العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ

لبنان ومخاطر «الاستقرار القلق»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اغتيال مدير غرفة العمليات في الجيش اللبناني العميد فرنسوا الحاج بتفجير سيارته عن بُعد وهو في طريقه أمس إلى مكتبه في وزارة الدفاع في بعبدا أعطى إشارة إضافية إلى هشاشة الاستقرار القلق في بلاد الأرز. فما أطلق عليه السفير الأميركي في بيروت مرحلة «الفراغ الهادئ» أو «الفوضى المنظمة» يرجّح ألا تستمر طويلا في ظل فضاءات دولية وإقليمية متوترة ولها امتداداتها الأهلية في البلد. فالاغتيال ليس حادثا عارضا يمكن التعامل معه موضعيا وكأنه مجرد رد فعل ثأري لمعارك مخيّم نهر البارد في الشمال.

الاغتيال المنظم والحرفي والمهني الذي وقع أمس يتجاوز القراءة الموضعية لتداعيات «نهر البارد» حتى لو كان على تماس معها. فالاستهداف طاول أحد رموز تلك المواجهة التي افتعلت في الشمال وكان القصد منها جرجرة المؤسسة العسكرية إلى حرب استنزاف طويلة تعطل عليها إمكانات التفرّغ لاحتواء انفعالات الأزمة اللبنانية المعطوفة إقليميا على ملفات ساخنة من بلاد الرافدين إلى فلسطين. إلا أنّ الهدف من وراء الاغتيال ليس الانتقام في اتجاه إقفال ملف البارد والتحقيقات الجارية بشأنه وإنما العمل على فتح ملفات أخرى تتجاوز تلك الدائرة وربما تتسع لتشمل الكثير من النقاط الحسّاسة التي تثيرالقلق وتهدد البلاد بالفوضى التي لن تستمر هادئة في ظل الاستقطابات السياسية والتجاذبات الأهلية.

لابدّ إذا من قراءة موسّعة لجريمة الاغتيال لا تسقط من حساباتها احتمالات وجود عوامل ثأرية وانتقامية تستهدف قطع الطريق أمام التحقيقات القضائية بشأن دوافع إعلان «حرب الاستنزاف» في مخيّم الشمال، ولكنها تضع المسألة في سياق أكبر من تلك المساحة الجغرافية.

يمكن تلخيص العنوان العريض لجريمة اغتيال العميد الحاج بأنه رسالة سياسية دولية/ إقليمية لمؤسسة تعتبر حتى الآن هي الضامن الأخير للاستقرار القلق في بلاد الأرز. فهذا البلد الذي مرّ في منعطفات خطيرة هددت كيانه ووحدته منذ العام 2004 نجح إلى حد معين في ضبط الاستقرار تحت سقف القلق الدائم من احتمال الانهيار. ولعب الجيش اللبناني وظيفة استثنائية في ضبط تلك المعادلة الدقيقة: الاستقرار القلق من جهة ومنع الفوضى من الانزلاق إلى خط الانهيار الأمني من جهة أخرى.

تحت سقف هذه المعادلة المتأزمة سياسيا يمكن قراءة الكثير من المحطات. فالجيش وقف على الحياد وضبط تعديل الدستور في العام 2004 ومنع انفلات الأمن. والجيش نجح في منع التصادم الأهلي حين نفذت جريمة اغتيال رفيق الحريري وأصحابه. كذلك ضبط المسيرات والمظاهرات المؤيدة لسورية والمعارضة لها ووقف على مسافة واحـدة من «8 آذار» و»14 آذار». ولعب الجيش دور ضابط التوازن الأهلي بعد خروج القوات السورية من لبنان وأحبط محاولات دفع البلاد إلى فراغات أمنية. والأمر نفسه كرره خلال العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. كذلك نجح في نهاية العدوان (الموقوف دوليا) في إرسال 15 ألفا من قواته إلى الجنوب تنفيذا للقرار 1701. وحين افتعلت المواجهة في «نهر البارد» خاض معركة دموية طويلة معتمدا على قدراته الذاتية المتواضعة ونجح في احتواء تداعيات الأزمة ومنعها من الانتقال إلى أمكنة أخرى.

حتى بعد إنهاء أزمة نهر البارد حافظ الجيش على دوره في ضبط الانفعالات الأمنية وتطويق بؤرالتوتر وضمان الاستقرار في الأحياء التي كادت أن تشتعل بسبب تلك الحساسيات الطائفية والمذهبية التي ظهرت تباعا وفي مناسبات مختلفة. فالكل شهد للمؤسسة العسكرية دورها في الكثير من المحطات الخطيرة التي كادت أن توصل الأطراف والفرقاء إلى مواجهات مباشرة كما كان يخطط لها وتحديدا في 23 و25 يناير/ كانون الثاني 2007 حين تصادمت القوى في معارك إحيائية محدودة في طريق الجديدة وجامعة بيروت العربية.

النقاط الثلاث

هذه المسافة المتساوية بين الفريقين أعطت تلك القيمة الاستثنائية لمؤسسة الجيش في اعتبار أنها تشكل نقطة توازن تضبط إيقاع الاستقرار ضمن دائرة القلق وتمنع «الفوضى المنظمة» من الانهيار ثم الانزلاق إلى تصادمات تزعزع العلاقات الأهلية التي وصل توترها الطائفي والمذهبي إلى درجة الإشباع.

مَنْ ينظرالآنَ إلى هيئة المؤسسة وانتشارها والمهمات الموكولة لها يكتشف مدى أهمية دورها الذي تقوم به. فهذا الجيش الصغير نسبيا مكلف بالإشراف على مساحات جغرافية واسعة تمتد من الجنوب إلى الشمال مرورا بالوسط التجاري الذي مضى على اعتصامه أكثر من سنة. وتعتبر المؤسسة العسكرية الآن هي الهيئة الرسمية الوحيدة التي تعمل بانتظام وفوق طاقاتها المحدودة أصلا مقارنة بتعطيل دور ومهمات المؤسسات الأخرى.

مؤسسة الحكومة معطلة، كذلك الإدارات والوزارات، بدورها مؤسسة المجلس النيابي مقفلة منذ أكثر من سنة، وأخيرا مؤسسة الرئاسة التي تعطلت رسميا في 2004 وأفرغت فعليا منذ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

كل السلطات الرسمية في لبنان معطلة من تشريعية وتنفيذية ورئاسية وقضائية. المؤسسة الوحيدة التي تعمل ليل نهار ومن دون انقطاع وفوق طاقاتها البشرية واللوجستية هي الهيئات العسكرية من جيش وقوى أمن ودرك وشرطة. ولهذا المعنى الرمزي تعتبر عملية اغتيال العميد الحاج رسالة سياسية دولية/ إقليمية خطيرة توجه إلى «عمود الخيمة» اللبنانية بعد أن تم تفريغ المؤسسات وتعطيلها من العمل بشكل منظم ومتوالٍ منذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في أغسطس/ آب 2006.

توجيه مثل هذه الضربة الأمنية للمؤسسة العسكرية في ظل هذا التوقيت يتجاوز في إشاراته الكبيرة احتمالات وجود عملية ثأرية انتقامية لتداعيات حرب الاستنزاف التي افتعلت في مخيم «نهر البارد». فالضربة تتجاوز تلك الحدود الموضعية وتطلق إشارة باتجاه أوسع تستهدف ثلاث نقاط دفعة واحدة:

الأولى، زعزعة الأمن ودفع البلاد من مرحلة «الفراغ الهادئ» إلى الفوضى العامة.

الثانية، تهديد وحدة المؤسسة العسكرية وتعطيل دورها الوطني في ضبط التوازن في العلاقات الأهلية.

الثالثة، إرباك القوى السياسية المحلية ومنعها من التوافق الوطني على اختيار قائد الجيش رئيسا للجمهورية.

النقاط الثلاث يمكن جمعها في خط واحد في اعتبار أن كل مسألة تعتمد على الأخرى. فالاستقرار القلق يشرف الجيش على عدم انهياره. والوحدة التي تمثلت في المؤسسة تشكّل الرابط الأخير الذي يضمن عدم انهيار الكيان وتفككه إلى جمهوريات طوائف. والتوافق على قائد الجيش يضبط إيقاع القوى السياسية ويضعها تحت سقف واحد وعلى سوية مشتركة ومسافة واحدة على رغم تلك الاعتراضات الديمقراطية على موضوع تعديل الدستور وإقحام المؤسسة العسكرية في المسألة السياسية. والنقطة الأخيرة مهمة؛ لأنها تحذر من نقل الجيش من دور الرقيب إلى موقع الشريك.

النقاط الثلاث مرتبطة بخيط واحد. ولكونها موصولة كلها بجهاز رسمي واحد هو الجيش فإنّ ضرب هذه الهيئة يشكل خطوة سياسية خطيرة تهدد خط الدفاع الأخير والمشترك لهذا البلد المسكين والمظلوم. فمن ارتكب هذه الجريمة حاول افتعال أزمة ثلاثية الأبعاد، فهو أرسل ذاك التحذير لمنع اقتراب المؤسسة العسكرية من الإدارة السياسية للبلاد. كذلك أرسل إشارة تفخخ دورالمؤسسة الأمني وما تمثله من رمزية للوحدة الوطنية وضمان استقرار الكيان. وحين تكون الأهداف كبيرة بهذا الحجم يصبح حادث الاغتيال أوسع من دائرة الثأر والانتقام من «أزمة نهر البارد» الموضعية لأنه بكل بساطة يرسل إشارات سلبية تتوجه مباشرة إلى فهم أبعاد ومخاطر التطويل في فترة «الفراغ الهادئ». فالفراغ يبدأ بهدوء ولكن تفاعلات الأزمة المعطوفة على ملفات الجوار والأقاليم الساخنة ستدفع بالساحة المفتوحة والمكشوفة إلى مرحلة تقوض «الاستقرار القلق» الذي يمر به الكيان اللبناني منذ العام 2004.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً