يبدو لي المشهد عن بعد كبلورة كريستالية فريدة تنهال في ثناياها ندف الثلج المتلألئة.
قدماي تبحثان بإصرار عن موطئ ممهد لخطوهما، وعقلي منشغل بالحفاظ على توازني على هذه الأرض الزلقة، وبحماية بنطالي فاتح اللون من الاتساخ، لكن عيني معلقتان على هذا المشهد الأثير الذي لا أودّ أن أفوته!
أحكم عقد لفافتي حولي، وأشد معطفي بعناية، وقلبي يصفق فرحا لمنظر الثلج وهو يتساقط بسخاء على الرؤوس التي لا تكل من الحركة والتقافز يمينا وشمالا.
تغمرني، إذا أقترب، حرارة روح الشباب التي لا تبالي بالبرد أو المرض، تتجسد في أقمصة قصيرة الأكمام، وفي كرة مدورة تتناقلها الأقدام، وقد تستقبلها الرؤوس المكسوّة بحبيبات الثلج أحيانا.
وإذ أعبر مع من رافقني حقل لعب الكرة، فإن اللعبة لا تتوقف من أجل أي من المارة، بل أنها تلتوي قليلا وتتكيف لتتشكل حول الطارئين عليها، ثم لا تلبث أن تلتئم وتواصل نشاطها بقوة.
ونحن إذ اجتزنا حقل لعب الكرة وهو أول ما واجهنا، تشدنا الآن ثلاثة مغريات، الحرارة، والنور، والرائحة... نحو نار الشواء التي تحلق حولها الرجال وبعض الأطفال وأيديهم تمعن عملا في التقطيع والشك والتقليب، بينما تتركز العيون على الدهن المتقاطر من الاسياخ وهي في طور النضوج وكأنها تستحثها على الاسراع في دورة حياتها لتنتهي وجبة ومكافأة لبطون خاوية تنتظر على أحر من النار التي يحتاجون إلى دفئها حقا في جو كهذا مثلج.
أستدير إلى وجهتي النهائية في ذلك الكوخ الخشبي الذي يقول قائل إنه مكان لجلوس الرجال، وإن ما للنساء إلا أن يجلسن في مهب الريح بين شجرتين نحيلتين على بساط يرتجف من البرد. حينها تهب ثورة الرفض في النساء الصامتات ويتقدمن بإصرار إذ يحتللن الكوخ الخشبي الصغير الذي يعجز عن حماية نفسه، فما بالك بحماية من يستظل فيه، من لسع القر.
تستقر النسوة والأطفال داخل الكوخ المستطيل الشكل، ذي الجدران المخلخلة التي تسمح للشخص أن يرى ما خلالها، التي تسمح للبرد أن ينفذ بكل حريته أيضا، و نا يبدأ الأطفال بقبعاتهم مختلفة الألوان ولفافاتهم التي تنعقد بعشرات الأشكال، يبدأون بالارتجاف بأنوفهم السائلة وخدودهم المتوهجة من لفح البرد، وهم يلتصقون بأمهاتهم كصيصان صغار لا يحميها زغبها الخفيف من البرد القارص.
وهنا تستعطف الأمهات بعض الخبز ولحم الشواء لأطفالهن الجياع، وردا عليهن، تتنقل أكواب الشاي الساخنة من يد إلى أخرى فيسود الحضور صمت منتش أو نشوة صامتة للأثر الذي أحدثه دفء الشاي في العروق، ولكن هذا الصمت سرعان ما يتبدد ليحتله صخب محتج حين تهب ريح الشمال العاتية ببلورات ثلجية كثيفة تطايرت وحطت في أكواب الشاي ليتحول ما في أيدي الجمع إلى شاي مثلج (آيس تي).
أما أنا، فوسط مهرجان التوهج الثلجي هذا وجدت كاميرتي تتقافز في يدي وهي تحاول احتواء كل مشاهد الحياة الملونة من حولي، وحين ألفيتها عاجزة عن مجاراتي دسستها في جيبي وبدأت أفتش عن قلم عله يعينني على جمع كل هذه الصور الثمينة في قصاصة من الورق.
بغبطة أم تشاهد بعينيها أطفالها الصغار وهم يلعبون بأمان حولها، كان قلبي يكتسي بالحبور وأنا أرقب كل ما حولي، من ألوان المعاطف المنتفخة التي يرتديها الصغار، إلى تعابير وجوه الأمهات المصاحبة لتعليقاتهن على أغرب رحلة شواء يشهدنها في حياتهن، التي قدر لها أن تكون وسط الثلج في مرتفعات منطقة بورتسموث البريطانية التي تطل على البحر، في وقت من العام كان متوقعا منه أن يكون دافئا، أو على الأقل أن لا يكون بهذه البرودة. ولا أتمالك نفسي من الابتسام.
أرقب الشبان وهم يستهينون بكل ما يرتجف له أجساد الصغار والكهول وهم يتجمعون بكل مرح لالتقاط الصور التذكارية جنبا إلى جنب ورؤوسهم مكللة بتيجان كريستالية صنعتها ندف الثلج الناصعة، وأرقب الأيدي المتهافتة على أواني الحساء (الشلة) الساخنة التي أعدت لتدفئ لسعات الزمهرير، وبعد الحساء تتقافز الأعين لتتعلق على نار الشواء المنقذة، وتتشنف الآذان لنداء شوّاء الرحلة حين يفرغ من إعداد أسياخ الكباب، وبالتالي توزيعها على البطون التي سأمت الانتظار.
تنشغل الأذهان في تخيل طعم الكباب الذي سيبرر هذه المغامرة الشوائية الثلجية العجيبة لعشرات المغتربين في مرتفعات الجنوب البريطاني، ويسيل اللعاب في انتظاره، بينما أختم خاطرتي التي كتبتها في ظهر ورقة مهملة بقلم استجيدته من حولي، أختمها بكتابة العنوان (ثلج وكباب على وزن تبر وتراب، ديوان أبي ماضي المعروف)، وأنا أردد ضاحكة: من غيرنا نحن أهل الجزيرة يستطيع أن يجمع معا سخونة الشواء وبرودة الثلج في رحلة واحدة؟
مريم المهدي - بريطانيا
العدد 2044 - الخميس 10 أبريل 2008م الموافق 03 ربيع الثاني 1429هـ