العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ

أيام في أميركا (1)...واشنطن... المربع الخدعة

واشنطن، رينو، نيوأورلينز - عادل مرزوق 

13 فبراير 2008

الساعة الرابعة صباحا، عند درجة حرارة أسفل «الصفر» بما لا يعلمه إلا الرب، يمسك رئيس القسم السياسي في صحيفة «البيان» الإماراتية الزميل خالد أبو كريم فنجانا من القهوة على شرفة غرفتي في الطابق الثاني من أحد فنادق العاصمة الأميركية (واشنطن)، وبينما أجول بكاميرتي خلف سنجابين إثنين عوض تصوير القطط المتشردة التي انتظرتها ولم أجد لها أثرا وهو ما خلق لدي انطباعا سلبيا... يمتص خالد سيجارته بسرعة ويلعن أيامه التي ستأتي، يتمتم بكلمات متسارعة بشأن مواصفات الصحافي الحقيقي الذي لابد أن يكون في غرفته يدخن بهدوء ويحتسي فنجان قهوته، بينما تلعب أصابعه على «البورد». أشجعه بعد اختفاء «السنجابين» بين تلك الأشجار التي لم يستطع عشرة أشخاص أن يخبروني بإسمها فأسميتها بأشجار «البندق»، على المحافظة والتمسك بالرمق الأخير في حرية المدخنين في أن يبقوا أحياء في هذه العاصمة التي لا ترحم المدخنين.

يقول مرشدنا السياحي «بن» في محطتنا الأولى، أن تصميم واشنطن المربع الشكل والمكون من أراض موهوبة من ولايتي مريلاند وفرجينيا، هو دلالة على تساوي الحقوق والحريات في الولايات المتحدة طبقا لتساوي أضلاع المربع، لكنه يستدرك قائلا «لكن ولاية فرجينيا هي من تسببت في إخلال حالة «المربع» حين طالبت بجزء من هديتها للعاصمة»، وعليه، كان «بن» يؤكد لنا من خلال استرجاع ولاية فيرجينيا لأراضيها، انهيار حالة الهندسة «المربعة» في واشنطن، ويختم كلماته بالقول «أتمنى أن لا يكون تشويه عدالة أضلاع العاصمة قد أثر على العدالة الأميركية ككل». لكننا، أنا وخالد على الأقل، كنا متأكدين أن أهم دلالات إنتفاء حالة «التربيع» و»المربعية» في واشنطن والولايات المتحدة كلها، هي هذه المحاصرة القانونية التي نتعرض لها في كل مكان مغلق، ببساطة: يمنع التدخين في كل مكان مغلق داخل العاصمة الأميركية واشنطن، ولا تزال كلمات/تحذيرات/تأكيدات مدير الرحلة الزميل عبدالحليم ترن في أذني، مهددا ومتوعدا بغرامة قدرها 400 دولار لمن يخرق القانون، خصوصا وأن عبدالحليم الذي قدم للولايات المتحدة من الصومال، يعتقد بإيمان راسخ وأقوى من أيمان أهل الديانات كلها، بأن أميركا بلد «احترام القانون».

ما بين نهري بوتوماك وأناكوستيا تقع واشنطن «دي سي»، هذه المدينة التي يقطنها أربعة ملايين أميركي، ولأنها لا تنتمي لأية ولاية فإن أحدا من هؤلاء لا يحق له أن يحصل على تمثيل في مجلس ممثلي الشعب (النواب) أو الشيوخ، وعلى رغم أنهم يقومون فعليا بالانتخاب لممثلهم إلا أنه محروم من حق التصويت. كانت هذه أول دلالة على فقدان معادلة التربيع في واشنطن، خصوصا لدى بعض زملاء الرحلة الذين أبدوا نصرتهم لسكان هذه المدينة التي يزورها كل عام 40 - 50 مليون سائح.

واشنطن التي أنشأت بقرار من الكونغرس في العام 1790 على يد الجندي والمهندس الفرنسي بيير لانفان، أحرقها البريطانيون قبالة العام 1812، وتم طلاء مبانيها المحترقة باللون الأبيض، ومن هنا أتت تسمية منزل الرئيس الأميركي بـ «البيت الأبيض»، والذي لا تزال سيدة كردية تقف عند بابه منذ عشرين سنة معترضة على سياساته، حتى أنك تخالها جزءا من هندسة المكان نفسه.

على سور البيت الأبيض يقف حراسه «الملثمون»، كان هذا المشهد مثيرا بالنسبة لي، وزادت ذاكرتي تعلقا بهذا المشهد وأسترجعته كاملا جراء إنتقاد حاد من سيدة أميركية استضافتنا في مدينة رينو بولاية نيفادا، كانت تهاجم أعضاء تنظيمي «القاعدة» و»حماس» الذين يظهرون على شاشة التلفزة ملثمين.

السيدة الأميركية اتهمت أعضاء «القاعدة» و»حماس» بالإرهابيين، مستدلة بتغطية وجوههم!، تقول السيدة: «الذي يدافع عن قضية عادلة لا يخفي وجهه!»، حينها فقط آثرت أن لا أعلق بالقول: وهل الدفاع عن البيت الأبيض «قضية غير عادلة» فيغطي الجنود وجوههم!

سكان واشنطن، الرسميون جدا والملتزمون جدا بإشارات المرور والأنظمة، يحكمون أنفسهم عبر حكومة مؤلفة من عمدة ومجلس مدينة منتخبين. مدينتهم أيام العطلات، هي أشبه ما تكون بمدن الأشباح، ينام هؤلاء الناس مبكرا، ولم يكن يزعجنا في المساء أي صوت ما خلا سيارات الإطفاء والإسعاف التي لم نكن نفهم وجودها الكثيف في منتصف المدينة الخاوية. لا يسكن الواشنطنيون مركز المدينة المزدحم بالبنايات القصيرة إذ ينص القانون على أن لا يرتفع أي مبنى على «الكابيتول»، لكنهم يسكنون أطرافها في ولايتي مريلاند وفرجينيا وفي «جورج تاون» حيث تنتشر المجمعات التجارية التي تغلق هي الأخرى أبوابها مبكرا. زيارة الـ «جورج تاون» المسائية، كانت أول فرص التعرف على الأميركيين لا بناياتهم. والأهم من ذلك، أنها كانت الفرصة المناسبة للتعرف على أحد المطاعم التي توفر لزبائنها طاولات خارجية، إذ نستطيع وللمرة الاولى أنا وخالد، أن نقوم بالتدخين وشرب القهوة من دون إزعاح ومن دون أن تكون تهديدات عبدالحليم في المخيلة.

أشجار الكرز وأزمة العملات المعدنية

تنتشر أشجار الكرز على ضفة نهر بوتوماك المحاذي لولاية فرجينيا بعدد انتشار المتاحف في هذه المنطقة، أما الأشجار فهي هدية يابانية أهداها عمدة طوكيو للأميركيين في العام 1912، كما يقول مرشدنا «بن» الذي ابتسم بمكر، حين عاجله أحد الزملاء بالقول «أعطاكم اليابانيون أشجار كرز، وأعطيتموهم قنبلتين نوويتين!».

أما المتاحف فكانت لبنتها تبرع «سميث سونين» وهو ثري أوربي «لقيط» ، تبرع بخمسمئة مليون دولار من تركته لصالح الولايات المتحدة لتدشين مشروعات ثقافية تؤكد نجاحاته الشخصية عقب إزدراء مجتمعه له، هذا الأوروبي لم يكن زار أميركا في حياته، لكنه اعتقد أنها المكان الملائم لتوزيع ثروته وحين توفي قامت الحكومة الأميركية بنقل جثمانه لواشنطن حيث يرقد ومتاحفه جنبا إلى جنب.

على امتداد شارع المبنى التجاري الموجود بين «الكونستبتيوشون» و»إندبندس» يبدو محور المدينة التي تتشابه مبانيها ما خلا مبنى «fbi» (أف بي أي) الذي يميل مبناه للصفرة وهو ما دعا الجميع للصمت خوف أن تكون سماعات المبنى تستمع ما يدور من إنتقادات. في هذه المنطقة، كثيرة هي التماثيل والنصب التذكارية التي تنتشر على جانبي المسلة الفرعونية، الكثير من التماثيل والمتاحف لكل شيء، فالأميركيون مهووسون بصناعة التاريخ، واستحضار التاريخ، والتدليل على تاريخية هذه الأرض عبر إعطاء كل الحضارات مساحة للوجود والفاعلية، ولأن «الحاجة ام الاختراع» لا يكتفي مرشدنا السياحي «بن» بشروحاته المطولة لكنه يمسك بورقة نقدية من فئة «الدولار الواحد» ليرينا أسرارها الدينية والتاريخية والحضارية حتى تخال أن «بن» يبدو مصرا على أن نفهم القيمة الثقافية للدولار خلاف قيمته النقدية، وبينما كان «بن» مشغولا في تفحص «الدولار» كنت أتفحص العملات المعدنية أملا في فهم سرها من جهة، وتحسبا لحالة الإحساس بالغباء التي تنتابني حين أقف صباح كل يوم عند أحد المتاجر، لأعطي البائع وزنا ثقيلا منها، أملا في الحصول على عملات ورقية تكون أخف وزنا عليّ، خصوصا وأن ما أرتديه من ملابس ثقيلة لا تتلاءم وما تعود رجل صحراوي مثلي أن يرتديه.

من «دي توكفيل» لتخوم «السناجب»

على رغم تحذيرات الأخت جنان من سفارة الولايات المتحدة بالبحرين المتكررة بضرورة الإلتزام بالوزن المسموح به، إلا أن مشروعا كبيرا يهدف لاختبار ما انتهى له القسيس الفرنسي «دي توكفيل» في كتابه «الديمقراطية في أميركا»، يستحق المجازفة بحمل هذا الكتاب مع كومة من الملابس الشتوية التي كنت عاقدا العزم على التخلص منها في محطتنا الأخيرة، وهو ما قمت به بالفعل في احتفالية خاصة في غرفتي في مدينة نيو أورلنز بولاية لويزيانا الجنوبية.

الكثير من الظروف لم تكن تستجيب لإتمام مثل هذا المشروع، خصوصا حالة منع التدخين واللقاءات المتتالية من مبنى لآخر، وعلى رغم ذلك، يبدو أن أهم ما خلصت له التجربة مع الصفحات المئة الأولى من هذا الكتاب هو أن قمت بضم «دي توكفيل» إلى قائمة من لم يفهموا أميركا، أما باقي أعضاء القائمة فهم كثيرون أقلهم «أنا» من يكتب هذا الملف، وآخرهم الأميركيون أنفسهم.

في أميركا التي رأى فيها دي توكفيل «أكثر من أميركا» لا تستطيع أن تفهم أشياء كثيرة. إن كنت تسعى للخروج من الولايات المتحدة محملا بالتشاؤم والإمتعاض من سياساتها وطرق فهم ساساتها للشرق الأوسط، فتستطيع أن تفعل ذلك منذ اليوم الأول. وإن كنت مستعدا للإطلاع على أعظم ديمقراطيات العصر حتى الملل، فأميركا تستطيع أن تفعل بك ذلك أيضا. تستطيع في أميركا أن تنتهي لأي النتائج أقرب إلى ذهنك، لكنك في المحصلة لن تجد شرطيا ديكتاتوريا يحكم هذه البلاد فتكون رؤيتك لأميركا الشريرة مبررة، ولن تجد ذلك الشعب الأفلاطوني المولود بالديمقراطية ليكون انبهارك بالديمقراطية الأخيرة مقنعا. لا أحد يستطيع أن يحدد/ يميز/ يشرح/ يفهم/ يبرر/ يدرس/ يفحص القوة التي تدير هذا النظام الذي سمه ما تشاء من تسميات وفق ما تعتقده من أفكار.

وهكذا، انتقل الاهتمام من اختبار مقولات دي توكفيل بشأن الديمقراطية الأميركية لملاحقة «السناجب» وتصويرها تنتقل من شجرة لأخرى، وهو ما كان ينعكس على بعض زوايا الفهم للولايات المتحدة أيضا.

تعتمد الهوية الأميركية على «الحلم». ولذلك، تستطيع أن تلاحظ بوضوح حضور التعابير اللغوية الفخمة التي تطغى في أي خطاب يتحدث عن أميركا، ولأن اللغة العربية هي أكثر شاعرية - على الأقل بالنسبة لي ولمن يتحدث بها - كان محدثونا من الأميركيين العرب يبالغون في حديثهم عن أميركا قبالة المتحدثين الأميركيين من أصول أخرى، والذين كانوا يرمون ببعض الرموز التي لا تخلو من الانتقادات المبطنة.

السنجاب الذي كان قدري الصباحي كل يوم، هو الآخر لم يكن يطيل جلوسه على الأرض فالسنجاب حيوان «فوقي» على الغالب. لا تبدو علاقة السنجاب بالأرض علاقة وطيدة على الإطلاق، وعلى رغم أن السناجب لا تطير صراحة ما خلا السنجاب الطائر، إلا أنها غالبا ما تعيش على الأشجار. للسنجاب نمط سريع في التفكير، لذلك، غالبا ما يتهم بالافتقار إلى القدرة على التنظيم على رغم نشاطه وحيويته، الأميركيون أيضا يبدون سريعين جدا في ردودهم، وهم غالبا لا يميلون إلى الاستماع للأسئلة الطويلة، أو لا يفقهون أصلا المغزى من أن يكون للسؤال مقدمة. لذلك، غالبا ما يبادر الأميركيون إلى الإجابة على أسئلتنا حتى قبل أن تكون أسئلة!. يبالغ الأميركيون في قراءة الأمور من الأعلى من دون الهبوط للتفاصيل أو مناقشتها، وخلاف أن تكون تلك التفاصيل محلية فتستحق الوقوف والرد على الرد، فإن شيئا مما كان المحرر السياسي في صحيفة «الوطن» السعودية الزميل محمد الملفي يكرره كتفاصيل تضرب السياسات الأميركية في الخارج لم يكن مهما في ردودهم، وهو ما كان يثير غضبه ليكرر بصوته الرخيم جملته المعتادة «لكنك لم تجب على السؤال!».

دائما ما يتهم علماء الأحياء السنجاب بأنه يقضي عمره في قطف وتخزين الثمار بكميات أكبر من قدر حاجته. وهو ما يتصل بنمط الأميركي في تفكيره المضطرب والمشغول بالمابعديات. لا يبدو الأميركيون مهتمين بما تفرضه معطيات الساحة السياسية اليوم. المهم في مجمل أحاديثهم هو المستقبل وما يمثله لأميركا، وضع في هذه «الخانة» ما تشاء من أفكار تبدو لا بديهية بالنسبة لك، لكنها في عقل الأميركي كذلك. ولذلك فقط، يؤكد علماء الأحياء أن السنجاب يعتبر أسهل الفرائس للأفاعي الأميركية على رغم سلوكه الفوقي إنثروبولوجيا، وهو ما يتصل بعدها الرئيس «النسور»، وهكذا في المحصلة يكون السنجاب الأميركي ضحية فقد الانتباه والتسرع النمطي في المعيشة لا ضحية خياراته بالأساس.

العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً