العدد 2003 - الجمعة 29 فبراير 2008م الموافق 21 صفر 1429هـ

لبنان و«دبلوماسية البوارج»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن قراءة إرسال الإدارة الأميركية بارجة حربية إلى قبالة سواحل لبنان بشرط أنْ تكون بعيدة عن مجال الرؤية؟ المسئول الأميركي أعطى الجواب حين شرح أنّ الهدف من وراء الخطوة «التأكيد على الاستقرار الإقليمي». ماذا يعني «التأكيد على الاستقرار الإقليمي» بينما الخطوة أدّت لبنانيا إلى الاستفزاز وتصعيد الخطب النارية وتبادل الاتهامات ودفع العلاقات الأهلية إلى مزيدٍ من التوتر الطائفي والمذهبي؟

ردود الفعل السلبية والمتشنجة أعطت صورة مضادة للكلام الأميركي عن الخطوة. والانعكاسات المتفاوتة ربما تساعد على قراءة بعيدة «عن مجال الرؤية» للكلام عن «التأكيد على الاستقرار الإقليمي». فالخطوة قد تكون متعمّدة لإثارة القلق ودفع الاستقرار نحو الفوضى.

الجانب الآخر من الصورة بحاجة إلى تدقيق حتى تكتمل عناصر المشهد من زواياه المختلفة. إرسال السفينة إلى سواحل لبنان جاء في سياق تداعيات بدأت بإقدام دولة قطر على سحب كتيبتها العاملة في إطار قوات «يونيفيل» الدولية في الجنوب. هذه الخطوة أثارت الانتباه إلى وجود «شيء ما» سيظهر قريبا في الأفق اللبناني. بعد قرار قطر بسحب كتيبتها من الجنوب صدرت توجيهات وتعليمات فرنسية وسعودية وكويتية وبحرينية تنصح الرعايا بعدم السفر إلى لبنان أو أخذ الحيطة والحذر من تطورات محتملة. وشكّلت هذه التنبيهات إشارات غير واضحة بشأن مجموعة ملابسات تحيط بالمبادرة العربية الهادفة إلى عقد انتخابات الرئاسة اللبنانية. وأخطر تلك الإشارات كانت تصريحات السفير الأميركي السابق في بلاد الأرز ديفيد ساترفيلد التي صدرت في باريس بشأن عدم تأييد واشنطن للمبادرة العربية.

ماذا يعني عدم تأييد أميركا للمبادرة العربية في اللغة السياسية؟ المبادرة التي أشرفتْ على صوغها جامعة الدول العربية في القاهرة بموافقة مصرية - سعودية تبيّن لاحقا أنها لا تلقى الحماس أو الدعم من واشنطن؛ أي في اللغة السياسية أنّ هناك في الأفق البعيد و«خارج مجال الرؤية» عدم توافق أميركي مع مصر والسعودية بشأن حل أزمة الرئاسة في لبنان. وحين ترفض الولايات المتحدة تقديم الدعم للمبادرة العربية فمعنى ذلك أنها تؤيّد تعطيل المؤسسات وإقفال مجلس النواب وعدم الذهاب إلى عقد جلسة لانتخاب رئيس. وكلّ هذا يعني أنّ أميركا لاتزال على موقفها الذي أعلنه سفيرها جيفري فيلتمان في بيروت قبل مغادرته العاصمة اللبنانية حين أشار إلى التعطيل بكلام دبلوماسي وصفه بـ «الفراغ الهادئ».

هذا الجانب الغامض الذي يقع «خارج مجال الرؤية» لابدّ من وضعه في سياق التحليل حتى يمكن التوصّل إلى قراءة شاملة لكلّ زوايا المشهد. فالصورة التي تظهر عادة على الشاشة السياسية ليست بالضرورة هي الإطار الأخير الذي يجسّد الحقيقة. فهناك دائما مشاهد أخرى «خارج مجال الرؤية» كما قال المسئول الأميركي حين شرح خلفيات إرسال البارجة الحربية إلى قبالة الساحل اللبناني.

ما هي المناظر المشوشة التي يمكن توقعها في الأفق البعيد و«خارج مجال الرؤية»؟ هناك احتمالات كثيرة يمكن ترتيبها للتوصّل إلى قراءة موضوعية لخطوة التصعيد في «دبلوماسية البوارج». و«دبلوماسية البوارج» تعطي أحيانا إشارات متضاربة وربما تكون وسيلة للتغطية على اتفاقات ولقاءات وتفاهمات تعقد «خارج مجال الرؤية». وبناء على هذه الاحتمالات المفتوحة يمكن ترجيح النقاط الآتية: أوّلا، خطوة نحو الحشد والحرب. ثانيا، خطوة للتخويف والترهيب. ثالثا، خطوة لضبط الأمن والاستقرار. ورابعا، خطوة لإثارة الفتنة والفوضى وعدم الاستقرار.

الاحتمال الرابع

حتى الآنَ يبدو الاحتمال الرابع (زعزعة الاستقرار) هو الأقوى في الترجيحات. فالحرب مستبعدة بعد أنْ ظهرت في الأفق البعيد و«خارج مجال الرؤية» الكثير من اللقاءات «الفنية» و«التقنية» وما أعقبها من تقاطعات أميركية - إيرانية وأميركية - سورية في ملفات ساخنة وباردة مختلفة. وسياسة التخويف والترهيب التي اعتمدتها واشنطن في السنتين 2006 و2007 في الخليج تبيّن لاحقا أنها مناورات خادعة استهدفت تغطية تلك الاتصالات التي توافقت على تفاهمات ميدانية في العراق اشتملت مجالات متنوعة. أمّا الكلام الأميركي على مسألة التأييد للاستقرار الإقليمي فهو مجرد قنابل دخانية أو بالونات حرارية لشد الانتباه وحرفها عن ملاحظة المشاهد «خارج مجال الرؤية». فالكلام الأميركي يستهدف خداع الرؤية في اعتبار أنّ مَنْ يريد «الاستقرار الإقليمي» لا يُعارض مثلا المبادرة العربية لانتخاب رئيس للجمهورية ولا يعطل مثلا المبادرة الفرنسية التي تحركت للمساعدة على تأمين مخارج للتفاهم اللبناني على معالجة موضوع الفراغ الرئاسي. فالولايات المتحدة إذا كانت فعلا مع استقرار لبنان في محيطه الإقليمي لكانت على الأقل أعلنت تأييدها الرسمي للخطة العربية الثلاثية المراحل بشأن الرئاسة.

الموقف السلبي الأميركي أو على الأقل غير المرحّب بالمبادرة العربية يشير إلى أنّ الولايات المتحدة ليست مع «الاستقرار الإقليمي» كما تدّعي، وربما هي تخطط لشيء ما «خارج مجال الرؤية» من خلال تمديد الأزمة اللبنانية. وهذا الأمر لا يعني بالضرورة الحرب وإنما دفع فرقاء الساحة اللبنانية نحو الاضطراب من خلال استفزاز الأطياف وإغراقها في تحليلات وهمية وقراءات سياسية غير دقيقة وتحتاج إلى حسابات غير ظاهرة في الأفق القريب.

إرسال واشنطن بارجة حربية؛ لتكون خارج «مجال الرؤية في لبنان» خطوة سلبية سيئة تستهدف إثارة القلق الداخلي ورفع حرارة الخطاب السياسي وتأليب القوى المحلية ضد بعضها بعضا للتغطية على تفاهمات ربما تكون واشنطن قد توصّلت إليها إقليميا وتحتاج إلى ذريعة للإعلان عنها حين ترتسم معالم الصورة ميدانيا كما هو حال العراق الآنَ. «دبلوماسية البوارج» التي أعلنت واشنطن أمس الأوّل عنها «خارج مجال الرؤية من لبنان» تشبه كثيرا تلك المناورات التي افتعلتها «دبلوماسية البوارج» في الخليج على امتداد 2006 و2007 وتبيّن لاحقا أنها لم تستهدف الحرب وإنما توتير الفضاءات الإقليمية وجرجرة دول المنطقة إلى تشنجات وتوترات ومخاوف بقصد التغطية على لقاءات «فنية» و«تقنية» تحصل في الأفق البعيد و«خارج مجال الرؤية في الخليج».

على القياس نفسه يمكن إعادة قراءة خطوة إرسال البارجة الحربية إلى قبالة ساحل لبنان. فالخطوة تستهدف إثارة الفزع وتحريك المياه الآسنة في المستنقع اللبناني وتخويف الأطراف وتأليبها على بعضها وتوتيرها تحت سقف التدويل الذي تريد أميركا دفع المحيط الإقليمي إليه بعد إحباط مبادرة التعريب. فالمشهد الذي يظهر في الصورة ليس بالضرورة هو الصحيح لأنّ الصور الحقيقية هي دائما تلك التي تكون خارج الإطار وتتحرك في الأفق البعيد و «خارج مجال الرؤية»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2003 - الجمعة 29 فبراير 2008م الموافق 21 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً