العدد 1879 - الأحد 28 أكتوبر 2007م الموافق 16 شوال 1428هـ

ما لـم يقلـه مَالِكٌ فـي الخــمر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أقيمت يوم الأحد من الأسبوع الماضي مراسم حفل توديع الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني (المستقيل) وتقديم الأمين العام الجديد للمجلس سعيد جليلي الذي تسلم مهمات عمله رسميا بُعيد المراسم مباشرة. على المستوى الداخلي، إن استقالة لاريجاني واحدة من أهم الحوادث الدراماتيكية التي واجهتها حكومة التعميريين برئاسة أحمدي نجاد منذ مجيئها في أغسطس/ آب 2005، كما أنها الاستقالة «الأهم» من بين الاستقالات - أو الإقالات - السّبع لمسئولين تنفيذيين تكبّدتها الحكومة منذ سنتين، وهم رئيس البنك المركزي إبراهيم شيباني ووزراء التعاونيات محمد ناظمي أردكاني، والصناعة والمعادن علي رضا طماسبي والنفط وزيري هامانه والشئون الاجتماعية برويز كاظمي ونائب الرئيس ورئيس منظمة التخطيط والموازنة فرهاد رهبر.

عندما تسأل عن علي أردشير لاريجاني الآملي، فإن الإجابة حتما ستكون مُركّبة. فهو شخصية أكاديمية سياسية دينية متعددة الأبعاد، فأبوه المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الميرزا هاشم المازندراني الآملي أحد كبار المراجع في حوزتي النجف الأشرف وقم المقدّسة، وأحد المداميك الفقهية التي ناهضت الشاه ودعّمت الثورة الإسلامية منذ انطلاقتها، وثبّتت مُرشدية آية الله السيدعلي خامنئي بُعيد وفاة الإمام الخميني في العام 1989. إخوانه الثلاثة جواد، صادق وعباس من أهم الشخصيات الإيرانية التي لعبت وتلعب أدورا مهمّة في سوح النظام السياسي والحركة الفكرية والحوزوية، وعلي لاريجاني أيضا صهرٌ لمُنظّر الثورة الثاني الفيلسوف الشيخ مرتضى مطهري.

الرجل لا يُذكر في إيران على أنه يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة بقدر ما يُذكر على أنه أحد مُؤسسي قوات حرس الثورة الإسلامية (الباسدران) ومُنهّض الإعلام الإيراني منذ تسلّمه رئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في العام 1981 فوزيرا للثقافة والإرشاد الإسلامي في العام 1991 فرئيسا لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون مرة أخرى في العام 1994 حتى العام 2004 عندما عُيّن ممثلا للمرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ثم مرشحا لانتخابات الرئاسة التاسعة عن مجلس تنسيق قوى الثورة اليميني المحافظ والتي حلّ فيها سادسا بحصوله على 5.94 في المئة من الأصوات.

ولأنه يحظى بفرادة إدارية واسعة وبقرب شديد من السيدخامنئي فقد أهّله ذلك لأن يُصبح أمينا عاما للمجلس الأعلى للأمن القومي الذي يترأسه أحمدي نجاد بصفته رئيسا للجمهورية، وعضوا في مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يترأسه الشيخ هاشمي رفسنجاني.

وقد عَرَفته الدبلوماسية الإيرانية قبل فترة بأنه من سوّى مُشكلة البحارة البريطانيين في أبريل/ نيسان الماضي بعد مباحثات شاقّة وذكيّة خلف الستار مع المستشار السياسي لرئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، نايغل شينوالد، ومُفوضا من المُرشد لإجراء مباحثات سياسية/ أمنية مع الرياض بشأن الملف اللبناني.

من يريد أن يقرأ أداء لاريجاني فسيقف أمام قدرته على تسيير دفة التفاوض النووي بجولات صعبة، وكان قادرا خلالها على أن يُدرك دفوع خصمه ونواياه، وكيفية فرض مطالب ومناورات تتساوق مع السياسات الإيرانية الإقليمية والدولية الساعية إلى جني الأرباح وتسجيل النقاط، ثم الوصول مع خصمه إلى نقطة نظام حسّاسة تستوي على مساحتها الضّيقة المصالح القومية لبلاده ومتطلبات الطرف الآخر.

بعد تعثر المفاوضات بين طهران والترويكا الأوروبية في فبراير/ شباط الماضي بمدينة ميونيخ الألمانية استطاع إعادتها بلا خسائر بعد شهرين فقط من منطقة محايدة وهي العاصمة التركية (أنقرة) عبر جولات أربع من المباحثات الشّاقّة مع منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي خافيير سولانا واستطالتها بعصر آخر قطرات الوقت واستبعاد التحيينات فيها، إلى أن حُيِّدت المساعي الغربية لإلحاق القرارين الدوليين 1737 و1747 بقرار أممي جديد، واستطاع بعد ذلك النأي بالوكالة الدولية للطاقة الذرية عن دائرة النفوذ الأورو/ أميركي وأن ينفرد معها باتفاق «تفسير النقاط المُبهمة» حتى نهاية نوفمبر/ تشرين الأول المقبل وتسوية قضية البلوتونيوم في محادثاته خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي؛ ما أحرج الترويكا الأوروبية وواشنطن.

لاريجاني شخصية ذات حظوة عالية داخل النظام السياسي أهّلته لأن يكون رقيبا ومُقررا ومسئولا في الكثير من قضايا الدولة ومستشارا لرجالاتها الأُوَل، وعلى مدى 28 عاما من عمر الثورة استطاع أن يُكوِّن لنفسه مناعة تعينه على استيعاب أية ضربات سياسية موجعة، فعندما كان وزيرا للثقافة والإرشاد الإسلامي خلال حكومة الإعمار الأولى برئاسة رفسنجاني في العام 1991 كان له مماحكات مكتومة مع اليسار الديني الراديكالي برئاسة مهدي كروبي الذي كان مُسيطرا على البرلمان الثالث إلاّ أنه حرص على أن تكون خلافاته معهم حبيسة الغرف المغلقة، وعندما أصبح رئيسا لهيئة الإذاعة والتلفزيون كان له صراع غير مُعلن مع الإصلاحيين المتطرفين من جبهة المشاركة على مدى 8 أعوام تقريبا، إلاّ أنه لم يكن ليرضى أن تظهر ملامح ذلك الصراع على قَسَمَات النظام الذي ينتمي إليه، حتى هذه المرة التي دخل فيها خصما مع اليمين المحافظ الراديكالي في المجلس الأعلى للأمن القومي لم يكن ليقبل أن تُفسّر أو تُجيّر استقالته لصالح أطراف هدفها الإضرار بسمعة النظام الإسلامي؛ لذلك صرّح من العاصمة الإيطالية (روما) الثلثاء الماضي بأن «وسائل الإعلام الغربية تجهل أساليب اتخاذ القرارات في إيران؛ لأن غالبية القرارات تتخذ على مستوى المجلس الأعلى للأمن القومي (18 صوتا) وتحظى بموافقة قائد الثورة الإسلامية؛ لذلك سياسات إيران النووية مستقرة ولا تتغير بتغيير أمين المجلس الأعلى حتى بتغيير رئيس الجمهورية؛ لأن أسس هذه الموضوعات تصاغ وفقا للدستور».

القريبون من الرجل يُعلمون أن الهيئة الأمنية الخاصة في مكتب خامنئي - والتي تُعتبر الحلقة الأضيق التي من خلالها يُطبخ القرار النووي الأخير وتتم بلورته والتصديق عليه - كان لاريجاني أحد أهم الأشخاص الذي يعملون فيها بالإضافة إلى عمله أمينا عاما للمجلس الأعلى للأمن القومي، وهو ما أهّله لأن يُدير المفاوضات النووية بشكل مركّب تتمازج فيه المتطلبات السياسية والتقنية والأمنية، واستطاع من خلالها إفشال الكثير من محاولات الاختراق التي أبرزها ما أعلنته العميلة السابقة بالمخابرات الأميركية فاليري بليم التي اعترفت في مقابلة مع قناة «سي إن إن» الإخبارية أنها كانت ضالعة في مهمة أطلق عليها اسم «عمليات مارلين» هدفها بيع أو تسليم تصاميم مزوّرة عن صنع قنابلَ ذرية إلى إيران بغرض اتهامها بمتابعة برنامج نووي عسكري.

في التعاطي مع الإعلام كان لاريجاني من أبرع المتعاملين مع الصورة التي عادة ما كان يظهر فيها جادا وبأسمال وجهٍ مطلي بالدهاء، وكلمات لا تأخذ منها أكثر مما تأخذه من سياسة بلاده الخارجية المتماسكة والمُحيّرة. وقد عَرَفته وكالات الأنباء بتصريحات ساخرة ومتكررة ولكنها لافتة حين شبّه العرض الأوروبي لبلاده في يونيو/ حزيران 2006 بأنه بمثابة قطعة الحلوى الأوروبية المُقايِضَة لمسكوكة الذهب الإيرانية، وفي تصريح آخر حذّر الولايات المتحدة الأميركية من أنها ستتسلّم الكيان الصهيوني على كُرسي مُتحرك إذا قامت بهجوم عسكري ضد إيران.

قرار استقالة لاريجاني قد أفهمه ضمن سياق إرهاصات مُعقّدة تعود إلى ما قبل انتخابات الرئاسة التاسعة التي فاز فيها نجاد، وهي القشّة التي قصمت ظهر البعير حين أبقت الباب مفتوحا أمام تشظٍّ أوسعَ في صفوف اليمين المحافظ وانقسامه العمودي إلى يمين تقليدي تنتمي إليه غالبية شخصيات التيار المحافظ من روحانيت مبارز وجمعية المهندسين وغيرها من التلوينات اليمينية، ويمين راديكالي بدأ التشكّل منذ العام 2003 يقوده تكتّل رواد إعمار إيران الإسلامية الذي يغلب على أعضائه الشباب التكنوقراط ويتّسم بالتشدد السياسي الفاقع، وهو التكتّل ذاته الذي أوصل أحمدي نجاد إلى الرئاسة.

قبل أيام صرّح رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي علاء الدين بروجردي بأن النشاطات النووية لإيران تُرْسَم من قِبل المرشد وأن توجيهاته هي كلمة الفصل في هذا الشأن، وأن المجلس الأعلى للأمن القومي هو الذي ينفذ هذه السياسات، ويتعيّن على المنفّذ أن تكون لديه قدرة تفعيل هذه السياسات، واصفا إجراءات لاريجاني بأنها كانت متميزة وذكية، وأداءه لامعا في كل المناصب التي شغلها. وأيضا ما قاله عضو الهيئة الرئاسية في البرلمان الإيراني حميد رضا حاجي بابائي إن «لاريجاني كان شخصية قوية وبارزة في تاريخ الثورة، ومديرا له دور حاسم في القضية النووية، ونأمل في أن يتابع من يتولى هذه المهمة بعده العمل بالقوة والإدارة الفاعلة ذاتهما». إلاّ أن التصريح الأبرز كان لرسالة المئتي نائب بالبرلمان الداعمة لاريجاني وحديث مستشار المرشد الأعلى للشئون الدولية علي أكبر ولايتي الذي قال: «في هذا الوضع المهم والحساس الذي تشهده المسألة النووية كان من الأفضل ألاّ تحدث هذه الاستقالة أو على الأقل منع حدوثها»، وهي كلها تصريحات تعكس استياء التيار المحافظ التقليدي من دفوع هذه الاستقالة لشخص محسوب عليهم.

بطبيعة الحال، ليس لأحد الحق في الحُكم على الأمين العام الجديد للمجلس سعيد جليلي الذي لم يُباشر سوى قبل أسبوع تقريبا، فالرجل الذي يجيد التحدث باللغتين العربية والإنجليزية تولّى مناصبَ دبلوماسية عدة منذ العام 1989 بصفة ملحق سياسي ورئيس دائرة التفتيش وسكرتير سفارة، ومساعد رئيس دائرة أميركا الشمالية والوسطى، والمدير العام لمكتب المرشد الأعلى، ومستشار رئيس الجمهورية، ومساعد وزير الخارجية للشئون الأوروبية والأميركية، وهو أيضا أستاذ جامعي. وإذا كان هناك اختبار حقيقي للرجل فهو لقاؤه نائب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية أولي هاينونن اليوم (الإثنين) للتفاوض بشأن أجهزة الطرد المركزي بي 1 وبي 2، والذي يأتي استمرارا للاجتماع الذي تمّ الثلثاء الماضي بين الأمينين السابق والجديد للمجلس الأعلى للأمن القومي (لاريجاني وجليلي) مع سولانا. وسيكون أمام جليلي اختبارات صعبة ومُعقّدة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والترويكا الأوروبية لتسوية إشكالات مصدر التلوث ووثيقة اليورانيوم المعدني والبلوتونيوم 210 ومنجم كجين للانتهاء كُليا من حلحلة المحاور النووية الستة بين إيران والوكالة الدولية وبالتالي إغلاق الملف نهائيا، وإرجاعه من مجلس الأمن الدولي الذي أحيل إليه قبل 18 شهرا.

وعلى رغم أن استقالة لاريجاني كانت لأسباب شخصية ورغبته في القيام بأنشطة سياسية أخرى في نظام الجمهورية الإسلامية ولا تعني تغييرا في السياسة أو مشاروعات طهران حسب ما أعلن المتحدث باسم الحكومة، فإنها تعطي مؤشرات للعلاقات اليمينية - اليمينية، وتوجهات حكومة الرئيس أحمدي نجاد التي باتت تتجّه في نصف عمرها المتبقي إلى العمل التنفيذي «التعميري» الخالص.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1879 - الأحد 28 أكتوبر 2007م الموافق 16 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً