العدد 2106 - الأربعاء 11 يونيو 2008م الموافق 06 جمادى الآخرة 1429هـ

حكومة لبنانية على صورة نظام طائفي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى الآنَ لم ينجح رئيس الحكومة المكلّف فؤاد السنيورة في تشكيل وزارة تتألف من مختلف الأطياف كما نصّ «اتفاق الدوحة». والتأخير في تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» يعطي فسحة للمزيد من التشنج الأهلي الذي وصل في حرارته إلى درجة الغليان.

هناك الكثير من التأويلات السياسية التي تطمح إلى تفسير أسباب التأخر، إلاّ أنّ العامل الأساسي الذي يعرقل يكمن في طبيعة التوزيع الطائفي والمذهبي والمناطقي للحقائب والمناصب. فالمشكلة تبدأ في النظام العام وهي تتمدد إلى مختلف المؤسسات؛ لتعطل في النهاية نهوض فكرة الدولة الدستورية.

أساس الانقسام في لبنان ليس سياسيا وإنما السياسة تنقسم على تعارضات طائفية ومذهبية ومناطقية تعيد تشكيل التحالفات وفق منظومة تعتمد آليات نظام عام وظيفته الأساسية ضمان حصص المجموعات الأهلية والدفاع عنها وعدم التفريط بها حتى لو أدّى الأمر إلى زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى الأمنية.

عدم نجاح السنيورة في تشكيل حكومة وطنية بالسرعة المفترضة زمنيا يعطي من جديد فكرة موجزة عن طبيعة تكوين نظام تأسس على قواعد طائفية ومذهبية ومناطقية. فهذا الكيان السياسي يطلق عليه «جمهورية لبنانية» ولكن الجمهورية تتألف من «دويلات طوائف». والبرلمان الذي يمثل السلطة التشريعية يتألّف من مقاعد مذهبية ومناطقية. والحكومة التي تمثل السلطة التنفيذية تتألّف من حقائب طائفية ومذهبية ومناطقية.

لبنان الدولة غير موجود في الخريطة السياسية. ولبنان المقاومة غير موجود في البنية السكّانية للجمهورية. فالدولة مؤسسة دستورية تعتمد آليات نظام ينتج طائفيين ومذهبيين. المقاومة عقيدة سياسية تتجاذبها استقطابات مذهبية وطائفية ومناطقية تعطل عليها وظيفتها الاستراتيجية وتستدرجها إلى «كوكتيل» أهلي قابل للانفجار في كلّ الاتجاهات.

هذا الانقسام المبنيّ على نظام علاقات يعتمد معادلة المحاصصة (الحصص) عطل تقليديا قيام دولة وطنية وحكومة وطنية ومقاومة وطنية. فالدولة مفككة طائفيا، والحكومة منشطرة مذهبيا، والمقاومة محصورة مناطقيا. وبسبب هذا الانقسام العضوي لكلّ المؤسسات والمقاومات تولّدت في الشوارع اللبنانية سيكولوجيات طائفية تغذي مراكز القوى وأمراء المناطق بطاقات بشرية قادرة على منع تطور العلاقات السياسية وتقدمها عقلانيا باتجاه وحدوي يتجاوز الانقسامات الأهلية. وبهذا المعنى لا يُوجد في لبنان معارضة وموالاة أو أقلية وأكثرية.

المعارضة والموالاة (الأقلية والأكثرية) نظريا غير موجودة عمليا في لبنان وكذلك في أيّ بلد يعتمد نظام المحاصصة الطائفي والتوزيع المذهبي للمقاعد النيابية والحقائب الوزارية. فكرة المعارضة والموالاة نظرية سياسية بامتياز لا تنهض أيديولوجيا إلاّ في الدول المتقدّمة في علاقاتها الاجتماعية وتطورها الاقتصادي ورؤيتها الثقافية. وهذا النوع من التصنيفات السياسية الذي يقوم على انقسام بين «العمّال» و»المحافظين» في بريطانيا أو بين «الديغولية» و«الاشتراكية» في فرنسا أو بين «الجمهورية» و«الديمقراطية» في الولايات المتحدة من الصعب مقاربته سياسيا في كيانات تتحكّم في علاقاتها الأهلية «دويلات» طوائف ومذاهب ومناطق وعشائر.

لبنان في نظامه السياسي عطل إمكانات تطوّره في ميدان التقدّم الدستوري؛ لتشكيل دولة مدنية قادرة على احتواء آليات الطوائف وتطويعها تحت سقف المصلحة الوطنية المشتركة. لذلك من الصعب أنْ نقرأ في لبنان وجود نوع من الانقسامات السياسية البعيدة عن الفرز المذهبي والاستقطابات الطائفية والمناطقية. حتى تلك الشرائح المتمردة على طوائفها ومذاهبها ومناطقها لا تعطي فكرة دقيقة عن التجاذبات الأهلية في لبنان. فتلك الشرائح تعاني دائما من مشكلة عدم الولاء للطائفة والمذهب والمنطقة وفي الآنَ متهمّة من خصومها بأنها «خائنة» ولا تمثل سوى نسبة ضئيلة ومعزولة في الدائرة التي تتعامل معها بحذر وقلق.

مأزق الدولة والمقاومة

هذا التوصيف للمشهد اللبناني يقدّم صورة مكثفة عن مأزق الدولة وأزمة المقاومة. فالدولة غير قادرة على توليد مؤسسات جامعة تتجاوز حدود الولاءات الطائفية والمذهبية والمناطقية. والمقاومة غير قادرة على إطلاق ديناميات سياسية تتجاوز آليات الفرز الطائفي والمذهبي والمناطقي في لبنان. وفي السياق نفسه يمكن فهم إصرار «الجنرال العلماني» ميشال عون على تكرار مقولة استرداد «حقوق المسيحيين» من خلال تشجيع تنافر السنة والشيعة في مناطق المسلمين. فالمنطق الذي يتحكّم بلغة الجنرال «العلماني» يستند إلى نظام محاصصة أعطى الطوائف والمذاهب والمناطق مجموعة مقاعد وحقائب لا صلة لها بمفهوم الدولة ولا اتصال لها بفكرة المقاومة. الجنرال «علماني» يتحدّث بلغة طائفية حتى لو أحرجت الكثير من الحلفاء والأنصار في الجانب الآخر. كذلك لا يتردد في الكلام عن «مناطق المسيحيين» وخصوصية «أمن المسيحيين» ويُهاجم المسلمين ويتهمهم باغتصاب «حقوق المسيحيين».

إشكالية الجنرال ليست خاصة به، فهي منظومة عامّة تتألف منها معظم الأحزاب والمنظمات وحتى النقابات. فالكلّ في هذا المعنى سواسية في التعامل مع مفهوم الدولة وفكرة المقاومة ولذلك يمكن فهم تلك الأسباب التي ساهمت في تأخير تشكيل حكومة «وحدة وطنية» برئاسة السنيورة. فالحكومة نظريا «وطنية» ولكنها طائفية مذهبية مناطقية عمليا. والحكومة يفترض أنْ تكون «وحدة» ولكنها فعليا موزّعة على وحدات طائفية ومذهبية ومناطقية تتجاذب المواقع في إطار علاقات أهلية متوترة وقابلة للانفجار حين تتوافر الظروف الدولية والإقليمية والعربية والجوارية.

المسألة اللبنانية معقدة ومتشابكة ومتداخلة وهي تشبه طبيعة الكيان السياسي وتضاريسه الجغرافية. فالدولة ضعيفة ولا تستطيع الخروج على قواعد نظام يولّد دائما الانقسامات الطائفية والمذهبية. والمقاومة مهما نجحت في مواجهة العدو والتصدّي له وإفشال مخططاته لا تستطيع تجاوز التقسيمات والتوزيعات والحصص المحكومة بمعادلات الطوائف والمذاهب. والهوية اللبنانية غير موجودة إلاّ في السجلات وجوازات السفر وهي على أرض الواقع موزّعة على «هويات» طائفية ومذهبية يصعب تجاوزها وتطويرها إلى علاقات سياسية أعلى وأرقى.

إلى هذا الخلل الموضعي والعضوي تعاني المسألة اللبنانية من محيط جغرافي مضطرب وجوار سياسي غير قادر على التأقلم مع صيغة تعايش تفترض التساكن والتراضي والتوافق حتى تضمن النمو والاستقرار.

هذا التوصيف يشير في النهاية إلى صعوبة التوصّل إلى حل سياسي في بلد تتجاذبه علاقات أهلية موصولة إقليميا ومعطوفة على ملفات ساخنة تنتظر المعالجة في الإطارين الجغرافي والدولي. أكثر ما يطمح إليه «اللبناني» الآنَ هو تطويل مدة التسوية المؤقتة (هدنة الطوائف) وعدم توريط «اتفاق الدوحة» في كوكتيل (فسيفساء) متشعب المخارج والمداخل ومتنوّع الأشكال والألوان. وحكومة «الوحدة الوطنية» التي كلّف السنيورة بطبخ موادها وتوليف عناصرها لن تخرج على قواعد اللعبة التي أسس النظام شبكاتها الطائفية والمذهبية والمناطقية. فهذا البلد تأسس على أزمات، وأزماته ليست «لبنانية» بالكامل وإنما تتشكل من خليط (كوكتيل إقليمي) يعكس داخليا ذاك القلق في محيطه الجغرافي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2106 - الأربعاء 11 يونيو 2008م الموافق 06 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً