العدد 2000 - الثلثاء 26 فبراير 2008م الموافق 18 صفر 1429هـ

فتش عن النفط... ثم حارب!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لابسا مسوح الرهبان. متقمصا شخصية بابا نويل، حاملا الهدايا الكلامية المغرية، اختتم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الأسبوع الماضي، جولته الإفريقية الثانية التي زار خلالها خمس دول إفريقية.

في كل دولة زارها كان بوش يؤكد في خطبه العامة، أنه جاء لمساعدة الإفريقيين في مكافحة الفقر والايدز، محاولا إكساب زياراته وجها إنسانيا حانيا، ربما يزيح عن بلاده تهمة الاستغلال والهيمنة والغزو والاحتلال، التي ذاعت وانتشرت، وخصوصا بعد احتلال أفغانستان والعراق.

لكن الوجه الإنساني لم يخفِ الوجه القبيح للاستعمار الجديد، إذ إن بوش لم يذهب إلى إفريقيا قبل شهور من انتهاء ولايته الرئاسية، ليساعد وينصح ويعاون فقراء إفريقيا، ولكنه ذهب بحثا عن حماية مصالح بلاده الاستراتيجية، وعملا على نسج شبكة علاقات وتحالفات تربط الدول الإفريقية، التي تعاني من التخلف والفقر والمرض، فضلا عن الصراعات القبلية والعسكرية التي تهددها، بل وتمزق دولا مثل كينيا وتشاد والسودان والصومال والكونغو ورواندا... الخ.

ولابد هنا من لفت النظر إلى أن الرئيس الأميركي قد استبق جولته الإفريقية، بزيارات للسعودية وبعض دول الخليج العربية، ونظن أن الهدف كان واحدا في الجولتين... تأكيد أمن النفط العربي والإفريقي من ناحية، وتجنيد الحلفاء معه لمحاربة الإرهاب، أي باختصار نفط وأمن... أي مصالح حيوية للإمبراطورية الأميركية التي تملك أضخم اقتصاد وأكبر قوة عسكرية في العالم، وهذا هو بالضبط منهج الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى، التي سبق أن احتلت الدول العربية والإفريقية، واستنزفت ثرواتها على مدى قرنين على الأقل!

فإذا ما أزحنا القناع المزيف عن «الوجه الإنساني»، نقول إن الأهداف والمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية هي محرك الاستراتيجيات ورسم خريطة التحركات والزيارات والعلاقات، فأميركا مثلها مثل أوروبا لا تحب العرب مثلا، لكنها تستميت في تدعيم علاقاتها بدولهم وخصوصا المحورية مثل مصر، والنفطية مثل دول مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن سيطرتها على العراق صاحب أكبر مخزون نفطي في العالم.

وحين ذهب بوش إلى الخليج، كان قد زار «إسرائيل» أولا، ليؤكد لها وللعالم وللعرب خصوصا، أن التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي هو الأهم ويأتي في المرتبة الأولى، وأن ضمان أمن «إسرائيل» مسئولية أميركية في الأساس، أما حكاية دعمه لقيام دولة فلسطينية إلى جوار «إسرائيل»، فقد ثبت أنها خدعة، نثر الرماد في العيون وتطييب الخواطر العربية، تماما مثل خدعة الوجه الإنساني لزيارته لإفريقيا...

باختصار، ذهب بوش إلى الخليج ليضمن النفط والأمن في منطقة تهتز بالمخاوف والهواجس من تداعيات الحرب الأميركية في العراق من ناحية، ومن تصاعد القدرات العسكرية «وربما النووية» للجارة الكبرى إيران من ناحية أخرى، وبالمثل ذهب بوش إلى إفريقيا ليضمن النفط والموارد الطبيعية الغنية وخصوصا اليورانيوم وكذلك الأمن في قارة ملتهبة بالصراعات القبلية والعرقية والعسكرية.

إذا فما يسمى الوجه الإنساني لزيارة بوش لإفريقيا، لم يكن إلا غطاء لأهداف استراتيجية أميركية واضحة نحددها في الآتي:

1 - فرض الهيمنة الأميركية على القارة السوداء، بعد أن تنازعت النفوذ مع فرنسا، تحت ستار تدعيم الأمن والاستقرار ونشر الديمقراطية، على رغم تحالفها، كما في المنطقة العربية مع نظم استبدادية حاكمة.

2 - السيطرة على مخزون النفط القائم والقادم، بعد أن أكدت الدراسات الغربية أن أميركا ستستورد 25 في المئة من استهلاكها النفطي من إفريقيا بحلول العام 2015.

3 - مكافحة ما يسمى الإرهاب، بعد أن ادعت السياسة الأميركية انتشار الشبكات الإرهابية الإسلامية، من دول الشمال الإفريقي، وخصوصا الجزائر والمغرب، إلى دول إفريقيا الجنوبية.

4 - مواجهة الزحف الصيني الواسع على دول القارة الإفريقية، خلال السنوات الأخيرة، بحثا عن واردات النفط، وغزو الأسواق الكبيرة، تحت رايات الصداقة والمساعدات الصينية غير المشروطة سياسيا أو عسكريا، كما تفعل المساعدات الأميركية.

5 - عزل الشمال الإفريقي العربي من مصر شرقا إلى المغرب وموريتانيا غربا، عن دول ما يسمى جنوب الصحراء، تحت دعاوى كثيرة منها ما هو عنصري وطائفي، ومنها ما هو سياسي وأمني.

والحقيقة أن أميركا تطبق هذه الأهداف الاستراتيجية في إفريقيا على مدى السنوات العشر الأخيرة، من دون صخب كذلك الذي صاحب تحركها في الشرق الأوسط ووسط آسيا، وخصوصا بعد غزوها لأفغانستان العام 2001، ثم غزوها واحتلالها العراق العام 2003، ونستشهد في ذلك بالنماذج المحدودة التالية، ونبدأ بالتدخل الأميركي الواضح في الأزمة السودانية، الذي لعب دورا بارزا في حرب جنوب السودان، كما لعب دورا مؤثرا في دفع الخرطوم والحركة الشعبية لتوقيع اتفاق «نفاشا» للسلام، الذي يمهد في رأينا لانفصال الجنوب بعد نحو ثلاث سنوات من الآن.

وها هو التدخل الأميركي الواضح مصحوبا بالمساندة الأوروبية، يلعب دوره التالي، في مشكلة دارفور بغرب السودان الملتهبة الآن، وإذا كان للمشكلة جذورها ودوافعها المحلية، فإن التدخل الأميركي والأوروبي له دوافع أخرى، تتعلق بثروة دارفور من المعادن، وخصوصا اليورانيوم، ومن النفط بمخزونه الهائل، وهكذا يصبح للتدخل الأميركي قوة تأثير و «سيطرة» على مخزون النفط في جنوب السودان وفي غربه، حتى يحرم الصين من استثماراتها النفطية الكبيرة في السودان.

أما النموذج الثاني لهذا التدخل الأميركي المباشر، فهو الذي حدث ويحدث في الصومال، إذ بعد أن فشل الغزو الأميركي للصومال باسم «حملة استعادة الأمل»، في عهد الرئيس الأميركي بوش الأب، وما تبع ذلك من صخب سياسي هائل، جاء التدخل الأميركي الجديد في الصومال، في عهد الرئيس بوش الابن، أكثر حنكة وبطرق غير مباشرة، وذلك بدفعه لاثيوبيا لغزو الصومال نيابة عنه، ومحاربة «المحاكم الإسلامية» المتهمة بارتباطها بتنظيم القاعدة، والنتيجة أن الصومال أصبح ممزقا في صراعات قبلية وعسكرية، وصار محتلا بقوات إثيوبية تحارب بأسلحة أميركية!

ومن خلال هذين النموذجين للتدخل الأميركي في السودان والصومال، ناهيك عن تشاد وغيرها من الدول، يتضح أن الإمبراطورية الأميركية في عهد بوش، تطبق نفس مفاهيم ومطامع واستراتيجيات الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية المنسحبة إلى التواري، بحثا عن المصالح الاقتصادية واستنزافا للثروات الطبيعية الهائلة وفي مقدمتها النفط طبعا، وكما كانت الإمبراطوريات القديمة تفعل ذلك بالغزو والاحتلال وبناء القواعد العسكرية والأساطيل البحرية العملاقة بمقاييس القرون الماضية، ها هي أميركا تستعيد ذلك كله، ولكن بأساليب حديثة تناسب العصر الراهن وتناسب قدراتها الجبارة.

ببراءة الأطفال في عينيه، قال الرئيس بوش في خطابه خلال زيارته الأخيرة لغانا،: «إنني أعرف أن هناك شائعات تتردد في أكرا وفي غيرها من العواصم الإفريقية، إنني أسعى لبناء قواعد عسكرية هنا... وهذا غير صحيح لأنني جئت في زيارة دعم ومساعدة فقط».

ما قاله الرئيس هو غير الصحيح، أما الصحيح فهو أن أميركا تجهد نفسها على مدى العامين الأخيرين، بحثا عن دولة إفريقية لاستضافة قيادة «افريكوم» التي تمثل إحدى ست قيادات عسكرية إقليمية أميركية في العالم... وقد بدأ التفكير في إنشاء هذه الافريكوم قبل عشر سنوات إثر تفجير السفارتين الأميركيتين بكينيا وتنزانيا العام 1998، والهدف هو محاربة الإرهاب، وإحكام قبضتها العسكرية على القارة السوداء بقدرات عسكرية متنامية.

وقد صار معروفا، أن واشنطن عرضت أولا على مصر إقامة مقر قيادة افريكوم على أراضيها، لكن مصر رفضت، وكذلك فعلت المغرب والجزائر، الأمر الذي شجع دولا إفريقية رئيسية على اتخاذ الموقف نفسه، ولم يعد مرحبا بهذه القاعدة المركزية سوى ليبريا!

غير أن أميركا لن تعدم وسيلة لنشر قواعدها وتدعيم وجودها العسكري في القارة، وسواء نقلت قيادة افريكوم من مقرها الحالي بألمانيا، أو لم تنقله، فإنها تمضي قدما في تدعيم قدراتها العسكرية من حول مناطق النفط ومخزوناته، امتدادا من الخليج العربي عبورا إلى شرق إفريقيا، من خلال قاعدتها في جيبوتي، اختراقا للقارة حتى غربها المطل على المحيط الأطلسي الواصل إلى أميركا...

الدراسات الحديثة تقول إن خطوط أنابيب النفط العملاقة والجديدة، ستتفادى مناطق التوتر بالشرق الأوسط، فتمتد قريبا من حقول نفط الخليج العربي ثم تتجه عبر البحر غربا، لتتجمع في خطوط أخرى تخترق إفريقيا وتضم النفط الإفريقي، حتى تصل في مأمن وفي حراسة عسكرية أميركية، إلى الأسواق الأميركية والأوروبية سالمة غانمة.

هكذا يتبدى الوجه الحقيقي للاستراتيجية الأميركية، أما التبرعات الإنسانية والمساعدات المالية... فهي وهم يخفيان خداعا يحمي مصالح!

خير الكلام: قال الشاعر:

فظيعُ جهل ما يجري

وأفظعُ منه أن تدري

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 2000 - الثلثاء 26 فبراير 2008م الموافق 18 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً