العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ

لولاك... لولى عقد التسعين

أكبر أنت من «كتاب» أو من «مقال» أو «حوار» في صحيفة

«أتصور أن جميع من تابع تحركنا وقرأ أدبياتنا منذ البداية لم يجد مطلبا طائفيا طالبنا به، ولا شعارا فئويا نادينا به، على رغم شدة المحنة وقسوة الظروف آنذاك. وسنظل ملتزمين بهذا الطرح رافضين لأي مشروعٍ طائفي حذرين من أي صوت نشاز. وضمن ذلك - كما التزمنا - سنبقى مؤمنين بأن الأسلوب السلمي هو الأسلوب الناجح للوصول إلى الأهداف المرسومة وإن تأخّرت الحلول».

العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري (رحمه الله)

«هناك أناس يعيشون بيننا، ولكنهم أموات يتحركون... وهناك أناس يرحلون عنا، يغيِّبهم الموت... فيستمر حضورهم ويتصاعد في اللحظات والمحطات التاريخية، ويتذكرهم كل الناس... إنهم رجال من طراز سماحة الشيخ المرحوم فقيد الوطن، عبدالأمير الجمري طيب الله ثراه».

الأب الروحي لجمعية «وعد» عبدالرحمن النعيمي

لولاك... لولا عقد التسعين لما تنفست الأرض حريتها، فداء لمثواك أيها الوجع الكبير/ الأمل الكبير في هذه الأجساد التي لا تخرج منها إلا فيها. لا تحتاج أيها الراحل إلى أن تبقي لنا من إرث كلامك ما يبرهن حضورك في الوطن أو حضور الوطن فيك، فالطائفية والفئوية هي لعبة الظلم والقهر والكرسي، ولم تكن أيها الراحل عنها ذا هوس بالكرسي أو الرئاسة. صفاء كلماتك في المشاهد كلها وصدق صوتك الدافئ حتى في موتك، كلها دلالات الوطن فيك ودلالاتك في الوطن. أيها الناس: لم يكن عبدالأمير الجمري أشرا ولا بطرا، لكنه خرج للإصلاح في وطنه، وأوفى.

لا يمكن للتحول السياسي الذي عصف بالبحرين حتى العام 2001 (ميثاق العمل الوطني)، ولا يمكن لأي من مظاهر العملية السياسية الديمقراطية في البحرين اليوم، أن يتنكر أو تتنكر لشخصية هذا الراحل الكبير الذي قاسى الأمرين حتى حان أوان القطف بالمشروع الإصلاحي لجلالة الملك، بعد نصف عقد من الأوجاع والقهر والظلم.

اليوم، بعد عام من الرحيل، يسترجع البحرينيون ذكراه، لا لأنهم نسوها، بل لأنها الوحيدة التي تستطيع أن تجمعهم من جديد، إذ تعصف بهم رياح الزمان ومكر الساسة على مفاصل التفرقة ودهاليز الفتنة تقذفهم في النار، فيمسكهم الجمري أن يموتوا أو أن يتمكن منهم اليأس.

ساعدك المتلاصق بأبناء وطنك

يقول بيان جمعية العمل الديمقراطي (وعد) بمناسبة مرور عام على رحيل الشيخ عبدالأمير الجمري: «لقد كان الجمري حاضرا في كل قضية من قضايا الوطن الكبرى... مدافعا من أجل العدالة، ومن أجل المساواة، ومن أجل أن يكون الوطن للجميع، ومن أجل أن يكون الشعب مصدر السلطات جميعا، ومن أجل أن نكون مواطنين لا رعايا... منذ انطلاقة العريضة الشعبية وشيخنا المناضل وضع بوصلته الوطنية أمامه رافضا أية محاولة لتحريف النضال الوطني صوب الطائفية، ولذلك كان ساعده متلاصقا بسواعد المناضلين من التيارات الديمقراطية والإسلامية التي قررت المضي قدما من أجل تحقيق أهداف وأحلام شعبنا في مجتمع قوامه الحق والعدالة والحرية والمساواة والديمقراطية».

أيها الشيخ...

تتبعت أرشيفك الطويل، حاولت سبر زواياك، وتقطيع كلماتك بحثا عن مفردات الوطن وتموضعاتها في عملك السياسي إبان العقد التسعيني وما قبله. لم تكن أوراقك إلا صورة من صور الخطابات الكبيرة، خطاب الإنسان الباحث عن الحرية والحقيقة والكرامة لأبناء وطنه، وليست الكرامة التي عرفتها وارتضيتها لشعبك إلا كرامة الأعزاء الآنفين الذين لم تهدأ بهم مقاماتهم إلا بعد أن انتصرت إرادة الحياة على إرادة الموت وآلتها المجنونة.

رحل الشيخ الجمري رحيل الذين صنعوا لأوطانهم تاريخا جديدا من الكرامة والحرية، رحيل المطمئنين إلى عدالة الذكرى إن خانتهم أمانة الأقلام والألسن. رحيل المطمئنين إلى ما قدموه في أعين أبناء الشهداء والمعذبين والمهجرين. رحيل الإنسان الحر عن آخره الحر.

لماذا لا تحتفل الطائفية الشيعية وحدها بذكرى هذا الراحل، لماذا يشارك جميع أبناء الوطن بشتى انتماءاتهم السياسية في تأبين ذكراه. لم يكن العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري شيعيا فقط، ولم يكن من أهل القرى فقط. كان الإنسان البحريني على مختلف أديانه وطوائفه واعتقاداته وتوجهاته السياسية، كان البحريني الحر الذي لم يخرج بخطاب الطائفة أو خطاب القرية أو خطاب الدين، بل كانت خطاباته محصلة الخطابات الوطنية كلها، وعلى قدر ما أوجعته الطعنات بقى صامدا باسم الوطن، مسالما، رؤوفا بالناس متلمسا لأوجاعهم ومعاناتهم، كان الجمري باقتدار رجل عقد التسعين الصادق المضحي من دون جدال.

الأكثر من ذلك، لابد لأي متتبع لما أفرزته سنوات الحزن والتضحية أن يقرأ الحضور السياسي للشيخ، بوصفه المحور الرئيس الذي التقت عنده شتى أقطاب العملية السياسية لتباشر نضالاتها الكبرى، غَادر الركب من غَادر، وهُجر من هُجر، واعتقل من اعتقل، وبقى الشيخ الجمري وحيدا في الساحة لا ترعبه تهديدات السجن ولا أوجاع القضبان على يد سجانه والمندسين له، حتى أتاه وعده بالحرية والخروج بالبحرين بعد المشروع الإصلاحي إلى بر الأمان، فقرت الأعين وكان الانتصار للوطن كله. الجمري الذي تنبه إلى خطورة أن يسير في عمليته الإصلاحية باعتباره رجل دين شيعيا فقط، أكد عبر مواقفه الكبيرة أن التسعينات لم يكن عقد تمرد أو مشاغبة من طائفة ما، أو تيار سياسي معين، بل كان عقدا لحرية البحرين وكرامة أبنائها، وتطورها، وعدالتها.

المحاولات الحثيثة التي قادها البعض آنذاك نحو جر القضية وتشويه حقيقتها - وهم لايزالون على محاولاتهم - لم تستطع أن تكسر في الشيخ إصراره وعزمه على إشراك جميع أبناء الوطن في قضيتهم العادلة. لقد كانت سنوات التسعينات على مرها، السنوات الأكثر تلائما على الصعيد الوطني بين أبناء البحرين كافة سنة وشيعة، وكان عبدالأمير الجمري القاسم المشترك بين تلك النداءات والنضالات الوطنية كافة.

تعود ذكرى الشيخ الجمري الذي غادر هذه الدنيا قبل عام من الآن، لا على شكل تأبين ذكرى الراحلين التقليديين، فما صنعه الجمري لأبناء هذا الوطن هو أكبر من أن يكون مجرد ذكرى تسترجع أو خطاب يعاد إنتاجه من جديد. أعطى الجمري لأبناء وطنه حريتهم على إكليل من الزهر الكريم الشريف الذي لم تكسره معاول الظلم والقهر والوجع، تحمل الجمري من الأذى ما تحمل شعبه من أذى، شاركهم الجوع والسجن والسياسة فكان بصدق الرقم الصعب في سنوات التسعين جنبا إلى جنب مع أولئك الشهداء الأبرار الذين قدموا أرواحهم ودماءهم في سبيل حرية أبناء هذا الوطن وكرامتهم، فرحم الله الجمري، ورحم شهداء التسعين، مَنْ صنعوا للبحرين حاضرها الجميل.

العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً