العدد 2018 - السبت 15 مارس 2008م الموافق 07 ربيع الاول 1429هـ

ساعات من الاحتضار في ضيافة «سكان الخرائب»

يعترف «سانجار»، الآسيوي البالغ من العمر 35 عاما بأنه هرب من كفيله قبل عدة سنوات. وهو هنا، في هذه «الخربة»، يعيش سعيدا بعد أن تمكن من تعديل وضعه وانتقاله إلى كفيل جديد. سيمضي في طريق تحقيق حلمه: أن يجمع مبلغا من المال ليتمكن من بناء منزل جميل له ولزوجته وأطفاله الثلاثة بعد أن يعود إلى بلاده، ثم يبني له ورشة كهربائية، ويجني منها الكثير هناك في بلاده.

لم تكن الخربة، إلا خربة بمعنى الكلمة. فهي عبارة عن عدد من الغرف القديمة المشدودة مع بعضها بعضا بقطع الخشب وصفائح الحديد. يعيش فيها من هو هارب من القانون، ومن هو تحت مظلة القانون. فيها من يتمتع بكفالة كفيل، وفيها من لايزال شريدا طليقا بتأشيرته الحرة. الخوف يداهمك قطعا وأنت تقترب من تلك الأماكن. وخصوصا تلك التي تنحشر في قلب الكراجات والمصانع والورش القديمة و «الجبرات» المهجورة. حتى لأنك تتذكر كل أفلام الرعب والسكاكين والسلاسل الحديد الكبيرة، وصرخات «جانكيز خان»، فلا يكون لديك من الشجاعة، إلا بتوزيع الابتسامات هنا وهناك، على أنك صديق ومؤيد ومتضامن مع المظلومين من العمال، الذين سلبهم بعض أرباب الأعمال إنسانيتهم وانتهكوا حقوقهم وحشروهم في علب سمك السردين.

حينها، سيحظى بالضيافة والكرم من قبل أصحاب الخرائب، ولا شيء آمن لك من أن تدعي أنك صائم!

مظلومون أم ظالمون؟

«الكاميرا» تخيف الكثيرين منهم. بل تخيفهم جميعا. ها نحن ندخل أولى مواقعنا للبدء في تقديم هذا الاستطلاع المصور عن أوضاع بعض العمال الوافدين. وكيف يعيشون؟ وما هي معاناتهم؟ ولماذا قبلوا بهذه الأوضاع؟ هل هم مظلومون فعلا أم ظالمون؟ هل يستحقون الشفقة والدعم والمساندة لأنهم «بشر» لهم حق الحياة، أم يتوجب فضحهم وإرشاد الشرطة وفرق التفتيش إليهم لأنهم مخالفون للقوانين ويشكلون خطرا على البلاد والعباد؟

عشرات الأسئلة تتوارد إلى الذهن، لكن لن نذهب بعيدا عن صاحبنا «سانجار» فهو، كان أم ربما لايزال واحدا من الهاربين كما اعترف بنفسه. سنتحدث معه قليلا، مضطرين لاحتمال رائحة سجائر «البيري» اللاذعة الخانقة التي يحرقها حرقا في فمه وأنفه: «أنا جامعي. هل تعلم أنني مهندس كهرباء مبانٍ؟ لقد جئت إلى البحرين في العام 1988 وعملت في إحدى المؤسسات الإنشائية، وكان صاحب العمل البحريني لا يتقن صنع المال، فخسر الكثير على رغم أنه كان يملك مجموعة تضم قطاعات أخرى. نقلني من قسم الإنشاء إلى قسم السفر والسياحة، وهناك، تمكنت من تعديل وضع وكالة السفر، وجزاء لي، أعادني إلى المقاولات كعامل بناء، ووظف مكاني شخصا آخر. تحملت الكثير من المعاناة، لكنني لم أكن أبدا مثل زملائي الذين سكتوا عن حقهم في الحصول على رواتبهم أكثر من 8 أشهر، فقررت التمرد وتمردت فعلا، وسأبقى متمردا.

وإذا أردت الصدق، والكلام لـ «سانجار»، فإن المعيشة هنا صعبة في هذا المكان. فهو كما ترى ليس مكانا مرفها وعانينا الويل في فترة هبوب الرياح الشديدة في البرودة في هذا الموسم، لكن بالنسبة ليّ، أشعر بالراحة والطمأنينة، فلا إهانات ولا أذى ولا كلام جارحا. نحن نعيش في مجموعة من 12 شخصا هنا، لكننا لا نشتكي ضد أحد، فنحن من استأجر هذا المكان برغبتنا».

العمال الهاربون

مقلقون فعلا؟!

لم يعد العمال الوافدون مسالمين كما كانوا في عقدي الثمانينات والتسعينات. ثمة أمور استجدت! في السابق، لم يكونوا يملكون الجرأة في الوقوف أمام وجه مواطن، صحافيا كان أم مفتشا أم إنسانا عاديا. أما اليوم، فقد تغير الوضع، ويبدو أن الحذر منهم يتطلب تحذيرا أعلى! مازلنا في منطقة سلماباد الصناعية. هناك موقع مظلم أشار إليه مرافقي الآسيوي الذي يدعي أنه من لا يريد إلا الثواب من الله سبحانه وتعالى على مساعدته لتبديل حال هؤلاء العمال الذين يظلمهم «أربابهم». ورشة من الصفيح يقودك إلى داخلها دهليز مليء بالمعدات والآلات وأكوام الحديد على جانبيه. أصوات الأغاني الهندية والباكستانية ذات «الصول» المعروف بالحدة يأتيك من مختلف الجهات. أما في الداخل، فالحبال التي نشرت عليها الملابس لن تسمح لك بالمرور بسهولة ورائحة المكان تأخذك إلى المجهول، لتجعلك تأمل دائما بأن سيارة الإسعاف ستكون قريبة في لحظة ما منك!

الحركة مباغتة. فثلاثة من العمال الصغار في السن (في حدود الثالثة والخامسة والعشرين عاما) كانوا يحاولون الهروب! ويبدو أن هذه الحركة معتادة. فالاتجاه كان محددا ودقيقا كمخرج أو كمهرب! وكذلك سهولة التوجه إلى ذلك المهرب. «لا تهربوا إنه صديق... يريد المساعدة... سينقل معاناتكم إلى الصحافة». لكن، لا أحد يريد الوثوق وليس أمامنا إلا أن نستغل ذلك الرجل الذي جلس «يكوي» ملابسه. لكن لماذا هرب الشباب؟! قال: «حملات التفتيش مستمرة، وهم، إذا كنت أمينا، هاربون من كفلائهم، ويحق لهم ذلك فكيف يعيش الواحد منا بلا راتب. هل تعلم بأن أكبر مشكلة نواجهها، على رغم ضعف الراتب، هي عدم دفع رواتب لنا. كيف نأكل؟ كيف نعيش؟ كيف تعيش عوائلنا هناك؟».

وهل الهرب من الكفيل يحل المشكلة، في يده جواز السفر ومردك إليه من جديد؟ يقول ذلك الآسيوي الكبير في السن، في حدود السبعين عاما هو، نعم، والآن هناك مجال لتعديل الأوضاع، وباستطاعتي شخصيا أن أعود، لكنني متندم جدا. (يبكي)... فقد قضيت نحو ثلاثين عاما في البحرين، وسأعود إلى بلادي خالي الوفاض. (ينخرط في البكاء)، فمن الأفضل الانصراف.

العمال الهاربون...

لا يتناقصون؟

ولا يبدو أن ظاهرة العمالة الهاربة تتناقص! فعلى رأي عدد من أصحاب الأعمال، فإن الكثير من الإجراءات الجديدة غير العادلة، شجعت عددا من العمال على الهرب، ويصف أحدهم مثل هذه المواقف بالقول: «جاءني أحد العمال فقال: أنت تمنحني راتب 200 دينار، وقد حصلت على وظيفة بـ 300 دينار، إما أن تعدل راتبي، أو أتركك والتحق بالوظيفة الجديدة؟». هل كان ذلك الشخص يحمل في يوم من الأيام أن يكلم كفيله بهذه الطريقة؟!

ويشير إلى أن معظم المؤسسات، بل وحتى البيوت، تعاني من ظاهرة هرب العمال وهرب المربيات، ولكن لكل حالة أسبابها من دون شك، وطبقا لسجلات وزارة العمل فإن العمالة المسجلة لديها كعمالة هاربة، تقدر بـ 24 ألف عامل هارب تقدم منهم 565 فردا في فترة تعديل الأوضاع، وتم تحويلهم بعد الحصول على موافقة الكفيل السابق، وهي فئة حذرت منها الوزارة!

ضرب واتهام وتعذيب

والعمال، يختلفون من ناحية ما واجهوه من مآسٍ ومصاعب في الحياة، منذ دخولهم إلى البحرين. فبعضهم يتحدث ويبالغ وتقفز الأكاذيب من عينيه وأنفه وجبينه، وبعضهم صادق فيما يقول، لكن في الحقيقة، يواجه الوافدون مشكلتين رئيسيتين فقط في البحرين، وبقية المشكلات ترتبط بهما: تأخير صرف الرواتب والتشغيل في ظروف عمل سيئة وبأجور منخفضة، والثانية عدم توفير السكن الملائم، وبقية المشكلات تختلف من شخص إلى آخر، ففي الوقت الذي لا يحظى فيه عامل بفرصة السفر لزيارة أهله بمنع من رب العمل، يحظى الآخر بفرصة إحضار أهله إلى البلاد في تأشيرة زيارة!

وبالنسبة للمربيات، فإن الضرب والإهانات والاتهامات هي أكثر ما يدفعهم للهرب، أو الانتحار في بعض الحالات، وهو الأمر الذي لا يشكل ظاهرة مقلقة في البلاد، وتحسن الوضع كثيرا من خلال جمعية حماية العمالة الوافدة التي تأسست في شهر فبراير/ شباط 2005 برئاسة منى المؤيد وهي الجمعية الأولى من نوعها لحماية ودعم العمالة الأمية وغير المدربة وخصوصا عمالة المنازل والإنشاءات، وخطت الجمعية خطوة مهمة حينما خصصت مركزا للإيواء وذلك لاستقبال عاملات المنازل اللاتي يتعرضن لسوء المعاملة على اختلاف جنسياتهن، ويعمل المركز على توفير ملجأ آمن ومؤقت لهن حتى يتم تحسين ظروفهن أو إعادتهن إلى بلادهن، ويعتبر المركز الأول والوحيد من نوعه في الخليج.

منى المؤيد: نعم يتجاوبون؟

هل تتجاوب وزارة العمل والقطاعات العمالية مع جمعية حماية العمالة الوافدة في عملها للدفاع عن العمال المظلومين والمضطهدين؟ نعم، هناك تجاوب، هكذا تصرح رئيسة الجمعية منى المؤيد التي تضيف مؤكدة أن وزير العمل مجيد العلوي متعاون جدا مع الجمعية وخصوصا بعد أن لاحظ أن الجمعية لا تعمل لتسبب المشكلات، فنحن نتعامل مع العمال ومع المربيات وكذلك لدينا ملجأ للمربيات اللاتي يتعرضن للضرب والعنف وفي الوقت نفسه عندنا بعض الأعضاء في جمعيتنا ممن يقومون بزيارة المواقع للاطلاع على أوضاع العمال، وقد بدأنا قبل مدة قصيرة تنظيم حملة لحماية العمال ضد الكيروسين في القطاعات التي تستخدم هذه المادة من باب التوعية والسلامة المهنية.

لا نتدخل في الإضرابات

لكنها تنوه إلى أن الجمعية لا تتدخل في الإضرابات، لكن من وجهة نظرها الشخصية، ترى أن من حق العمال استخدام أسلوب الإضراب باعتبار أن حقوقهم مهضومة في الوقت الذي تشهد فيها المشروعات عملا جيدا، لذلك، لا بأس في أن يطالبوا بزيادة رواتبهم! وتذكر أن بعضهم لم تزد رواتبهم منذ عشر سنين! نعم، شهدت بعض الشركات تعديلا لأوضاع وأجور العمال، لكن المطلوب أن يتم إجراء تقييم مستوى الأجر بعد انتهاء الأجر طبقا للوضع الراهن، فبسبب ضعف الدولار، انخفضت عملة الكثير من الدول الآسيوية بنسبة 20 في المئة تقريبا وهذا أضعف من قيمة تحويل المال إلى بلدانهم، وخصوصا مع ارتفاع الأسعار هناك وغلاء المعيشة هنا.

الإفراج عن 5 سجناء

وليس هذا وحسب، بل ما يمكن اعتبار أوضاع العمال الوافدين في البحرين أكثر من غيرهم من دول الخليج، هو الخدمات التي تقدمها جهة مثل جمعية حماية العمال الوافدين، فمن المثير أن تشير المؤيد إلى أن هناك عددا من العمال الأجانب الذين لم يتمكنوا من تعديل أوضاعهم ضمن الحملة الأخيرة وإقامتهم غير قانونية، حصلوا على المساعدة من الجمعية حيث وفرت لهم تذاكر السفر بالتعاون مع منظمة «أمنيستي»! والأكثر إثارة من ذلك هنا. فقد ساعدت الجمعية نحو خمسة من العمال الأجانب تم سجنهم لمخالفتهم القوانين، وسعت الجمعية بالتنسيق مع المسئولين في وزارة العمل وفي سفارات تلك الدول لتسفيرهم بعد توفير مستلزمات السفر لهم، فهناك لدى الجمعية، يعمل فريق من المتطوعين والمتطوعات معظمهن من ربات البيوت بروح إنسانية طيبة، وقد تم تنظيم حفلين في العامين الماضيين حصلت الجمعية من خلالهما على عدد من الداعمين لها ممن يوفرون لها المال للصرف لتغطية كلف بعض القضايا.

العدد 2018 - السبت 15 مارس 2008م الموافق 07 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً