة استراتيجية لا تستطيع البقاء على قيد الحياة من دون إثارة مشكلات لا فائدة منها سوى توسيع دائرة الضعف في القيادة الأميركية للعالم؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها ولكنها في مجموعها تحتاج إلى أجوبة ليست بالضرورة نهائية. وحين تكون الأجوبة مبهمة وغير ناضجة فمعنى ذلك أنها مجرد تساؤلات عن صورة عالم يتغير ولا يعرف حتى الآن اتجاه مساره.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1864 - السبت 13 أكتوبر 2007م الموافق 01 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً