العدد 2016 - الخميس 13 مارس 2008م الموافق 05 ربيع الاول 1429هـ

«فقه» الترابي وصدمة السودان في 1989

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أدى الانسداد السياسي في المنطقة العربية إلى ردود فعل متباينة في أوساط المعارضة. وترافق الاحتقان مع سلسلة أزمات وانهيارات اقتصادية واجتماعية وإخفاق متتابع على المستويين الوطني والتنموي؛ مما عكس نفسه أكثر ما يكون على التنظيمات والهيئات الإسلامية بصفتها أكثر دوائر المعارضة التصاقا بالأحاسيس الشعبية وقربا لها.

مع تراكم الأزمات كان لابد لها من الانفجار في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات سالكة قنواتٍ آيديولوجية وسياسية متباينة تلوّنت بالمناخات الإقليمية وظروف كل دولة عربية. وفي النهاية شكلت تلك الانفجارات صدمات عميقة أحدثت موجات زادت من تباعدها.

لم تتفق القوى الإسلامية على موقف موحد وكان لابد لخلافاتها الفكرية والتنظيمية السابقة أن تتصاعد وتأخذ سلسلة أشكال آيديولوجية تفترق على أكثر من فكرة وسياسة.

لعبت ثورة الإنقاذ العسكرية التي هبت في السودان في العام 1989 دورا خاصا في إعادة إنتاج الخلافات السابقة ووضعت الإسلاميين للمرة الأولى في تاريخهم أمام خيار صعب: إما تأييد الانقلاب العسكري وهو أمر يتنافى مع تربيتهم العقائدية التي ترفض الأسلوب المذكور لأنه في النهاية يولّد كتلة عسكرية - آيديولوجية حاكمة من طريق القوة والاستيلاء، وإما معارضة الانقلاب وبالتالي محاولة تفسير جديد لعلاقات القوى وموازينها ومسألة السلطة ودور الدولة والأسلوب السلمي في كسب الغالبية العددية.

حتى الآن تنفي «الجبهة الإسلامية القومية» التي يتزعمها الشيخ حسن الترابي مسئوليتها عن التخطيط للانقلاب وتصر على أن الجيش هو الذي نفذه بسبب الفوضى السياسية التي دبت بين أجنحة الحكم الديمقراطي ونتيجة عجز حكومة الصادق المهدي عن الدفاع عن السودان وحدوده؛ مما جعل حركة التمرد في الجنوب تسيطر على خُمْس مساحة البلاد وأخذت بالتخطيط لدخول العاصمة والاستيلاء على السلطة وفرض حكم الأقلية على الغالبية المسلمة. وترى الجبهة الإسلامية أنها كانت مضطرة لتأييد الانقلاب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضعف عام وفوضى سياسية أنهكت الدولة وجعلت أبوابها مشرعة لك الطامعين من الخارج والطامحين من الداخل.

وبعيدا عن تقنية الجهة التي خططت، وصحة تحليل الجبهة الإسلامية ظروف الانقلاب وعوامله ودوافعه، يمكن القول إنها الجهة المنظمة الكبيرة والوحيدة التي وافقت على شروط ضباط ثورة الإنقاذ للتعاون مع الدولة وهي: حل تنظيمات الحزب والاندماج بمؤسسات الحكومة وإداراتها بصفة أفراد وليس مجموعات ومنظمات.

أدى موقف الجبهة الإسلامية إلى إثارة زوبعة من الخلافات الحزبية في داخل السودان وخارجه ووضع الإسلاميين عموما في موقف حرج لا يتناسب مع تقاليدهم السياسية.

الإسلاميون عموما - بحسب الأعراف المتبعة - هم دائما يمثلون خط الناس والأكثرية الساحقة من الشارع؛ مما جلب لهم المصاعب والمصائب والويلات من النخب العسكرية العلمانية الانقلابية الحاكمة في معظم الدول العربية. وجاء انقلاب السودان ليقلب المعادلة. فهذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها الإسلاميون - بعد تأييدهم ثورة الإنقاذ - إلى نخبة حاكمة أو مشاركة في الحكم وهو أمر جلب لهم الكثير من المتاعب من حيث تحميلهم مسئوليات أخطاء السلطة.

في السنوات السبع الأولى التي مرت على الحركة السودانية أيدت الجبهة الإسلامية الانقلاب بل تحولت إلى شريك رئيسي في صنع القرار بعد أن حلت تنظيماتها واندمجت بالدولة على مختلف المستويات. وعلى رغم مرور هذه الفترة الطويلة نسبيا في عمر الحكم لاتزال الخلافات قائمة بين التنظيمات السودانية والحكم واستتباعا الجبهة الإسلامية التي تحمّلها قوى المعارضة المسئولية الكاملة عن كل ما حصل، حتى بعد أن قرر الشيخ الترابي الانسحاب من الحكم. لم تقتصر الأضرار، وربما الفوائد، على السودان بل امتدت إلى خارجه لتزيد الخلافات وترفع نسبة التباين بين الجبهة الإسلامية المنحلة والقوى الإسلامية العربية التي انقسمت بدورها إلى تيارين: فريق أيد بتحفظ وضم في مجمله القوى الخارجة على حركة الإخوان المسلمين، وفريق عارض بتحفظ وضم في مجمله حركة الإخوان في معظم تفرعاتها وتنظيماتها.

يذكر أن أصل الخلاف بين الجبهة الإسلامية وحركة الإخوان يعود إلى عهد سابق بكثير لفترة حركة الانقلاب في السودان، وجاءت الحركة لتعززه وتزيده تعقيدا. فالخلاف يعود إلى منتصف السبعينات وانتهى بالانقسام في 1978 وتجدد بعد حصول الانقلاب.

أدرك الترابي باكرا - وهو دكتور دولة في القانون الدستوري وشارك في وضع دستور الإمارات العربية وباكستان - أن معركته الأساسية في السودان ليست ضد العلمانيين فقط بل ضد الإسلاميين التقليديين أيضا. وبحكم معرفته بواقع السودان وتركيبه الاجتماعي المتفرع إلى مناطق متنوعة سكانيا وموزعة على مساحات جغرافية واسعة أدرك أيضا أهمية الدولة ودورها المميز في لعب دور التوحيد السياسي في بلد شاسع وقليل السكان.

شكلت النقطتان المذكورتان خط تماس متوترا بين فكر الترابي الحديث والتقاليد الإخوانية المتوارثة. فحاول قدر الإمكان دفع فرع الإخوان في السودان إلى تطوير لغته السياسية وتطويعها حتى تستوعب المشكلات المعقدة والتركيب الخاص لبلد استقل حديثا عن بريطانيا (سنة 1956) وضخم الحجم إذ تزيد مساحته على ضعف مساحة ألمانيا الاتحادية وفرنسا وبريطانيا مجتمعة وقليل السكان (أكثر من 35 مليون نسمة) ومتعدد الأعراق والجهات (عشر مناطق قبلية كبرى إلى عشرات المجموعات العرقية والقبلية الصغيرة) ومتنوع في مصادر ثروته ودخله واختلاف بيئاته الجغرافية والمناخية وتحيط به ثماني دول عربية وإفريقية.

بدأ التوتر حين تزعم الترابي حزب التجمع الإسلامي على أساس دستور «جبهة الميثاق الإسلامي» الذي مثل وجهات نظر مختلف القوى والتيارات الإسلامية الحديثة بين عامي 1964 و1969، وشكلت تلك الفترة أول خطوة لتأسيس الافتراق بين الترابي وفرع الإخوان في السودان. وبدأ الخلاف ينصب على مسألتين: الأولى فقهية عندما دعا الترابي إلى إحداث ثورة اجتهادية تقوم على تجديد الأصول فصاغ منهجه الفقهي الذي يجمع بين أهل الرأي وأهل الحديث وبين التفسير الظاهري والتفسير الباطني وأشار إلى ضرورة الدمج بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية وبين منهج الاستنباط ومنهج الاستقراء في محاولة منه للتوفيق بين الشرع والعلوم الاجتماعية والطبيعية المعاصرة لدراسة خصائص المجتمع السوداني. والثانية سياسة تقوم على معادلة كسب القوى الحديثة المتضررة من هيمنة القوى التقليدية وتأسيس تيار معاصر يشق طريقه المختلف بين القوتين الإسلاميتين المركزيتين: طائفة الأنصار المهدية (حزب الأمة) والطائفة الختمية - المرغنية (الاتحاد الديمقراطي).

اعتبر الترابي في محاضرة ألقاها في السبعينات تحت عنوان «تجديد أصول الفقه» أن من حسن حظ السودان أنه «بلد ضعيف التاريخ والثقافة الإسلامية الموروثة». فالضعف التاريخي يعني بالنسبة إليه أن المجتمع غير موحد والدولة ضعيفة، وضعف الثقافة الإسلامية الموروثة يعني أن التيارات التقليدية تقوم على العصبية والمذهبية وليست إسلامية وفق المنهج العقائدي المعاصر (حسن الترابي، قضايا التجديد - نحو منهج أصولي، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، الطبعة الأولى، الخرطوم 1990، ص 223).

واعتبر الترابي ضعف تكوين السودان التاريخي والثقافي فرصة لتجديد الفقه وإحداث ثورة في الاجتهاد، كذلك فرصة سياسية لإعادة تشكيله وفق صيغة دستورية معاصرة تجمع المطلق المنزل والواقع النسبي المتغير. لذلك دعا في المحاضرة نفسها إلى «بسط الشورى والالتزام بها بدقة وانضباط. فالجماعة المسلمة تبقى منظمة جدا حيث تكون الشورى فيها سارية سائدة». وأكد أن الدين محاولة دائمة للتوحيد بين الاستنتاج (من أدلة الشرع وأحكامه وهو الأصل) والاستنباط (من بيئة الواقع وهو الأصل الأدنى) (ص 224 و238).

لا يستخدم الترابي كثيرا كلمة الديمقراطية وربما لا يستخدمها إطلاقا إلا في مجال الإشارة إلى حسناتها أو سيئاتها، ولكنه يكثر استخدام تعبئة الرأي العام «بالتناصح والشورى» ويؤكد ضرورة ربطها بمنهج أصولي فقهي جديد يحقق الثورة الاجتهادية. ويرى أن النظام الامثل اليوم هو أن «نرد إلى المصطلحات الإسلامية - العلم، الفقه، الاجتهاد، الشورى، والإجماع - شعبيتها وأن نعترف بالتفاوت والتناصح والتذاكر مع اعترافنا بضرورة الاتحاد بين المسلمين في صياغة الأحكام التي يقتضيها الشرع في واقعهم». (ص 242 و251). ويشدد في محاضرة أخرى ألقاها في الخرطوم بتاريخ 20 يناير/ كانون الثاني 1987 بعنوان «منهجية التشريع الإسلامي» على مسائل القصور الفقهي واختلاف ظروف البيئات الإسلامية واختلاف التطور بين الزمنين الماضي والمعاصر. ويرى أن أصول الفقه والتشريع خلافية أصلا وليست قطعية، لذلك يطالب بتأسيس منهجية جديدة تقوم على التوحيد والعدل والاستقامة والقصد والتوازن، ويفسر كل نقطة بأفكار تحليلية تاريخية ليؤكد تأخر الفقه التقليدي لأنه انقطع عن العالم الموصول وتقابل أنماطه الاجتماعية. ويبدأ شرح منهجه الفكري الذي يطلق عليه بعض أنصاره «فقه الترابي».

ينطلق فكر الترابي من مسألة مركزية وهي أن التدين محاولة دائمة للتوحيد بين المثال المطلق (الشرع) والواقع النسبي (حركة المجتمع وتعاقبه الزمني)، ثم ينتقل إلى فكرة ربط العلم الشرعي بالواقع المعاصر والعلوم الحديثة، ويتساءل: لماذا استخدم علماء الأصول في القدم المنطق الصوري (الأرسطي) لتفسير بعض الأحكام ولا يحق لعلماء الأصول في عصرنا استخدام مناهج أكثر حداثة لتفسير الأحكام القرآنية من جديد؟ ويبدأ الترابي عرض عناصر منهجه الذي يوحد بين الظاهر والباطن وبين الإجمال والتفصيل (العام والخاص) والتوازن بين الأحكام والقطع وتوازن النظام والحرية والعقل والنقل والاتباع والإبداع والتقليد والاجتهاد لينتهي أخيرا إلى تأكيد فكرة أن الاجتهاد لا تنقطع دواعيه فهو من الثوابت الفقهية. وأخيرا يركز على مسألة جديدة وخطيرة في تاريخ الفقه الإسلامي وهي أن مرحلة الاجتهاد الفردي قد تراجعت بسبب تطور الحياة المعاصرة وتعقد متطلباتها وهو ما يفيض عن قدرة فرد واحد الإجابة عن خصائصها وأسئلتها. لذلك يطالب بإعادة النظر في المنهج الأصولي للفقه (يقصد الإخوان) وتجاوز العصبية الطائفية (يقصد المهدية والختمية)، لينتهي إلى المطالبة بالتأسيس على نصوص الشرعية والاستئناس بالعلوم المنهجية. (من محاضرة «منهجية التشريع الإسلامي»، ص 227-274).

لم تغب فكرة الشورى والمسئولية الجماعية عن منهجية الترابي بل كان يركز دائما عليها ويؤكد أهميتها. فأفكار الترابي التجديدية لم تبدأ في الثمانينات بل تأسست في الستينات وتبلورت في السبعينات. ففي محاضرة له ألقاها في جامعة الخرطوم في يناير 1977 أكد مقولة «تجديد الفكر الإسلامي» وشدد على ضرورة الشورى وتطور أنماطها منذ عهد الصحابة، وأكد فيها أن الشعب المسلم «أو الجماعة المسلمة لها حق إلزام الفرد المسلم لسلطان الشورى والإجماع»، وبسبب اتساع رقعة المسلمين وانتشارهم الجغرافي تعطل الإجماع وتأثر بالظروف التي طرأت على المسلمين. لذلك حتى يأخذ أهل الحل والعقد دورهم لابد من «شورى نيابية تمثيلية». (ص 10 و11).

ولأن الحياة تشعبت ولا يمكن لمجتهد واحد أن يحيط بكل الشعاب فلابد من دولة إسلامية حديثة تعتمد عن طريق الشورى والأمر التنفيذي بآراء الفقهاء المتوافرة والمتكاثرة، على أن يدون القانون الإسلامي وتشريعاته المعتمدة «من قبل هيئات شورية تهتدي بالطبع بكل الاجتهاد الفقهي وتستند بالطبع إلى الدعم الاجتماعي». (الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، شركة مطبعة إيمان، الخرطوم 1980، ص 22-23).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2016 - الخميس 13 مارس 2008م الموافق 05 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً