العدد 1936 - الإثنين 24 ديسمبر 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1428هـ

العراق ودولة «الفيدراليات»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاعتراضات التي صدرت عن الحكومة العراقيّة ورئيس «المجلس الأعلى الإسلامي» عبدالعزيز الحكيم بشأن تشريع نشاطات «مجالس الصحوة» وعدم تحويلها إلى «قوّة ثالثة» تلعب دورا أمنيّا مستقلا عن رقابة الدولة والاحتلال الأميركي تعتبر إشارة سياسيّة تدلّ على وجود مخاوف من احتمال نموّ تيار غير واضح في تعامله مع المتغيرات المتوقع أن تدخل على معادلة الصراع في بلاد الرافدين.

«مجالس الصحوة» التي تأسّست قوّة عشائريّة عسكريّة قبل سنة في المحافظات «السنيّة» بهدف محاربة تنظيم «القاعدة» بدعم من القوات الأميركيّة وبموافقة الحكومة بدأت تأخذ طابع الهيئة السياسيّة القادرة على إدارة شئون المناطق التي تهيمن عليها. وهذا النمو الذي أخذ شكل الدرع العسكري في مواجهة شبكات «القاعدة» يرجّح أن يتطور إلى قوة سياسيّة قادرة على تكوين وظيفة مستقلّة تتجاوز الهدف الذي برّر تأسيس «مجالس الصحوة».

فكرة «المجالس» بدأت أميركية وقامت على نظرية «فرّق تسُدْ» التي اعتمدها الاحتلال واسطة لتخريب الدولة وتفكيك العلاقات الأهليّة. وجاءت الفكرة تلبية لحاجة أميركيّة حين اكتشف الاحتلال أن قدراته العسكريّة غير كافية لكسر شوكة «القاعدة» واختراق المناطق التي تهيمن عليها. وبسبب تلك الحاجة العسكريّة الآنيّة اتجه الاحتلال إلى مدّ جسور من العلاقات مع العشائر وسكان المناطق بقصد عزل شبكات «القاعدة» عن محيطها، مستفيدا من تلك التجاوزات التي ارتكبها المقاتلون المجهولون ضد الأهالي.

الفكرة الأميركية تركزت على تأسيس قوة موازية من سكان المحافظات التي تعيش فيها غالبية عشائرية تضرّرت كثيرا من الاحتلال ولم تستفد من المقاومة، وتحديدا تلك المنظمات المجهولة الهويّة والعنوان. وكان القصد الأميركي من تشكيل تلك القوّة العسكريّة العشائريّة مساعدة الاحتلال في مطاردة وطرد عناصر «القاعدة» وملاحقتها مقابل مساعدات ماليّة وتسليحيّة ولوجستيّة (صحيّة واجتماعيّة وإنمائيّة) تحتاجها المحافظات بعد أن ألحق بها الاحتلال ذاك الدمار الشامل.

النموّ السريع لقوات «الصحوة» يؤكد مدى مقدار الأضرار التي لحقت بتلك المحافظات بسبب المواجهات الدائمة بين الاحتلال وتنظيمات غير معروفة الهويّة والعنوان. فالأضرار التي فاقت التصوّر أعادت تشكيل تصوّرات سياسيّة عفويّة لدى العشائر اعتمدت على مشاهدات عيّانيّة وتجارب ميدانيّة مرّة عزّزت نظرية «التعامل» على حساب «المقاومة».

فكرة «التعامل» شكّلت المدخل السياسيّ الذي عبر منه الاحتلال للاتصال بالعشائر بموافقة الحكومة وبتشجيع منها. فمَنْ يتعامل يربح المال ويكتسب المواقع والمناصب ويأخذ حصّته من الغنيمة. ومَنْ يقاوم يتلقى الضربات العسكريّة وتدمّر قراه ومدنه وتخرّب مصالحه ويحاصر ويتعرّض للجوع والإذلال. وهكذا انساقت العشائر نحو المصلحة المباشرة حين اكتشفت أن المحافظات التي تعاونت وتعاملت وتعايشت مع الاحتلال استفادت من الثروات، وأخذت حصّتها من المال العام، واحتلّت المناصب الوزاريّة، وكدّست المسروقات والمنهوبات في صناديقها ودفاتر حساباتها الشخصية في المصارف والمؤسسات.

نجح الاحتلال في توظيف الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة وإعادة استثمارها سياسيّا لتأسيس قوّات خاصّة بالعشائر تقاوم «القاعدة» مقابل مساعدات تحتاجها العائلات التي تضرّرت أو تشرّدت من المواجهات الدائمة مع الجيش الأميركي. وشكّلت المساعدات التي ترافقت مع تدريبات عسكريّة وعمليات اقتحام مشتركة نواة قوّة موازية نجحت في كسر شوكة «القاعدة»، وتفكيك شبكاتها في ثلاث محافظات، وفشلت في استكمال نشاطها في محافظة رابعة. إلا أن تطوّر دور ميليشيات «مجالس الصحوة» وانتقاله من لعب وظيفة عسكريّة موضعيّة إلى قوّة نظاميّة أثار مخاوف، وطرح أسئلة بشأن مستقبل هذه القوات ومدى استعدادها للاندماج في الدولة ومؤسساتها.

كانتونات

الأجوبة غير معروفة وهي موجودة لدى الاحتلال. فهل القيادة الأميركية تريد المحافظة على استقلال «مجالس الصحوة»، أم أنها ترى أن الوظائف المطلوبة منها تحققت ولم تعد بحاجة إليها؟

حتى الآن يبدو الاحتلال غير متضرّر من نموّ هذه «القوّة الثالثة» باعتبار أن المهمات التي أرادها منها لاتزال في طور الانتهاء. وبما أن الحاجة قائمة فيرجّح أن تبقى ميليشيات «الصحوة» موجودة حتى تنجز الأهداف.

السؤال: ما هي تلك الأهداف التي يتطلّع الاحتلال الأميركي إلى تحقيقها في العراق في فترة انتقاليّة تمرّ بها إدارة جورج بوش؟ هناك «أجندة» سرّية غير واضحة المعالم. فالعراق تشرذم طائفيّا ومذهبيّا، وتوزعت كتله الأهليّة على المناطق والمحافظات، وبدأت تنمو في دوائره «كانتونات» تقودها ميليشيات محليّة تتدبّر شئونها بمعزل عن الحكومة وأدواتها ومؤسساتها. و «مجالس الصحوة» في الغرب تعادل تلك الميليشيات التي استقرت في الجنوب، واستولت على إداراته ومصادر ثروته بالتعاون والتكافل مع الاحتلال.

هذا النوع من التوازن يشكّل سياسيّا معادلة تثير القلق من احتمال توظيف قوّة الميليشيات المنتشرة جنوبا وشمالا وغربا في تأسيس كيانات أو هيئات خاصة تلعب دورها المستقلّ ضمن خريطة العراق الجغرافية. وفي حال كان الهدف الأميركي من تشكيل تلك الميليشيات هو تأسيس مواقع متوازيّة تكسر المعادلة الأهليّة العراقيّة من الداخل فمعنى ذلك أن وظيفة «مجالس الصحوة» ليست مؤقتة، وتتجاوز مهمة مكافحة «القاعدة» وملاحقة شبكاتها ومطاردة عناصرها.

أما إذا كان الهدف يتلخص في ضبط الأمن وحماية العشائر من تداعيات المواجهات العسكريّة الدائمة فمعنى ذلك أن وظيفة «المجالس» محكومة بشروط محليّة وموضعيّة لا تتجاوز دائرة المحافظة ذات اللون الواحد.

الغموض لايزال يسيطر على سياسة الاحتلال على رغم مرور نحو 5 سنوات على الغزو. والاحتلال الذي يرسل إشارات متضاربة لكلّ المذاهب والطوائف والمناطق في العراق يريد أولا أن يضمن أمن قواته، ويتطلّع ثانيا إلى البقاء في بلاد الرافدين إلى فترة مديدة. والنقطة الثانية لا يستطيع تحقيقها من دون تثبيت قواعد عسكرية دائمة، وتشكيل فراغات تعزل المحافظات عن بعضها وتمنع الاحتكاك الأهلي في المستقبل.

الغموض الأميركي يشتت صورة العراق ومستقبله. ولكن الواضح من سياسة الاحتلال التفكيكيّة استكمال تقويض العلاقات الأهليّة بعد أن نجح في تحطيم الدولة. وهذا ما ينصّ عليه الدستور الذي يشتمل على تلك المواد التي تشجّع على إنشاء «فيدراليات» تتمتع بنسبة عالية من الصلاحيات تعطي المحافظات ذاك الموقع الخاص والدور المستقلّ في إدارة شئون «الكانتون» بعيدا عن رقابة دولة لم تعد موجودة أصلا.

عمليّة تغيير خريطة العراق من الداخل يبدو أنها دخلت طورها الأخير في معادلة سياسيّة مغايرة لتلك التي كانت موجودة في السابق. فالدولة الجديدة ستعتمد على «اللامركزية الإدارية»، وستعطي المحافظات (الطائفيّة والمذهبيّة) صلاحيات استثنائيّة قادرة على تشكيل هيئات محليّة تتجانس مع هويّة الغالبيّة السكانيّة. وهذا ما بدأت تلعبه الميليشيات في الجنوب (18 ميليشيا) بعد الانسحاب البريطانيّ التدريجيّ من أربع محافظات مقابل ذاك الدور الخاص الذي أخذت تلعبه ميلشيات «مجالس الصحوة» في ثلاث محافظات في الغرب.

الاعتراضات التي لمّحت إليها الحكومة ورئيس المجلس الأعلى (منظمة بدر) بشأن تشريع نشاطات «مجالس الصحوة» واحتمال تحوّلها إلى «قوّة ثالثة» جاءت في لحظة انتقاليّة يمرّ بها العراق، ويرجّح أن تكون تلك اللحظة طويلة وقاسية سواء انسحب الاحتلال أو أعاد نشر قواته أو تموضع في مناطق آمنة بعيدا عن حروب «القبائل السياسيّة»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1936 - الإثنين 24 ديسمبر 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً