القصص التي ذكرها الرواة عنه
الذي يكشف عن شخصية الإنسان الحقيقية ليست الصفات والألقاب التي تطلق جزافا على هذه الشخصية أو تلك وإنما المواقف والقصص الواقعية التي تروى عنها، فالقصة في حياة الإنسان عبارة عن وثيقة محكية تغني عن كثير من النعوت والصفات المعلبة والجاهزة. وقد ذكر الرواة عن حياة هذه الشخصية التي نحن بصدد ترجمتها الكثير من المواقف والقصص الظريفة، وهذه القصص قام الباحث بكتابتها في (مدوّنة) منذ أن سمعها قبل أكثر من أربعين عاما لكيلا يطويها النسيان حتى إذا حان وقت النشر نشرها. ونختار منها بعضها كالآتي:
القصة الأولى
كثيرا ما كان الشيخ علي بن حسن يحل الخلافات بين الزوجين ويصلح ذات البين بين الخصوم من دون حكم قضائي وهذا يرجع إلى بعد نظره ومعرفته بطبائع المتقاضين عنده، فذات مرة جاءت إليه في مجلس القضاء امرأة غريبة ليست من البلد وكان معها زوجها، فسألها الشيخ عن حاجتها فطلبت تطليق زوجها فسألها: لماذا تريدين تطليق زوجك وأنتِ لديك أولاد وبنات منه ويقوم بجميع شئونك؟ فأجابت أمام الملأ بكلّ جرأة: زوجي كثير النكاح ولا يشبع وأني مستعدة للتنازل عن النفقة أذا طلقني. فسألها الشيخ: ومَنْ يستقيم بك إذا طلقك؟ قالت: يستقيم بي ربي. فقال لها: وكان يقصد إيقاع الصلح بينهما: يا امراة أفصحي الكلام يعني أنّ الله يلقي إليك ما تحتاجين إليه من مال ومأكل وملبس في الطريق بل قولي يستقيم بيك....ي ! - قالها بالدارجة - فضحك من كان حاضرا، فخجلت المرأة فأمسكت بيد زوجها وخرجت معه إلى البيت.
القصة الثانية
بينما كان الشيخ علي بن حسن يتناول طعام العشاء إذ تناهى إلى سمعه تغاريد فرح وصوت طبول في الحي.. فسأل مَنْ كان حاضرا عن الفرح، فقيل له يُوجد عرس في بيت فلان هذه الليلة فقال اذهبوا إليهم بسرعة واخبروهم بأن هذه الليلة نحس لا يحسن فيها الزواج. فذهبت زوجة الشيخ وأخبرت أصحاب العرس بمقالة الشيخ بتأجيل العرس إلى ليلة أخرى ولكنهم أعرضوا عن هذا القول فتم الزواج في تلك الليلة. قال الراوي: وكانت ليلة نحس عليهم فعلا إذ إنه لا يعيش لهم ولد فما يكاد يبلغ السنتين حتى يموت.
القصة الثالثة
في ليلة واحدة ماتت للشيخ علي بن حسن صبية من إحدى زوجاته فاسترجع ثم قام بدفنها ورجع فما كاد يستقر في البيت حتى أخبروه بولادة بنت له من زوجة أخرى فحمد الله تعالى. وفي الصباح جاء الناس يعزونه في وفاة ابنته وما كان أحد منهم يعلم بالمولود الجديد، فقال لهم الشيخ لم نخسر شيئا، فقالوا وكيف؟! قال البارحة خرجت من الدنيا واحدة وفي الصباح جاءت إلى الدنيا واحدة. فاحتار الناس في الأمر أيعزون الشيخ أم يهنئونه.
القصة الرابعة
عندما عرض على الشيخ علي بن حسن منصب القضاء في البحرين وافق وعزم على ذلك ولكن ابنه (عبدالرحيم) وهو الولد البكر من إحدى زوجاته وعمره آنذاك عشرون عاما عارض سفر والده معارضة شديدة وحاول جاهدا أنْ يقنع والده بعدم السفر إلى البحرين ولكن من دون جدوى وعندما سافر الشيخ إلى البحرين اغتم ابنه كثيرا وحزن لفراق والده ومكث على هذه الحال فترة ثم مات، وكان الشيخ قبل سفره كتب وصيته وسلمها إلى ابنه هذا وجعله هو الوصي، فلما مات بكى عليه أهل تاروت وحزنوا عليه وأغلقت الأسواق - بحسب الرواية - حدادا عليه لأنه كان يمتاز بالأخلاق الحميدة ويعمل المعروف وأعمال الخير لجميع الناس. وبعد فترة الحداد سافر جماعة من أهل تاروت إلى البحرين؛ ليخبروا الشيخ بوفاة ابنه ويعزونه ومكثوا في ضيافة الشيخ نصف شهر من دون أن يتجرأ أحدٌ منهم ليخبره بوفاة ولده، ولكنهم بعد ذلك قالوا له ألم تعرف ولم تسألنا عن سبب مجيئنا الى البحرين، فقال يمكن عبدالرحيم أصبح ضريرا - لأنه كان دائما يشتكي من ألم في عينيه - فقالوا أكبر من هذا الشيء قال يمكن سجن لعدم دفع الميري (ضريبة على النخل يدفعها المالك سنويا للحكومة) فقالوا أكبر من هذا الشيء. فقال وما ذاك الشيء؟ فقالوا له عظم الله أجرك في عبدالرحيم فقد انتقل الى جوار ربه. فحزن عليه الشيخ حزنا شديدا وأقام لروحه الفاتحة ثلاثة أيام. وبعد مدة سافر إلى تاروت وزار تربته وقام بتغيير الوصية والوصي ثم رجع إلى البحرين.
القصة الخامسة
اشتكت امرأة على زوجها عند القاضيين الشيخ علي بن حسن التاروتي والشيخ علي بن جعفر القديحي بعد إنشاء المحكمة الشرعية المتعددة القضاة العام 1935م فلما حضرت مع زوجها الى المحكمة سألها القاضي الشيخ علي بن حسن عن مشكلتها فادعت أنّ زوجها يتغشاها من الدبر من غير رضاها وأن هذا حرام شرعا وطلبت منهما تطليقها بدعوى وقوع الضرر الفعلي، وقد استندت إلى الآية الكريمة « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرنَ فإذا تطهرّن فأتوهنّ من حيث أمركم الله، إنّ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (سورة البقرة: 222) فأنكر الزوج ذلك، وردّ عليها بالآية الكريمة التي بعدها «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم...» وطالبها بإثبات الضرر بالبينة الشرعية مستندا إلى أحد الكتب الفقهية (اللمعة الدمشقية) التي تجيز له ذلك عند الضرورة - بحسب ما ذكر الزوج - لو أنها صدقت في ادعائها هذا. فقال القاضيان للرجل: لا يجوز لك ذلك. فقال الرجل محتدا: بل يجوز. وهنا أمر القاضيان الشرطي بإخراج الرجل من المحكمة.
القصة السادسة
عندما ولي الشيخ علي بن حسن القضاء في قرية السنابس للأهالي والعجم على حد سواء وذلك بدعوة شخصية من تاجر اللؤلؤ الحاج أحمد بن علي بن خميس مؤسس (مأتم بن خميس) الذي كانت تربطه به صداقة قديمة وقد توثقت هذه الصداقة بمرور الأيام والسنين، ثم ضرب الدهر ضربته ودارت على (بن خميس) الدائرة عندما تعرّض الى أزمة مالية خانقة العام 1933م، فقد كان يشترك مع أحد الهنود واسمه (نادر) في صفقات شراء اللؤلؤ من البحرين وإرسالها الى الهند لبيعها على كبار التجّار هناك بمعرفة وخدمات هذا العميل، وبسبب الثقة العمياء في الأجانب فقد هرب نادري من البحرين بكلّ ما لديه من اللؤلؤ إلى خارج البلاد مما أوقع الحاج أحمد بن خميس في مشكلات ومحاكم مع تجّار اللؤلؤ في البحرين فتراكمت عليه الديون، وعندما عجز عن تسديد ديونه للتجّار قام مستشار حكومة البحرين (تشارلز بلغريف) بحبسه في سجن القلعة، فذهب الشيخ علي بن حسن آل موسى الى المستشار ليطلب منه إطلاق سراح صديقه بكفالة مالية إلا أنّ المستشار أصرّ على تسديد كامل المبلغ مما حزّ في نفسه كثيرا فسعى مع بعض رجالات البلاد من العلماء والقضاة ومنهم القاضي الشيخ قاسم بن مهزع فخرجت مسيرة احتجاج شعبية الى دار المعتمد البريطاني للمطالبة بإطلاق سراح الحاج أحمد بن خميس فاستجاب الإنجليز لذلك وأطلق سراحه بعد أيام قليلة.
القصة السابعة
في هذه القصة صاحب الترجمة نفسه هو الراوي، وقد رواها في السنوات الأخيرة من حياته بحسب ما يذكر من سمعها منه مباشرة، وتتضمن أبيات شعر لم يتذكرها الراوي الذي نقلها، وقد استعاض عنها الباحث بأبيات من تراث الشعر العربي تناسب الحالة أو الموقف.
قال الشيخ علي بن حسن - للذي نقل الرواية - كنت عائدا ذات ليلة من وليمة دعاني إليها أحد أصحابي في قرية من قرى القطيف ولم يكن معي أحد يرافقني فقد كنت شابا قوي البنيان رابط الجنان فسرتُ وحدَي في تلك الليلة المقمرة مارا في طريقي على جبل كان في تلك الناحية فإذا بصوت بكاء يتناهى إلى سمعي يأتي من ناحية الجبل فاتجهتُ إليه للتعرف إلى حقيقة الأمر ولا سيما أني أعرف انه لا أحد يسكن بجوار هذا الجبل وعندما صعدت الجبل ووصلت إلى ناحية الصوت اختبأت وراء صخرة ونظرت فوجدت شخصا أعرفه وقد لبس المسوح (ثيابا ممزقة) واعتكف في زاوية يناجي ربه فتمهلتُ قليلا لعل في الأمر شيئا، فرأيته قد خر على الأرض صريعا، فانتظرت فإذا به يفيق بعد برهة وجيزة ثم رفع يديه بالدعاء وأنا أسمع ثم توجّه الى ناحية القطيف وأنشد أبياتا من الشعر أوّل مرة أسمعها أي من نظمه (لم يتذكرها ناقل الرواية) كأنه ينطق بلسان حال الشاعر:
أحقا عباد الله أن لست صادرا
ولا واردا إلاّ علىّ رقيب
ولا زائرا وحدَي ولا في جماعـة
من الناس إلا قيل أنت مريب
وهل ريبـة في أن تحن نجيبـة
إلى إلفها أو أن يحن نجيب
ولو أن ما بي بالحشا فلق الحصى
وبالريح لم يسمع لهن هبوب
ولـو أنني استغفـر الله كلمـا
ذكرتك لم تكتب علىّ ذنـوب
فلما فرغ من إنشاده تقدّمت إليه وسلمت عليه فوجل وارتبك من المفاجأة وقام للتستر عنّي فناديته باسمه فوقف ورد التحية فسألته أنْ يقصّ لي خبره وإلا أفشيت في الناس أمره، فقال: اجلس واسمع ولكن ناشدتك بحق من أعطاك السمع والبصر أن تكتم عن الناس اسمي ما دمت حيا، فقال الشيخ: لك علىّ ذلك، فجلسنا فطفق يروي لي قصته فقال صار لي وأنا في هذا الجبل خمس سنوات أتعبّد بعيدا عن البشر وأقضي الليل أدعو الله ربي أن يستجيب لدعائي فإذا اندلع لسان الصباح وكاد النور يطمس وجه الظلام رجعت إلى بيتي وعملي، فسألته أنْ يخبرني عن قصته وقد توقعت انّ وراءه قصة عجيبة فقال: اعلم يا بني أني أحببت منذ سنوات بنت عمي وكنتُ أزورها في بعض الليالي خلسة فكانت تبادلني الحب وكنت سعيدا معها فأخبرتها ذات ليلة بأني سأتزوجها عن قريب ففرحت ولكنها تنهدت فجأة بحرقة فأنشدت أبياتا وكانت تجيد نظم الشعر (لم يتذكر الأبيات) وكأنها تقول بلسان حال الشاعر:
راقبتني العيون فيك فأشفقت
ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني فيك
اغتباطا يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن يكون بعيدا
والذي ما بيننا باق
رب هجر يكون من خوف هجر
وفراق يكون خوف فراق
فشعرت أنّ في التمليح أمرا غير سار فسألتها أنْ تصرح فأخبرتني بأن أباها قد عرف ما بيننا من الزيارة السابقة فهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا التقت بي مرة أخرى وأنها لا تستطيع أنْ تخالف أمر أبيها، ولكني بادرت فأرسلت إليه من يخطبها فرفض والدها رفضا شديدا، فصبرت عليه سنة ثم أرسلت إليه بجماعة من الأهل ولكنه عاد فرفض، فاحترت في أمري، فذهبت إليه بنفسي واعتذرت إليه عمّا بذر منّي ولكنه طردني وشتمني ومنها عاهدتُ الله أن لا أنام الليل بعدها وأقسمتُ أن اعتكف في هذا الجبل حتى يأذن الله في أمري ثم تنهد بحرقة وأنشد من عنده (لم يتذكر الأبيات) وكأنه يتكلّم بلسان ابن الرومي حيث يقول:
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق ترانـي
والثم فاها كي تموت حزازتي
فيشتد ما ألقى من الهيجان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى
ليشفيه ما يرشف الشفتان
فإن فؤادي ليس يشفى رسيسه
سوى أن ترى الروحان تمتزجان
قال الراوي: سألت الشيخ علي فيما جرى للعاشقين بعد الفراق؟ قال: إن أباها قد زوجها من أحد أِقاربها ومكثت تحته سنة وبضعة أشهر ولم تنجب منه وقد مات زوجها غرقا ثم توفي والدها بعده بثلاثة أشهر فتزوجها ابن عمها هذا فيما بعد وأنجب منها وعاشا حياتهما في سعادة وهناء ولا يعرف أحدٌ من هو هذا الرجل غيره إلى اليوم. فسأل الراوي الشيخ: وكيف تزوّجها؟ فقال: خطبها من أخيها وكان هذا لا يعرف سرهما؛ لأن والده لم يخبره بالأمر، فقلت: ما أعجبها قصة ثم تمثلت بقول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كلّ الظن أن لا تلاقيا
العدد 2120 - الأربعاء 25 يونيو 2008م الموافق 20 جمادى الآخرة 1429هـ