العدد 2039 - السبت 05 أبريل 2008م الموافق 28 ربيع الاول 1429هـ

الطبيعة المزدوجة للمناورات الإسرائيلية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ «إسرائيل» اليوم أكبر مناورة تشهدها الدولة العبرية منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فالمناورة كما نقلت قيادة قوات «يونيفل» الدولية العاملة في الجنوب تحت سقف القرار 1701 إلى الحكومة اللبنانية ستكون «عسكرية شاملة وغير مسبوقة لجهة طبيعتها ومداها». ولا تقتصر المناورة على اختبار مدى جاهزية القطاعات العسكرية ودرجة التنسيق التي بلغتها الأجهزة الدفاعية الجوية والبرية والبحرية وإنما ستشمل أيضا اختبار مدى استعداد القطاعات المدنية على تحمل الضربات وقدرتها على التكيف وتنظيم عمليات الإغاثة والنقل والتفريغ وإعادة التعبئة والتجهيز.

المناورات التي بدأت اليوم ستكون شاملة من الشمال (حدود لبنان) إلى الجنوب (قطاع غزة) وهي تتضمن مجموعة احتمالات وتكتيكات منها استقبال الصواريخ البعيدة المدى والقادرة على التدمير وتكبيد الإصابات في القرى والأحياء المدنية. كذلك تشتمل التدريبات على تأمين الملاجئ وضمان أمن النازحين وصيانة الحياة اليومية العادية وتغطية حاجات الناس من مواد غذائية وصحية وإجراءات وقاية من الغازات والغبار الكيماوي.

«إسرائيل» تستعد. هذا على الأقل يمكن فهمه من تلك الإشارات السياسية التي أرسلتها تل أبيب للعواصم الدولية والإقليمية. وحتى تعطي حكومة إيهود أولمرت أهمية استثنائية للمناورة العسكرية - المدنية قرر وزير الدفاع إيهود باراك تأجيل زيارة كانت مقررة إلى ألمانيا إلى موعد يحدد لاحقا.

إلى الاستعدادات الميدانية واللوجستية والحشود العسكرية في الجولان وعلى حدود لبنان وتحديدا تلك المناطق والتلال المطلة على البقاع الغربي وشمال خط نهر الليطاني وجهت حكومة أولمرت تحيات سلمية تدعو دمشق إلى التفاوض والتفاهم والعودة إلى طاولة الحوار والبدء في إعادة فتح ملفات «الشرق الأوسط» بما فيها المقاومة وسلاح حزب الله.

المناورات مزدوجة الطبيعة. فهي عسكرية مدنية من جهة تستهدف تقوية معنويات الجبهة الداخلية التي تعرضت للاهتزاز، وهي سلمية حوارية من جهة تستهدف تأسيس حالات من الاستقرار على الحدود والجبهات الخارجية. وتشكل الطبيعة المزدوجة للمناورات الوعاء الذي يحتوي كل تلك التناقضات التي يمر بها الكيان العبري، وهي كما يبدو لم تستقر على اتجاه يحدد الوجهة التي قررت تل أبيب السير نحوها.

التيه والشتات

حكومة أولمرت تائهة وهي ضائعة بين خيارات التسوية أو المواجهة. والمفاضلة بين الخيارين تتطلب قراءة حسابية تتجاوز معادلات الربح والخسارة. ومثل هذه القراءة المختلفة تبدو حكومة، يرأس إدارتها أولمرت، غير قادرة على القيام بها نظرا لكلفتها المادية والمعنوية. وعجز حكومة أولمرت على اتخاذ مثل هذه الخطوة التفاضلية وتقرير الاتجاه نحو التسوية أو المواجهة يكشف في النهاية ذاك التخبط السياسي الذي يمر به الكيان العبري. المعضلة تبدو بنيوية وتتصل بالتاريخ الآيديولوجي للدولة. وعدم قدرة «الجيل الثالث» الذي يقود الأجهزة المدنية والعسكرية على تحديد المصلحة المشتركة والعليا والجامعة يؤكد وجود ذاك الخلل في التكوين السياسي للكيان والضياع بين خيار الحرب أو الجنوح نحو السلم.

حكومة أولمرت خائفة من صواريخ قطاع غزة ومترددة من مسألة التفاوض مع الضفة. وهي تريد التفاوض مع النظام السوري ومترددة في التعامل معه بشأن الجولان. وهي خائفة من صواريخ حزب الله ومترددة في إعادة المرتفعات المحتلة للدولة اللبنانية. وهي تريد تطبيع العلاقات مع الدول العربية ومترددة في الذهاب نحو السلام الشامل والعادل. وهي جزء من خريطة «الشرق الأوسط» الكبير أو الصغير القديم أو الجديد ولكنها مترددة في الاندماج بالمنطقة العربية ومحيطها الإسلامي. وهي ضد منظومة جامعة الدول العربية وتريد تفكيكها وفي الآن هي مترددة في الانخراط بمنظومة علاقات أوسع قبل الحصول على ضمانات تعزز دورها وتؤكد موقعها الخاص في إطار عقلية التفوق وسياسة الهيمنة. هذا التيه الإسرائيلي يعكس ضمنا ثقافة الشتات وعدم القدرة على تركيز الهدف.

منذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006 لم تتوقف تل أبيب عن المناورات العسكرية في الأراضي المحتلة وعلى الحدود الدولية القريبة من لبنان وسورية والضفة الغربية وقطاع غزة.

المناورات الإسرائيلية سياسية في جوهرها الثقافي. فهي تعكس نزعة الإحساس بالخوف على الكيان من التلاشي والاضمحلال وهي تلبي رغبة تميل نفسيا إلى تأكيد التفوق على الجيران من خلال استعراض القوة وتخويف الآخر.

المناورات ثقافيا تعني تطوير آيديولوجية تأسست على عقيدة الطرد. وطرد الآخر لا يمكن أن يتحقق من دون تغذية عناصر القوة لتأكيد التفوق وإشغال الجوار بهواجس أمنية ترفع من درجة القلق والتوتر بهدف دفع الخصوم نحو التقوقع على الذات أو التفكير بالرحيل والانتقال إلى مناطق آمنه خوفا من الموت. وهذه العقلية السلبية عبر عنها القاضي فينوغراد في تقريره العنصري بشأن إخفاقات العدوان على لبنان. فالقاضي انتقد حكومة أولمرت على تقصيرها في سياسة القتل والتدمير وأشار إلى ضرورة تعزيز القوة وإفهام دول الجوار أن جيش «إسرائيل» لا يقهر.

المناورات الشاملة وغير المسبوقة التي بدأت حكومة أولمرت تدشينها منذ صباح اليوم تتجانس ثقافيا مع تلك الملاحظات والإرشادات التي خلص إليها فينوغراد في تقريره. فالمناورات تقول إن تل أبيب جاهزة ومستعدة وهي ليست خائفة وتحذر قوى الجوار من المغامرة وارتكاب الأخطاء لأن الرد سيكون هذه المرة غير متوقع ويفوق كل الاحتمالات والتصورات.

سياسة طرد الخوف لتخويف الآخر ليست بعيدة عن التكوين الآيديولوجي لدولة تأسست على تاريخ طويل من «الانتصارات» المتتالية والمضمونة دوليا تحت سقف حماية إعلامية ومالية وعسكرية. وعقلية «الاستثناء» التي تسيطر على حكومة أولمرت تشكل قاعدة انطلاق لتفكير دخل الآن مرحلة الضياع التاريخي بين خيار القوة وخيار التفاوض.

لا يعرف متى ستنتهي المناورات التي بدأت اليوم ولكن الرسالة تبدو واضحة في عناوينها فهي من جهة تريد طرد الخوف وتأكيد التفوق وهي من جهة تعمل على بعث حال من الاستقرار في المحيط الطبيعي من دون تقديم تنازلات لعقد «تسوية تاريخية» شاملة وعادلة. وهذا النوع من الآيديولوجيا المركب من «التيه والشتات» سيكون مصيره الفشل والتلاشي والاضمحلال مهما حاول قادة تل أبيب التحايل على الزمن والمكابرة على الواقع وعدم الاعتراف بالمتغيرات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2039 - السبت 05 أبريل 2008م الموافق 28 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً