العدد 1880 - الإثنين 29 أكتوبر 2007م الموافق 17 شوال 1428هـ

مسلم بحسب المقاسات الأميركية!

محمد علي الهرفي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يبدو أن كل شيء أصبح خاضعا للتفصيل، ليست الملابس وحدها بل القوانين والشرائع والأديان، والقوي هو الذي يتحكم في نوعية المقاسات وأشكالها وتحديد النافع منها والضار.

مفصِّلو القوانين - الذين يطلق عليهم إخواننا المصريون «ترزية القوانين» - موجودون في عالمنا العربي وتنحصر مهمتهم في تفصيل القوانين بحسب مقاسات الحكام ورغباتهم، فالحاكم الذي يريد أن يبقى حاكما مدى الحياة يجد في قوانينهم ما يؤيد رغبته ويكفيهم القول إن رغبة الشعب الكريم في ألا يزول هذا الحاكم عن رقابهم مدى الحياة لحبهم له، ليكون هناك قانون يحقق رغبة الشعب الطيب فالحاكم «الصالح» لا يستطيع مخالفة رغبة شعبه.

وإذا أراد الحاكم أن يخلفه ابنه فالمسألة سهلة ميسورة، وورقة الشعب هي التي تحقق مراده، واللعب بورقة الديمقراطية من أسهل الأشياء، وكلمة الشعب هي الحكم الفصل في هذه المسائل!

أما إذا كان القانون لا يسمح بجعل «أحدهم» حاكما لصغر سنه أو مذهبه فالأمر سهل أيضا فترزية القوانين ماهرون في مثل هذه الأمور وكل شيء قابل للتعديل بحسب القانون أيضا!

أما موضوع قوانين الانتخابات فأمرها معروف ومحسوم لصالح القوي ونتيجة الانتخاب يجب أن تكون لصالح الحكم وأصحابه بنسب مرتفعة بحسب القوانين أيضا.

أما إذا أعلن الحاكم «الصالح» أنه ملّ الحكم وأنه يريد أن يترك لشعبه الكريم حرية اختيار البديل بملء إرادته فسيجد الأيادي ترتفع بالدعاء له على صلاحه وحبه لرعيته، وتعبيرا من الرعية عن حبها لحاكمها «الصالح» فستخرج في مظاهرات عارمة تطالبه - وعيونها باكية - بأن يتراجع عن قراره فمصلحة الشعب لا يمكن أن تتحقق وهو بعيد عنها. وعندما يشاهد الحاكم هذه الجموع وتوسلاتها تأخذه بهم الشفقة والرحمة ويضطر إلى الاستجابة لتوسلاتهم ونداءاتهم، والبقية - بطبيعة الحال - ستكون على أيدي بعض الممثلين من صانعي القوانين ليحقق الحاكم الطيب فوزا ساحقا يتناسب مع طبيعة قلبه وحبه الشديد لشعبه!

أقول: هذه المشاهد الهزلية ألفناها في بعض بلادنا العربية وكنا نعتقد أن هذا الصنف من «الخياطين» قاصر على مجتمعاتنا ولكننا وجدنا أن بعض الأميركان بدأ ينافس بقوة في هذا الاتجاه حتى وصل بهم الأمر إلى تفصيل مواصفات للمسلم المعتدل الذي يفضّل التعامل معه وتشجيع الآخرين على العمل مثله!

مؤسسة راند الأميركية - وهي مؤسسة بحثية نشطت حديثا في عالمنا العربي ولها دعم قوي من الحكومة الأميركية - أصدرت تقريرين متتابعين أحدهما بعنوان «إسلام ديمقراطي ومتمدن» والآخر «مقاييس المسلم المعتدل»، وقد وضعت هذه الدراسة مجموعة مقاييس يجب أن تنطبق على ذلك «المسلم» ليكون معتدلا!

من هذه المعايير تشجيع الديمقراطية وحقوق الإنسان المعترف بها دوليا... ومنها: احترام التنوع السياسي والديني والثقافي، وكذلك القبول بمصدر للقوانين غير قائم على الطائفية، ومنها كذلك معارضة الإرهاب وأي شكل من أشكال العنف.

هذه المعايير يمكن قبولها عموما من دون الدخول في أي تفاصيل، فالمسلم المعتدل يحب الديمقراطية ويرى أهمية حقوق الإنسان، ولا يعارض التنوع السياسي والديني، والإسلام لا يقوم على الطائفية وهو - أيضا - يعارض الإرهاب والعنف. فإذا كانت المسألة هكذا في عمومها، وإذا كان واضعو التقرير يعرفون هذا جيدا فما الجديد الذي يبحثون عنه مادام المسلمون كلهم معتدلين بالجملة بحسب قوانينهم؟

هنا سنلجأ إلى «الشيطان» الذي لا يظهر إلا في التفاصيل لنحاول معرفة ما يريده القوم قبل أن تصبح إرادتهم قانونا ملزما بحكم سيطرة بلادهم ونفوذها.

أميركا لا تشجع الديمقراطية الحقة وقد بدا هذا واضحا في الانتخابات الفلسطينية وكان موقفهم منها مخزيا فهم لم يقفوا عند رفض حكومة «حماس» وإنما حاصروها هم وأعوانهم حتى أسقطوها، وقبل ذلك فعلوها - مع فارق بسيط - مع حكومة عباس مدني في الجزائر، وهذا يوضح بجلاء أنهم يبحثون عن ديمقراطية ذات طبيعة خاصة تتفق مع مصالحهم، فالديمقراطية التي تخضع لهم هي التي يعترفون بها وما عداها يسلطون عليها سلاحهم. وهنا يجب أن يكون كل مسلم «معتدل» ماشيا في ركب الرغبات الأميركية وإلا نُزِع عنه الاعتدال.

أما حقوق الإنسان فلها في قاموسهم معانٍ لا يتفق معهم عليها أحد. فهذه الحقوق تُنتَهَك في فلسطين والعراق وأفغانستان وسواها ما تصل أيديهم إليه. حقوق الإنسان انتهكها الأميركان كما لم ينتهكها أحد في العالم كله، ويكفي ما حصل في سجونهم المرعبة في «غوانتنامو» و «أبوغريب» وكذلك سجونهم السرية التي لم تعد سرية حيث يعذب الإنسان وتنتهك كرامته بصورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.

وأسوأ من سجونهم قتلهم عشرات الآلاف في العراق واستخدامهم كل الأسلحة المحرّمة في قتل البشر، فإذا كان بعض ما يفعلون فعن أي حقوق يتحدثون؟

الواضح أنهم يتحدثون عن حقوق «الإنسان» الذي يحقق مصالحهم، وعن حقوق الصهاينة الذين لا يختلفون عنهم، وإلا فالمسلم «المعتدل» لا يفعل أي شيء مما يفعلونه فكيف يتحدثون عن إسلام معتدل مع كل تناقضاتهم؟

لعل هذا يفسر حديثهم عن «الإرهاب» فمعظم العقلاء في العالم وقفوا ضد إرهابهم في العراق، وهم يمارسون «الإرهاب» على العراق وسواه فلماذا جعلوا معارضة «الإرهاب» واحدة من صفات مسلمهم «المعتدل»؟

أيضا، بوضوح يريدون من «مسلمهم» ألا يعارض الإرهاب الصهيوني على فلسطين، ولا إرهابهم على العراق أو أفغانستان، ومن عارض هذا الإرهاب أو قاومه فليس بمعتدل وعليه أن يراجع إسلامه ويتأكد من قوانينهم ليعود معتدلا من جديد!

وإذا كان الإسلام يقبل التعددية الدينية، وفي البلاد العربية أديان غير الإسلام منذ مئات السنين مع أن الإسلام هو الذي يحكم هذه البلاد، فما جدوى جعل مثل هذا القبول من صفات الاعتدال الإسلامي؟

الشيطان - كما يقولون - يكمن في التفاصيل إذ ليست التعددية هي العلة بل المسألة أكبر من ذلك بكثير، فالمطلوب أن يكون المجتمع المسلم على غرار المجتمعات الغربية، يقبل الشذوذ الجنسي، وزواج المثليين، وسائر العلاقات المحرمة، كما أن عليه ألا يطبق كل العقوبات الجزائية مثل أحكام المرتد والزنا والسرقة وسواها؛ لأن تطبيقها يتنافى مع مواصفات الاعتدال التي يحبونها في المجتمع المسلم.

حتى نفهم مقاصدهم بدقة فعلينا أن نتأمل بعض الأسماء التي ذكروها وجعلوها قدوة لكل مسلم يحب أن يكون معتدلا، فمن هذه الأسماء نصر حامد أبوزيد وتسنيمة نسرين» وآمنة داوود.

الأميركان - حكومة وشعبا - حريصون علينا كل الحرص فهم يرسلون جيوشهم إلى بلادنا ليجعلوا منا ديمقراطيين، ويرسلون خبراءهم ليجعلونا مسلمين معتدلين ومع هذا كله يأتي بعضنا ليشكك في نواياهم، أيليق هذا بالمسلمين المعتدلين؟

على أية حال، إما أن نكون مسلمين حقا وإما أن أحبتنا الأميركان سيفعلون كل شيء ليجعلونا مسلمين بحسب مصالحهم. علينا أن نختار قبل أن يزول وقت الاختيار.

إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"

العدد 1880 - الإثنين 29 أكتوبر 2007م الموافق 17 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً