العدد 1907 - الأحد 25 نوفمبر 2007م الموافق 15 ذي القعدة 1428هـ

ضبط العدوان

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

ملكة من أصعب الملكات، ومهارة تعلو على كل المهارات، لأنها تعامل مع النفس حين تجمح وحين تغضب وحين تحتقن أوداج الجسد، وخصوصا حين يكون الإنسان مقتدرا على العدوان، غير خائف من تبعاته، آمنا من ردود الفعل المحتملة بسببه.

يمكننا ملاحظة العدوان جليا حال الاقتدار والغضب والأمن من ردود الفعل، أو الشعور بضعف الجهة المقابلة في الكثير من التعاملات الزوجية والأسرية، حين «يتفرعن» الرجل على زوجته فيضربها ويهينها ويحقرها ويطردها، وحين يبطش الأب بأولاده الصغار من دون رحمة أو شفقة، فيمعن في أذاهم وإذلالهم، إذ توفر طبيعة العلاقة والظروف الاجتماعية المساعدة للزوج والأب قدرا كبيرا من الضعف في الطرف الآخر، وأمانا من ردود الفعل الناقمة (عادة)، وينعدم الرقيب والمحاسب (إلا الله سبحانه وتعالى).

وكذلك يمكن ملاحظة العدوان وتوقعه من أصحاب السلطة والنفوذ والزعامة في أي موقع مكين كانوا، ولذلك جاءت التوجيهات الدينية لتنبيه أمثالهم على العدل والمغفرة والتجاوز والمسامحة... كل ذلك من أجل ألا يفعِّل الإنسان قدراته وما بين يديه من وسائل وسلطات وإمكانات في اتجاهات تضر بمن حوله.

لقد رسم الله سبحانه بأوامره ونواهيه ضمن هذا السياق مكانة سيئة للمعتدين فأخرجهم من دائرة حبه وأبعدهم عنه بقوله «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (المائدة: 87)، ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور العبد خارجا عن دائرة الحب الإلهي، أين سيكون؟ وأي سعادة سيجني؟ إنه في أغلب الظن سينتقل من انتقام إلى آخر ومن ظلم إلى أشد، حتى يرى متعته الكاذبة في عذاب من حوله وأذاهم.

لقد قرأت عن تشرشل (وهو من قادة الحرب العالمية الثانية) أنه لا يقضي لحظاته الغرامية مع عشيقاته إلا بعد أن يسلمهن سوطا من السياط القوية التي تستخدم لضرب البغال والخيول، ويطلب منهن (بعد أن يتجرد من ملابسه) جلده بكل ما أوتين من قوة، وهي الحال التي يطلق عليها العلماء الماسوشية (التلذذ بتعذيب الذات)، وقرأت كيف أن المصابين بالسادية (التمتع بتعذيب الآخرين) لا يستمتعون جنسيا إلا بعد ضرب وتعذيب شريكتهم وسماع صراخها وألمها.

كنت أقرأ ذلك وأنا بين مصدق ومكذب حتى تفاجأت بإحدى الزوجات تشكو لزوجتي بعد أن رزقها الله خمسة أولاد، أن زوجها قد عودها بعد شهرين من زواجهما ألا يأتيها حتى يبصق في وجهها ويمطرها بسيل من الكلمات الجارحة التي تبكيها وتحزنها وتجعلها في وضع نفسي وجسدي غير مهيأ. سيكون صعبا عليك أيها القارئ أن تصدق أن رجلا يترك عائلته بلا تسوق ولا أكل إلا الخبز وبعض الجبن، بينما يأكل هو في ديوانيات أصدقائه أطيب الأكل وألذه، ويستمر ذلك لأكثر من شهرين عقابا لهم لأنهم خرجوا من المنزل من دون إذنه، فاختار هذا الأسلوب لتأديبهم، ولم يُكتشف واقع الحال إلا حين وقعت ابنته في المدرسة، وعرف الأطباء أن سوء التغذية هو سبب ذلك.

قصص كثيرة من ظلم الأزواج لا تنتهي ولا تتوقف، تبدأ بالإهانة والتجويع وقلة الإنفاق وتصل إلى التجريح والضرب والطرد من دون شفقة أو رحمة حتى على المرأة التي لا والدين ولا إخوة لها.

لقد صدمني أن يكون بيننا نحن الذين نصلي ونصوم ونقرأ القرآن من هم في هذا الدرك من الخسة والدناءة والقسوة، والذين يستمتعون ويأنسون بآلام الآخرين.

الكثير من القصص الأسرية والاجتماعية تحرك في داخلي أسئلة كثيرة قد تجعلني حائرا في تحصيل جوابها؛ كيف يمكن للمسالَمة أن تكون بديلا عن العدوان في أوضاع الإنسان الطبيعية؟ وكيف يمكن أن تكون المسالمة قرار الإنسان الشجاع حين الغضب والانفعال، في شئونه الأسرية الخاصة وشئونه الاجتماعية العامة، كما جاء في تعاليم الدين وتوجيهاته (الشجاع من يملك نفسه عند الغضب)؟ وكيف نتعود أن نتحف من يعتدي علينا (من أسرنا ومن مجتمعنا بل كل إنسان) بالإحسان وطيب الخاطر كبديل عن التشنج وردود الفعل العنيفة وغير المحسوبة؟

لقد اعتقدنا أن تعاليم ديننا وأخلاقياته ليست مؤهلة في زمان القوة والعنف ورد الصاع صاعين أن تحقق لنا مكسبا ومكانة وقوة واحتراما، فتركنا «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34)، وانسقنا مخدوعين وراء ثقافة العصر لنؤكد «الأنا» سواء كبرت أم صغرت، فبدأنا نعزز رجولتنا في أسرنا ومجتمعنا بنظريات الرد والمواجهة والمجابهة، وهكذا وجدنا أسرا بكاملها تنهار على هذه الخلفية، وصداقات اجتماعية تتصدع.

الصورة أصبحت باهتة للكثير من القصص التي نقرؤها عن قادتنا وقدواتنا في تعاملهم وأخلاقهم وعفوهم وتجاوزهم وسموهم، إننا نبحث عن صور وشخصيات أخرى نعتقدها أنسب لحياتنا وقوتنا ومكانتنا، لكننا لن نصل إلا إلى الخراب والدمار.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1907 - الأحد 25 نوفمبر 2007م الموافق 15 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً