العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ

هدنة غزّة... مناورة أم مسار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

نجاح الدبلوماسية المصرية في التوصّل إلى تسوية مؤقتة (تهدئة لمدة ستة أشهر) تبدأ من صباح اليوم بين سلطة حماس في قطاع غزّة وحكومة إيهود أولمرت يؤكّد من جديد أهمية الجغرافيا السياسية في صوغ القناعات وتعديل زوايا الأيديولوجيا. فالدور المصري الذي نشط دبلوماسيا على مسار غزّة - تل أبيب خلال الفترة الماضية أعطى الموقع الجغرافي ثقله الخاص في تصويب سياسة كادت تقوّض القطاع بسبب إقفال المعابر وتجويع الناس ومحاصرتهم من مختلف البوابات.

البوابة المصرية كانت المكان الوحيد الذي لم تنجح تل أبيب في إغلاقه. ومن خلال هذه البوابة الجغرافية نجحت الدبلوماسية المصرية في تحقيق اختراق ربط الإنساني بالسياسي والسياسي بالأمني وأدّى إلى تشكيل قناعات تتعامل بواقعية مع ظروف المكان وحاجات الناس.

التهدئة التي بدأت اليوم يرجّح أن تلعب دورها في توليد آليات تعيد تشكيل رؤيا براغماتية لدى حركة حماس سيكون لها أثرها في تعديل الأولويات باتجاه سياسي يُقارب النهْج الذي اعتمدته حركة فتح حين انتقلت من موقع فصيل يقود برنامج التحرير إلى قوّة تدير السلطة. والتقارب المتوقع بين حماس وفتح يعكس في نهاية الأمر تلك المقاربة المطلوبة على صعيد التعامل في إدارة الصراع وإشكاليات التفاوض مع الاحتلال.

تجربة حماس في إدارة غزّة لمدة سنة من دون رقابة ساهم ميدانيا في تشكيل قناعات تختلف في تعاملها اليومي مع حاجات الناس عن تلك الدوافع الأيديولوجية التي أسست انقلابها على السلطة وانفرادها بحكم القطاع. فالأفكار التي انطلقت منها لتبرير الانقلاب أخذت تتلاشى يوميا حين اصطدمت الحركة بتعقيدات الواقع وشروط المكان. البداية كانت سيئة حين أخذت الحركة باحتلال المكاتب وتمزيق الصور ودوس كوفية ياسر عرفات (أبوعمّار) ثم اصطدمت بقوى شعبية (عائلات وإحياء ومراكز تقليدية) لا صلة لها بالتنظيمات السياسية والأحزاب الايديولوجية. والتصادم مع الشارع دفع الحركة إلى استخدام القوّة لتطويع مواقع الاعتراض الأمر الذي كشف عن معضلة التعامل العنيف مع الناس. عزلة حماس في القطاع لم تقتصر على القوى العفوية في الشارع وإنما انتقلت لتتصادم جزئيا مع أحزاب ومنظمات وفصائل تختلف معها في رؤيتها الأيديولوجية وبرنامج الأولويات.

حتى المواجهة مع حكومة أولمرت سارتْ في خط متعرّج وتراجعي. فاستخدام الصواريخ وتوسيع مداها الجغرافي ترافق مع نمو سياسة اتسمت بنوع من البراغماتية وصدور تصريحات تطالب بتبادل الأسرى ووقف النار وتحقيق هدنة والاعتراف الضمني بدولة ضمن حدود العام 1967. التصعيد في إطلاق الصواريخ دفاعا عن حرمة القطاع وأمنه جاء في وقت أخذت حماس تطلق تصريحات سياسية تعكس رغبة في تدوير الزوايا الأيديولوجية؛ لتكون قادرة على حملها في مواجهة الهجمة الإسرائيلية وخطط الحصار والتجويع والاقتلاع.

هذا المسلك التراجعي لا يعني أنّ حماس تخلت عن مشروعها المبدئي وتنازلتْ عن فلسطين (أرض وقف) وفكرة التحرير الشامل (من البحر إلى النهر). فالمسلك أعاد ربط الأيديولوجيا بالواقع وساهم في تشكيل قناعات ساعدت قادة حماس في غزّة على إعادة النظر في تلك القراءة المضطربة لحركة فتح ومشروعها السياسي. فالتجربة الميدانية في غزّة على رغم قساوتها أعطت مادة عملية كانت كافية لتشجيع حماس على تقريب رؤيتها من فتح وتفهم تجربتها المديدة في مجال النضال الوطني والكفاح المسلّح. وهذا ما يُمكن ملاحظته من تلك الإشارات والاتصالات التي تدل على وجود قناعة أخذت تتبلور من التجربة وبدأت تدفع نحو تأسيس تفاهم مع فتح باتجاه إعادة ربط مصير القطاع بمستقبل الضفة.

احتمالات مفتوحة

التهدئة المؤقتة التي نجحت الدبلوماسية المصرية في صنعها تشكل فرصة زمنية للاستقرار وإعادة القراءة والبدء في توصيل جسور العلاقة مع فتح والسلطة الفلسطينية. والاختراق الذي تحقق في غزّة تحت المظلة المصرية يعكس في جوهره سلسلة تقاطعات على أكثر من قناة. فهناك القناة المصرية - الإسرائيلية، والحماسية - المصرية، والحماسية - الإسرائيلية. وهناك القناة المصرية - الفلسطينية (السلطة في الضفة)، والمصرية - السورية، والسورية - الإيرانية. فكلّ هذه القنوات تجمعت في حلقة تهدئة مؤقتة ومشتركة تقوم على انتعاش فكرة التفاوض على المسارين: الفلسطيني - الإسرائيلي والسوري - الإسرائيلي.

التهدئة ليست نهائية فهي مشروع اختبار، وهي مشروطة بمجموعة عوامل ومرهونة باحتمالات يمكن أنْ تقع خلال الفترة المحددة بمدة ستة أشهر. فهناك خطة فتح المعابر بالتدريج، وخطوات إطلاق الأسرى، ونقل فكرة الهدنة إلى الضفة. وكل هذه الشروط والاحتمالات خاضعة في الشهور المقبلة للمتغيرات الإقليمية والدولية التي يمكن أنْ تقلب الطاولة وتعدل الزوايا. والمتغيرات المفترضة ترتبط بدورها بمدى استعداد تل أبيب للتسوية وجاهزية حكومة أولمرت لتقبل نتائج التفاوض على المسارين السوري والفلسطيني.

التهدئة مؤقتة ولكنها تشكّل صورة مصغرة عن مشروع تسوية قد يمتدّ إقليميا في حال تواصلت الاتصالات في مجرى توافقي دوليا وعربيا. والمؤقت في موضوع التسوية يشكل إشارة زمنية لاختبار القوى ومدى جاهزية تل أبيب للقبول بالأمر الواقع العربي كما قبلت بالأمر الواقع في غزة. فهل حكومة أولمرت قادرة على تحمل مسئولياتها أم أنها هزيلة وضعيفة ولا تستطيع السير في مناطق وعرة؟

الاحتمالات مفتوحة ولكنها محددة في إطار زمني ينتهي بعد ستة أشهر ومحكومة بمتغيرات ستبدأ بالظهور في حسابات القوى بعد الانتهاء من معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

هناك احتمال أنْ تتطور الدبلوماسية المصرية وتنتقل من القطاع إلى الضفة لتعيد ترسيم صورة تهدئة أشمل جغرافيا وأبعد زمنيا. وهناك احتمال أنْ تتطور المفاوضات على المسار السوري بالتوازي مع المسار الفلسطيني لتظهر معالم صورة جديدة لخريطة «الشرق الأوسط».

الاحتمالان المذكوران يمكن أن تظهر مقابلهما متغيّرات قد تقلب المعادلة وتغيّر اتجاه الريح. فهناك أوّلا احتمال مغادرة أولمرت الحكم ودخول تل أبيب في غيبوبة سياسية انتخابية. وهناك ثانيا احتمال أنْ تكون موافقة أولمرت على التهدئة مجرد مناورة تستهدف كسب الوقت والتفرغ للضغط على المسار الفلسطيني (سلطة محمود عبّاس) وتعطيل إمكانات التوصّل إلى صيغة هدنة مؤقتة في الضفة. وهناك ثالثا احتمال وجود خطة إسرائيلية للتلاعب بالمسار السوري ومحاولة توظيفه سياسيا لإغلاق المنافذ على المسار الفلسطيني. وهناك رابعا احتمال التهرّب من الالتزامات الدولية والإقليمية بعد مرور التهدئة المؤقتة وظهور متغيّرات أميركية تستفيد منها تل أبيب لتجميد المفاوضات على مختلف المسارات.

الاحتمالات مفتوحة وهي محكومة بالوقت ومشروطة بالمتغيّرات. وبسبب عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية لحكومة أولمرت يمكن توقع الكثير من الصدمات السياسية... إلا أنّ ذلك لا يقلل من أهمية الاختراق الذي حققته الدبلوماسية المصرية من خلال بوابة غزّة. فالبوابة جغرافيا عززت السياسة البراغماتية لدى حركة حماس وهي أعطت فرصة زمنية للاستقرار وإعادة بناء جسور الثقة مع شريكها الفلسطيني في الضفة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً