العدد 2089 - الأحد 25 مايو 2008م الموافق 19 جمادى الأولى 1429هـ

قصة الأيام الثلاثة التي تحولت إلى 68 عاما... من بحيرة الحبانية إلى البحرين

حديث الذكريات مع مهندس التعليم الصناعي سعيد طبارة (1):

«هذه الأرض بلادي، حين شددت الرحال من بيروت إلى المنامة في العام 1940، دار في خلدي أن تكون الرحلة قصيرة لثلاثة أيام فقط أحدد فيها قراري وأنظر فيما ينتظرني، وأنا حين أتيت إلى البحرين في ذلك الوقت، لم تكن الكهرباء قد دخلت البيوت بعد، والماء يأتي من السقائين، لكن رحلة الثلاثة أيام تحولت إلى 68 عاما في هذه البلاد الطيبة».

كانت تلك العبارة، هي المدخل لحوار جميل مع مهندس التعليم الصناعي سعيد طبارة، الذي يعرفه الكثيرون على أنه مهندس التعليم الصناعي في البحرين، الذي يشهد له الكثير من أبناء البلد الذين يتقلدون اليوم مناصبَ عليا في الدولة، بأنه كان واحدا من أولئك الذين أحبوا كل شبر من تراب الوطن.

خطاب إلى المستشار

في هذا الحوار، سنذهب إلى عقد الأربعينيات من القرن الماضي، منذ أن أرسل سعيد طبارة خطابا إلى المستشار تشارلز بلغريف للعمل في البحرين رضيعته وفيقة طبارة تدير مدرسة خديجة الكبرى بالمحرق... لكن لندع الكلام لمحدثنا الذي يقول: «كنت أعمل في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت في قسم المغسلة، وكان لدي نحو60 موظفا من نساء ورجال، وفي أحد الأيام جاءتني الوالدة ومعها برقية من مستشار البحرين السير تشارلز بلغريف، وكانت البرقية تحمل سؤالا: «هل لاتزال تنتظر التوظيف في البحرين؟»، ثم قرأتها إلى الوالدة وشاورتها في الموضوع فأبلغتني بأن الأمر يعود لي، وفعلا، بدأت في الاستعداد للرحلة، وتوجهت إلى مدير مستشفى الجامعة الأميركية ميلر، فعرضت عليه الأمر، وبحثت معه رغبتي في السفر إلى البحرين، حينها قال لي: «نحن سعداء بعملك معنا، ونتمنى لك التوفيق، ولك عليّ أن أحفظ لك الوظيفة لمدة ثلاثة أشهر فاذهب إلى البحرين وانظر فلربما قد تعود من جديد».

في برقيته، طلب مني تشارلز بلغريف أن أتوجه إلى بغداد لإجراء لقاء مع جفري هاتشينجز وهو مدير الكلية الصناعية في بغداد، وتوجهت بالسيارة من بيروت إلى دمشق، ومن دمشق إلى بغداد عن طريق شركة مواصلات برية. جئت إلى بغداد ونزلت في فندق سميراميس بشارع الرشيد على النهر واتصلت بهاتشينجز الذي طلب مني أن أحضر إلى الكلية في صباح اليوم التالي.

من بحيرة الحبانية إلى البصرة

وفي الموعد، توجهت إلى الكلية الصناعية وقابلت هاتشينجز وكان رجلا كبيرا في السن وله لحية وشوارب «عنتريات» كما نقول، وهو شخص محترم وشعبي، وقد تحدثت معه كثيرا وارتاح لي، وبعد ذلك قال لي: «في صباح الغد، سأرسل لك سيارة لتأخذك إلى بحيرة بالحبانية وهناك ستركب طائرة بحرية لتصل إلى البصرة، وكانت تلك الطائرة ذات طابقين، علوي وسفلي، وركبت في الطائرة من بحيرة الحبانية إلى شط العرب في البصرة، وفي شط العرب كان هناك فندق محترم درجة أولى، وبت في الفندق ليلة واحدة استعدادا للسفر في اليوم التالي من شط العرب إلى البحرين.

وفي اليوم التالي، توجهت من الفندق إلى الطائرة، وطارت بي من شط العرب ونزلت في البحرين حيث اتجهت إلى منطقة في القضيبية بالقرب من فندق عمر الخيام، وكانت المنطقة في السابق بحرا، وبالقرب منها مرفأ صغير، وبعد قليل من وصول الطائرة جاء شاب أسمر ينادي بصوت عالٍ: سعيد طبارة... سعيد طبارة، توجهت إليه وقلت له أنا هو، فسألته من أنت فقال أنا سكرتير مدير التعليم «فالانس» كمال المهزع، وأود الإشارة إلى أنه في العام 1940 ليست هناك فنادق في البحرين، وكان الموجود فقط ما يسمى «الريست هاوس» التابع لشركة الخطوط الجوية البريطانية، وكان موقعه في منطقة رأس الرمان بالقرب من مركز ابن سيناء الصحي، لكن مرافقي أخذني إلى مكان يسمى (مسافر خانة) كان قريبا من دائرة الشرطة القديمة والبريد القديم بالمنامة ويقع بالقرب من موقف باصات خشبية.

يوم اللقاء مع «رقية»

في ذلك المكان، أتذكر موقفا طريفا، فقد خصصت لي غرفة في المبنى المشيد من الطين وخشب الدنجل والمنقرور، وبه 6 أسرة حديد وأعطوني سريرا في الزاوية وخصوصا أنني وصلت الصباح باكرا ولم يكن هناك معي أحد، ووضعت حقيبتي تحت السرير وما أن حان وقت المغرب حتى جاء خمسة من الرجال البدو شعرهم طويل، وكان عمري آنذاك في العام 1940 في العشرين، وشعرت بالخوف من الجماعة، وقد بدوت بينهم كالولد الصغير، وفي اليوم ذاته مساء اتصلت برضيعتي وفيقة في المحرق وأبلغتها بالقصة وقلت إنني أريد أن أخرج من هذا المكان، وطلبت منها أن تتدبر لي حلا، فلم استطع الاستمرار، وفي عصر اليوم التالي، جاءت سيدة إلى «المسافر خانة» تسأل عني، وقابلت المرأة وقد رأيتها تلبس قناع الوجه النسائي المعروف باسم «البطولة». وكنت أراها للمرة الأولى، تحدثت معها فقالت أنا «رقية» أعمل لدى المديرة وفيقة وجئت لآخذك معي إلى المحرق، فقلت هذه الساعة المباركة، ونزلنا من الفندق إلى موقف «الباصات» وأصحابها ينادون: المحرق... المحرق، فركبنا «الباص» ودفعنا أجرته «بيزتين» تقريبا، ولا أتذكر كم تساوي الآن، لكنني أتذكر أن راتبي يبلغ 175 روبية (يعني 13 دينارا ونص الدينار)، وكنت أدفع منها 25 روبية إيجارا للمنزل، وفي ذلك الوقت كانت «الروبية» تتكلم! ولها وزن.

خمس عنزات في «الباص»!

ركبنا في «الباص»، وأنا كنت عطشانا وسمعت أحدهم يقول: حنينية، فسألت عن ما هو الحنينية؟ فقالت لي رقية هذا ماء عذب، فطلبت أن أشرب، فسكب لي البائع الماء في علبة أناناس فاضية، ونحن في «الباص»، جاء شخص معه 5 عنزات، وكم شدة من البرسيم، وبقينا ننتظر بقية الركاب في «الباص» الذي كان فيه: أنا ورقية وخمسة عنزات وشدات برسيم وصاحبهم، وبعد أن امتلأ «الباص»، تحرك نحو جسر الشيخ حمد الذي يربط المنامة بالمحرق، وكان الشخص الذي يقف في بداية الجسر لتسلم رسوم العبور المرحوم محمد حسين حجي باقر تاجر المفروشات المعروف، وتعرفت عليه بعد ذلك من خلال المرحوم أحمد العمران. المهم، دفعنا ووصلنا إلى أول الجسر، ولابد من أن تختم العبرة، فإذا كانت حظك جيدا فإنك ستركب مركب «لنش» وهو يذهب مباشرة إلى المحرق، أما إذا لم يحالفك الحظ فستركب «الشراع» الذي يعتمد في حركته على الهواء، ويذهب إلى الحد أولا، ولله الحمد صار حظي مع اللنش، ووصلنا إلى المحرق حيث كان صاحب السيارة المرحوم مسلم بهمن ينتظرنا ووصلنا إلى منزل رضيعتي وفيقة رحمها الله، وجلست معها، وأبلغتها بأنني لا استطيع البقاء في مسافر خانة ، وفي اليوم التالي استأجرت لي بيتا بالقرب من بيتها، وكان عبارة عن مأتم في السابق، وكان يسمى بيت بوكمال، وكانت أجرته 8 روبيات في الشهر، وأحضرت لي رضيعتي سريرا وفرشوا لي الأرض ببعض البساط وكان في المنزل 5 غرف وبها رواشن ومطبخ، وأنا استخدمت الغرفة العليا في البيت المشيد من الجص، وله باب خشب كبير وبه خوخة (الباب الصغير)، وفي اليوم الثالث لي في البحرين انتقلت إلى المحرق وسكنت هناك.

الفانوس والسقاء ورجب

كانت وزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت، تصرف لكل مدرس فانوسا يستخدمه في الخروج ليلا، وحين كنت أذهب للمرحومة أختي فإنني أسير في الطريق مستخدما كذلك الفانوس... في البيت لا يوجد ماء، ولكن كان السقاء يأتي بالجربة (قربة الماء)، ومن حسن حظي أن السقاء كان له ولد اسمه رجب، واتفقت مع السقاء على أن أعطي ابنه رجب 3 روبيات في الشهر ليعمل معي في تنظيف البيت وخدماته كشراء الخبز وغيرها، وكان لدي جحلة وحب صغير للشرب عليه غطاء خشب، وفي الحمام كانت لدي جحلة كبيرة للسباحة.

أما بالنسبة للسقاء، فكان نظام أجرته يسجل باستخدام قطعة من الفحم يخط بها خطوطا على جدار المنزل، وبعد مرور أسبوع يحسب عدد مرات السقاية فأدفع له أجرته التي كانت في حدود «أربع آنات»، وكانت أختي المرحومة تبعث لي العشاء ليلا، وفي النهار اتغدى في المنامة، وأحيانا تحضر لي رقية التي تعمل مع أختي الطعام.

بيت «بن مطر»

في تلك الأيام، أحضر لي أحدهم «عنزة»، فما عساني افعل بها؟ تركتها في المنزل وطلبت من رجب ان يشتري لها البرسيم لكن العنزة لا تتركني أنام ليلا، فأهديتها إلى رضيعتي ولا أدري ماذا فعلت بها بعد ذلك، وبعد مدة، كانت الوالدة تستعد للحضور إلى البحرين من بيروت، وقمت بالاستعدادات لأنني استأجرت بيتا لايزال إلى الآن موجودا وهو بيت بن مطر، وأخذته إدارة الثقافة لتحوله إلى مركز للتراث، وهو البيت المجاور لمدرسة المعاودة وبلدية المحرق، وكان عبارة عن أربع حجر وإيجاره 21 روبية في الشهر، وكان الجميل فيه أن كل حجرة لها ليوانها وفيها بادكير (للتهوية) وتفتح الشبابيك وبالذات من جهة الشمال ليأتيك الهواء جميلا ومنعشا، وكان بالقرب البيت عين ارتوازية ماؤها دافئا، كنت أرى الناس تأتي ليلا للسباحة وكنت أسبح معهم وقد صنعت لي كرسيا وتعلمت لبس الوزار (الإزار)، وكنت مرتاحا للغاية للسكن في ذلك البيت.

المستشار كما أعرفه

وحين جاءت الوالدة، استأجرت بيتا آخر في شارع الشيخ عبدالله (سوق الذهب) وهو بيت محمد علي السرو، وكان عبارة عن حجرتين، وحمام وسطح، وقبل حضور الوالدة استأجرت المنزل، ونسيت أن أبلغك أنه بعد مجيئي إلى البحرين، احضروا مدير المدرسة الصناعية في بغداد جيفري هاشكينجز إلى البحرين كمدير للصناعة، وصرنا نتبع السير تشارلز بلغريف مباشرة ولسنا تابعين لوزارة التربية والتعليم، وفي الحقيقة، كثير من الناس لا يحبون المستشار وأنا اعرفه بخلاف الآخرين فهو رجل شريف ومنتظم وكان يمر صباح كل يوم مع الشرطي «بلال» بالقرب من مقبرة المنامة القريبة من مدرسة الصناعة بالمنامة، وكنت أراه حين يمر كل يوم، والمستشار هو فنان رسام وكذلك كان هاتشينجز الذي كان يأخذ أدواته وفرشاته ويذهب إلى المناطق والأسواق ليبدأ الرسم.

ذات مرة، احتجت إلى إعداد بعض الطاولات والكراسي وكنت أدفع ثمنهم بالتقسيط لاستخدمهم في البيت لوالدتي، وفرشت المنزل لاستضافة والدتي. من المواقف الطريفة أيضا، أن الوالدة وصلت بالباخرة، ولم يكن هناك ميناء في السابق، فكانت الباخرة تقف في منطقة قريبة من الشاطئ فتذهب القوارب الصغيرة لنقل المسافرين، وكما تعلم، كانت النساء، كل النساء يلبسن العباءة، حتى اليهوديات يلبسنها، فأخذت عباءة لوالدتي قبل وصول القارب إلى الباخرة، وطلبت منها أن ترتديها فاستغربت! لكنني أبلغتها أن كل النساء ترتدي هذه العباءة.

جاءت والدتي واستقرت معي، وفي العام 1945 تزوجت وعشت مع زوجتي ووالدتي في المنامة حيث ماأزال أعيش حتى الآن.

طلاب متحمسون ومتميزون

في تلك الأيام، مطلع الأربعينيات، كان الاستيراد من بريطانيا صعبا فاستوردنا أدوات من الهند ومنها المخارط، وفتحنا قسم الآلات، وكانت المخارط عبارة عن محرك كهربائي كبير ويحركها شافت كبير وبه أحزمة، وكان قسم الآلات خطرا في الحقيقة، ثم أدخلنا الحدادة واللحام بالأوكسجين، وأعطتنا شركة بابكو مولد أوكسجين، واستغنينا عنه بعد ذلك حيث كنا نحضر الأوكسجين من مصنع يتيم ثم توسعنا وأدخلنا أقساما أخرى كقسم السيارات، والتطوير الذي جرى في مدرسة الصناعة، استطيع القول إنه ليس لي الدور الأكبر فيه، كما يقول المثل اليد الواحدة لا تصفق... كان معي المرحوم أحمد الشوملي الذي أرسلته إلى مصر بعد ذلك، وآخرين سيأتي ذكرهم.

العريض والشوملي والجودر وسيار

حين بدأت عملي في مدرسة الصناعة، جاءني شاب صغير وقال: أريد دخول مدرسة الصناعة، فقلت له ما اسمك: قال اسمي جليل العريض، أخذته وأجريت له الامتحان ووجدته نابغة في الحقيقة، ومع الأسف الشديد، حين جاء جليل وأجرى الامتحان، ذهب بعد ذلك واتجه إلى المدرسة «الغربية»، وبعد ذلك جاءني ثلاثة شبان هم: المرحوم احمد الشوملي، والمرحوم عبدالرحمن الجودر، والصحافي المخضرم علي سيار، وكانوا ممتازين فعلا، وكانوا قد أنهوا المرحلة الابتدائية، وفي ذلك الوقت، يأتي غالبية الطلاب ولم ينهوا بعد المرحلة الابتدائية، فكنت أقدم لهم مناهج خاصة في الثقافة العامة والمبادئ، وبعد أن أنهى الثلاثة دراستهم أرسلناهم إلى المدرسة الصناعية في القاهرة، وكان معهم في البعثة المرحوم الشيخ خالد بن محمد آل خليفة، ووالدته الشيخة نيلة وشقيق الشيخة لولوة الخليفة، وبعد سنتين، كتب لي علي سيار رسالة وقال أريد أن أتجه إلى دراسة أخرى، وكان سنه تحت سن السادسة عشرة لكننا رفعنا سنه حتى نستطيع إرساله، فقلت لهاتشينجز ان سيار يريد أن يدرس الآداب، فرد علي بالقول: «إذا أراد أن يدرس الآداب فليرجع إلى البحرين»، لكن الثلاثة رجعوا بسبب بعض المشكلات ولكنهم كانوا من الأوائل.

مجموعة أعتز بها

بعد ذلك، أرسلت احمد الشوملي إلى لندن للتخصص في الرسم الصناعي، ولأنه كان ذكيا كان يساعد المدرس في التدريس في لندن، ورجع أحمد وبدأ يعمل مدرسا معي ومن ضمن الذين أتوا إبراهيم الهاشمي، وأتذكر أنه جاء لي ومعه حسن عبدالله منفردي الملحق الثقافي في لندن وهو متقاعد الآن بعد أن عمل لمدة 25 سنة وهو متزوج من ابنة المصور الشهير خليل شكيب، والهاشمي، حينما التحق بمدرسة الصناعة، كان صغيرا بحيث لم يكن يطال الطاولة، فصنعت له عتبة لكي يتمكن من العمل على الطاولة.

اعتز كثيرا بتلك المجموعة من الطلاب الذين بدأوا مشوارهم الأكاديمي بنيل شهادة المدينة البريطانية «السيتي أنغل»، ومنهم من واصل مشواره فحصل على البكالوريوس ثم الماجستير ثم الدكتوراه كإبراهيم الهاشمي الذي أصبح في يوم من الأيام رئيسا لجامعة البحرين.

في الحلقة القادمة، خطوات مدروسة مهدت لتطوير التعليم الصناعي.

العدد 2089 - الأحد 25 مايو 2008م الموافق 19 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً