العدد 1869 - الخميس 18 أكتوبر 2007م الموافق 06 شوال 1428هـ

ثم تبت... ولكن!

هي طريق التائبين... وبلسم المذنبين... وممحاة الخطايا والذنوب... كما يمحو الطالب أخطاءه بالممحاة، هكذا يسمونها الناس! طرقت الباب فلم أحسن الدخول عندما جاءتني الفرصة على طبق من ذهب!

حين غفوت قليلا في إحدى الليالي الحمراء مع شلتي ومعي ابي وأنا أقبل يده وأبكي على حالي وأصرخ عاليا (أبي ... أبي) وهو يمسح على رأسي ويقول لي يا قرة عيني (تب إلى الله)! فجأة صحوت مذعورا من غفوتي لأتفاجأ أنني كنت في حلم وأصبحت عند الشلة أضحوكه السهرة، والسبب أنني كنت أستنجد بأبي عاليا!

لكن تمردي على الله وانصياعي لرفقاء السوء فوت الفرصة علي ودفعوني ثمنا باهظا وأوقعوني في شباك الشيطان، زرت غالبية السجون والعيادات النفسية وصرت معروفا لديهم، أو قل نزيلا لديهم حتى ملو مني!

عباراته ترن على مسامعي كرنات العقرب في الساعة، في كل مرة تجرعت كأس الذل والمنكر أو شممت رائحة الحرام!

مازلت أتذكره لأنه الوحيد الذي وقف معي في محنتي، وكان دائما يحثني على العودة إلى الله وعدم عصيانه، إلى أن عجز ويأس من مواقفي فطردني من قلبه، وتخلى عني كما تخلى عني أقاربي وتركوني هائما مع شلة الأنس أقصد (الضلال) في العالم المجهول المظلم الذي لا يعرف اوله ولا آخره!

كنت موضع ثقة أبي وأدير أعماله التجارية وشئونه الخاصة ويتطلب عملي السفر لحضور الاجتماعات والندوات العالمية، إلى أن جاءتني دعوة الشيطان لمقابلة مندوبي الشياطين لحضور الاجتماع السنوي مع الشركات التجارية الكبرى... فلبيت الدعوة وتبادلنا الهدايا التذكارية معهم وهنا بدأت المصيبة!

صرت أكثر من السفر، وبالذات إلى هذا البلد العجيب، وأعيش أحلى أيامي فيه، ولكن في غفلة عن أمر ربي، منغمسا في الملذات التي لا توصف، تاركا عملي وراء ظهري، إلى ان جاءتني مكالمة ملك الموت في الساعات الأخيرة من الفجر الكاذب، لتزف لي نبأ وفاة والدي، وأنا في ساعتها في عالم آخر أندب حالي خاسرا جميع أموالي من طاولة القماراللعينة، وأوشك ان أعرض نفسي للبيع، ثمن تذكرة العودة إلى الوطن!

هذه السلوكيات الخاطئة التي قلبت حياتي رأسا على عقب، لا أتمنى لغيري من الشباب أن يقع فيها. عدت إلى وطني مغموما على رحيل والدي، وحزينا على فقدان تجارتي، وكئيبا على إفلاسي، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش على بساط الفقر!

طرقت أبواب أصدقائي ورفقاء دربي بابا بابا للمساعدة، ولكنهم أوصدوها، بل أقفلوها في وجهي! بل ووجهوا إلي رسالة شديدة اللهجة (الصديق ليس وقت الضيق)!

عدت من جديد فطرقت باب النجاة من الحياة المنكوبة... باب (التوبة) ثانية، وقبل فوات الفرص، لعلي أجد حلا لنفسي المرهونة أو اقلع عن هذه اللعبة السيئة (لعبة القمار) التي أحرقت الأخضر واليابس ولكن (لو ناديت حيا لأسمعت ميتا)! صحت بأعلى صوتي ناحية هلال رمضان... في الفضاء الفسيح الملوث بدخان الأرجيلة (الشيشة) المنبعث من أفواه الشبان المتسمرين العاطلين المنشغلين في لعبة الشيطان (القمار) حتى الفجر، في القهوه القريبة من حارتنا طالبا: فرصة أخرى أصحح بها حياتي!

أو قرضا حسنا على حسابي، وأي حساب هذا الذي بقي لي؟! إن حسابي خاو من الحسنات ومملوء بالسيئات فمن يقرضني؟!

وأي وجه هذا الذي بقي لي أواجه به ربي !(وجوه كره الله لقاءها)، وإن وجهي الجميل الذي طالما تباهى به والدي صار كوجه الغراب القبيح الذي يسرق ويأكل الحرام! هذا لأنني لم أحسن دخول الباب، يا رب (فما عذر من لم يحسن دخوله)؟!

حتى صرت أتسول في الطرقات وعند أبواب المجمعات التجارية، ولن أنسى ذلك الموقف الذي كان مفتاح الباب الذي انفتح لي ثانية واقشعر له بدني ورأسي!

أبي ... أبي ... أنظر ذلك سمير الذي كنت تعمل معه يا أبي!

قالها احد أولاد المدير العام للشركة الذي كان يعمل معنا عندما شاهدني. جاء وسلم علي ويا ليته لم يفعل إذ رماني بصدقة الذل والإهانة كأنني متسول فعلا، ثم انبرى لي ووجه إلي سهمه القاتل قائلا: هل تعرف أن غدا هو عيد الفطرالسعيد؟! واي عيد هذا وأنا لم أصم الشهر ولا أعرف في أي يوم نحن؟!

وقع الخبر علي كوقع المطرقة على رأسي لأنه يعرف أنني لا أصوم ولا اصلي! يا ويلتاه ويا مصيبتاه! ماذا فعلت بحالي؟، نعم حالي هذا الذي سلمته للشياطين وعبدة القمار، الله سيحاسبني غدا عليه وعن كل شيء فعلته، وخصوصا أن غدا هو يوم العيد، يعني أننا في آخر يوم من ايام الفرص والعروض في هذا الشهر الفضيل.

كم كانت اسرتي تعد له وتحسب له ألف حساب في مثل هذا اليوم. والدي كان يعظمه ويسهر حتى الفجر يتلو قرآنه ويستغفر من ذنوبه ويسبح خالقه ثم يشرف بنفسه على اطعام الفقراء ويكسو المحتاجين، وأنا محمولا بين أكتافه يباهي بي أمامهم وأشاهد منظر البؤس واليتم على وجوه الأطفال وهو يدللني كما تدلل الأم طفلها الرضيع!

واليوم انظر يا أبي إلى حال ابنك المدلل! ماذا فعل به أصدقاء السوء؟! انظر إليه وهو يعتاش على التسول أمام أعين القريب والبعيد، ويفترش الأزقة!

قطرات كثيرة من دموعي انهالت على وجهي بكاء على حالي، تلتها غمامة بيضاء سترت عيني، تمنيتها دموع التوبة والعودة إلى الله... ولكن؟! لا تبكي يا أخي ...لا تبكي وانظر إلى المستقبل!

رفعت رأسي وإذ بأحد الشبان، كأنني أعرفه من قبل، إذ رماني وهو مسرعا بورقة بيضاء والحمد لله لم يعرفني! وكيف يعرفني وشكلي اصبح مثل المدمنين، بلباس رثة وجثة هشة لم تذق الماء منذ اسبوع!

فتحت الورقة وإذا فيها دعوة لحضور (إفطار الصائمين) في آخر يوم من شهر التوبة والغفران، ولكن بعد فوات الأوان!

شياطين الفسق ألحوا علي بعدم الذهاب، ولكنني جمعت قواي وذهبت ذلك المجلس الذي امتلأ بالفقراء والأيتام وصرت بينهم كالطائر مكسورالجناحين! لست صائما حتى يحل لي الإفطار، ولست فقيرا حتى توجب لي الصدقة!

لحظات مرت بعد حفلة الإفطار، وإذا بي أسمع صوتا من خلفي يناديني، التفت فعلا وإذا هو احد المشايخ كأنه يود التعرف علي وعلى مشكلتي!

وفجأة!

نظر إلي مرارا وتكرارا نظرات تأمل وريبة، وأظنه عرفني ولكنه خائف من أن اكون أنا هو نجل الوجيه (ابو سمير). حاول أن ينطق باسمي إلا أن عبرته ودموعه سبقت كلمته التي نطقها أخيرا بصعوبة: انت سمير؟! نعم، أنا سمير!

يا الله... إنا إلى الله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهنا سارع وضمني إليه وهو ينتحب ويقول من فعل فيك هذه الحال؟!

لكنني سبقته لأسأله ومن تكون أنت! فرد» انا الفقير إلى الله والمحبوب لدى أبيك رحمه الله الذي كان يطعمني ويكسوني. أنا الذي يجلسني أبوك بقربك ويطعمني من طبقك!

أنت قاسم؟!

- نعم، أنا قاسم. وكما تراني أنعم الله علي من رزقه الحلال وزيني من علمه وألبسني عمامة الإسلام وفتح قلبي على هدايته، فعدت أرد الدّين للفقراء والمساكين... ثم أراد ان يسألني فبادرته بالجواب: أما أنا فلا تسألني عن حالي! إذ بلغت الذنوب مبلغها، أما المرض فراح يسري في جسمي كما يسري الدم في عروقي!

وأي مرض يا سمير؟!

فلم أجبه!

سألتك بالله عليك أي مرض هذا يا سمير؟!

فلم أجب!

ماذا تريدني أن اخبرك؟! عن أموال أبي التي بددتها! ام عن صحتي التي لعبت بها! أم عن أسرتي التي شتتها! ام عن اسمي الذي صار ماركة معروفة لدى المستشفيات ومراكز الأمن! وما خفي كان أعظم! ففهم أنه هو المرض.

يا الله... عشر سنوات مضت قلبت حياتي رأسا على عقب! أين كنت يا شيخ طوال هذه المدة، كي تدعونني اليوم إلى إفطار صائم، وتجمعني مع الفقراء والأيتام بعد أن أصبحت حياتي على كف عفريت، وآخرتي تحولت إلى جحيم؟!

أخيرا نطق دهرا بعد أن صمت شهرا، وقال اعذرني يا سمير، إنني كنت مشغولا في دراستي!

أعذرك؟! وأين أضع هذا الاعتذار؟ في جيبي الخاوي ام في قلبي الهاوي أم في عمري الفاني؟!

في التو... الآن أو الليلة أو قبل أن تغادر مجلسي؟! رد علي، نعم باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لكل المذنبين كما قال سيدنا محمد (ص) من تاب في سنة أو شهر أو جمعة (أي اسبوع) أو حتى قبل أن يلقاه ملك الموت قبل الله توبته!

تب يا سمير فالله يحب التوابين.

فتركته ومشيت حاملا نفسي المهمومة، وقلبي المغموم، ومرضي المجهول، ومشيت إلى الطريق المسدود، وهو يناديني (عد يا سمير فالطريق ليس من هنا!عد يا سمير! التائب من الذنب كمن لا ذنب)!

فرددت عليه بلغتي البسيطة اليائسة: (يا شيخ التوبة ليست شربة ماء! التوبة ليست شربة ماء)!

مهدي خليل

العدد 1869 - الخميس 18 أكتوبر 2007م الموافق 06 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً