العدد 2079 - الخميس 15 مايو 2008م الموافق 09 جمادى الأولى 1429هـ

صدمة أربكان في 1996 والمصافحة بين العلمانية والإسلام

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (10)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تشبه، إلى حد ما، المصافحة بين الإسلامي نجم الدين أربكان والعلمانية تانسو تشيلر في تركيا، تلك المصافحة بين الفلسطيني ياسر عرفات والإسرائيلي إسحق رابين في حديقة البيت الأبيض. فالأولى إشارة إلى بداية اتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية تجمع بين النقيضين (الإسلام والعلمانية) والثانية بداية مؤشر إلى مرحلة جديدة فيما يسمى بالصراع العربي - الإسرائيلي. وبغض النظر عن قوة التحالف الائتلافي واستمراره في تركيا، أحدثت مصالحة أربكان - تشيلر هزة في الوعي الجمعي في الطرفين الإسلامي والعلماني وهي تشبه تلك الهزة الوجدانية التي أحدثتها مصافحة عرفات - رابين، فالمصافحتان حصلتا حتى لو تعرضتا لاحقا للسقوط.

كانت القضية الفلسطينية، ولاتزال، في وعي الإسلاميين قضية مقدسة ترتفع في جوهرها التاريخي والإنساني إلى حد الحق المطلق الذي لا يقبل القياس أو التكيف أو الخضوع للمساومة أو التفريط، كذلك تعتبر مسائل «التغريب» و «العلمانية» و «الفساد» في معايير الحكم الإسلامي. فتشيلر متغربة وعلمانية ومتهمة بالفساد واختلاس الأموال العامة وبالتالي فهي بالنسبة إلى مقاييس الإسلاميين أحد رموز الأتاتوركية التي جلبت الويلات على تركيا وأطاحت بمكانتها الاستراتيجية الإقليمية والدولية، ودفعت بها من قوة كبرى في مطلع القرن الماضي إلى قوة إقليمية محدودة التأثير في نهاية القرن.

ربما يعتبر بعض المحللين أن تركيا دولة إسلامية غير عربية وأنه لا شأن لها ولا تأثير لحوادثها في الحياة السياسية العربية من ناحية تشكيل الوعي أو على الأقل المساهمة في إنتاجه وتحديد أولوياته.

يجانب الرأي المذكور حقيقة الأمر، فتركيا مثلها مثل القوى الإقليمية الكبرى، العربية وغير العربية، كمصر وإيران، تلعب حوادثها سلسلة أدوار في إنتاج الوعي السياسي في المنطقة العربية، وتعتبر القوى المذكورة بمثابة النموذج - القدوة لقوى العالم العربي - الإسلامي.

ليس جديدا القول إن الانقلابات العسكرية التي هبت على المنطقة العربية منذ عشرينيات القرن الماضي استمدت نموذجها من عناصر التجربة الأتاتوركية التي اعتمدت الأسلوب القهري في تحقيق التحول القسري الفوقي في عاصمة السلطنة العثمانية. فالأسلوب الانقلابي، إلى المنهج العلماني الاستبدادي الذي اعتمده أتاتورك شكلا قدوة سيئة للنخب العسكرية والعلمانية في المنطقة العربية التي حاولت تقليد التجربة التركية في التعاطي مع المجتمع وبالتالي عزله عن السياسة واستبعاده من حركة الدولة وقراراتها وتصوراتها.

في مقاله «قراءة جديدة للشرق الأوسط» يعتبر المستشرق برنارد لويس أن تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي «استمرت فيها الديمقراطية تعمل وتنمو على رغم الصعوبات والعقبات، ففي تركيا لم تأتِ الديمقراطية موروثة من حكام امبرياليين، ولا مفروضة من أعداء منتصرين، كانت اختيارا حرا من الأتراك أنفسهم». (قراءات سياسية، مصدر سابق). وقياسا على القراءة المذكورة يمكن تحليل ما حصل في تركيا بعد أكثر من 80 سنة إلى حد كبير ما حصل ويحصل في المنطقة العربية بعد أكثر من 80 سنة على انسلاخ المقاطعات العربية عن السلطنة. فالتجربة التركية أدت إلى نمو الدويلات وتطورها باستقلال نسبي عن المجتمع وضد حركته السياسية وتحولاته الداخلية، كذلك أخذت التجارب العربية المقلدة للمنهج الأتاتوركي الانقلابي تتجه نحو عزلة شبه مطلقة للدولة الكيانية الحديثة والمعاصرة عن حركة تحولات المجتمع وتطوره شبه الذاتي وأحيانا المستقل عن تطور الدولة، وما نلحظه من حوادث عنف وصدامات في غير بلد عربي ليس بعيدا في مناخاته السياسية عن ذاك الذي يحصل في تركيا أو ذاك الذي سبق وحدث في إيران في العام 1979.

منذ الستينات تشهد تركيا خضات داخلية تعبر عن احتجاج المجتمع ضد سيطرة الدولة وإشرافها الكلي على حركة الناس وحقوقهم الفردية ومطالبهم الاعتقادية، وإذا نجح الجيش في قيادة انقلاب عسكري ضد إصلاحات عدنان مندريس وتنفيذ حكم الإعدام به ثم قيامه بانقلاب آخر في الثمانينات لتطويق تفاعلات الحدث الإيراني والسيطرة على العنف الجارف في الشارع فإنه في النهاية اضطر للتنازل جزئيا عن السلطة وإعادة الحياة المدنية والسماح للأحزاب السياسية بممارسة دورها مع احتفاظه بحقه في التدخل إذا طمحت قوى المجتمع السياسي الإسلامية إلى تعديل صلاحيات الدولة المطلقة وهويتها الأتاتوركية العلمانية.

لاشك في أن أربكان اكتشف هذه المفارقة بين إعادة الحياة المدنية وفي الآن ضبطها تحت سقف سيف الأتاتوركية، وهو أمر ساهم في بلورة وعي مركب ظهر مرات جلية في فترة حكم الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال الذي حاول موازنة الدستور الأتاتوركي الرسمي (العلماني) ودستور المجتمع الموروث تقليديا (الإسلام) باتجاه إعادة تشكيل وظائفه ليتناسب مع حاجات الناس.

يشبه القلق الذي كان يعيشه أوزال في السلطة ذاك القلق الذي بدأ يعيشه أربكان بعد فوزه كأكبر قوة سياسية نالت أكبر نسبة من المقاعد من دون أن ينال الأكثرية التي تسمح له بتشكيل حكومة تقتصر على عناصر حزبه.

شكل التوازن المذكور مفارقة كبرى في وعي أربكان، فهو إما أن يرفض المصافحة ويحافظ على طهرية المقدسات ويرفض تلوثها بالسياسات الأتاتوركية وإما أن يقبل بفكرة التعايش والاعتراف بالآخر انطلاقا من مبدأ التعددية وحق المختلف في التمثيل النيابي والحكومي.

اختار أربكان التحالف المصلحي الذي يقبل بالتكيف مع الآخر شرط أن يقبل المختلف معه حقه أيضا في تشكيل حكومة برئاسته تأخذ توازن المصالح في الاعتبار. واختيار أربكان التحالف مع المختلف على خيار القطع معه يشير إلى تطور مهم في الوعي المفارق يشبه ذاك الذي حصل على الجبهة الفلسطينية بين عرفات ورابين. فأربكان حدد أولوياته بين العزلة السياسية والانكفاء مرة أخرى إلى دائرة التجمع العصبوي المغلق وعالمه الخاص المستقل عن المحيط وتأثيراته وبين كسر الحاجز النفسي على المستويين: الدولة وحامي شرعيتها الانقلابية (الجيش) والمجتمع وحامي شرعيته التاريخية (الإسلام)، فاختار منهج الوسط الذي يجمع بين خطين ويعيد تركيب المتناقضات في سياسة شديدة التعقيد والتعرج تمزج بين الموقف المبدئي والممارسة المصلحية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2079 - الخميس 15 مايو 2008م الموافق 09 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً