العدد 2128 - الخميس 03 يوليو 2008م الموافق 28 جمادى الآخرة 1429هـ

الايديولوجيا الحزبية العربية وظهورها التاريخي

الإسلام والغرب... والفكر المعاصر (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ليست مصادقة أن تقوم الآن وفي بلدان إسلامية مختلفة حركات دينية تقود الصراع ضد نماذج الغرب ومحاولات التحديث الرأسمالية الفوقية. فالقوانين العامة التي حكمت هذه البلدان كانت موحدة. وإذا كان هناك بعض المقاييس النسبية غير متطابقة بين هذا البلد أو ذاك إلا أن هناك قوانين متجانسة تجمع بين هذه البلدان المختلفة. ومن مظاهر هذه القوانين وجود أشكال من المقاومة السلبية لهيمنة نماذج الغرب ومحاولات بعض القطاعات التحديثية إلحاق المجتمعات الإسلامية بعجلة التدويل.

وتتكثف المقاومة السلبية لأشكال النفوذ الأجنبي في نقطة مشتركة تتمثل في وجود جامع موحد للنضال ضد تلك النماذج المستوردة... وهذا الجامع استمد قوته من الإسلام. فالإسلام عدا عن كونه المتضرر الأساسي من السيطرة الأجنبية ومحاولات التحديث الفوقية المختلفة، كان الإطار الناظم للفئات المتضررة التي انطوت تحت رايته في مرحلة الانكفاء وتنضوي الآن تحت قيادته لمقاومة عمليات الاستلاب والتهميش في مرحلة الهجوم. وإذا كان تحت عنوان الإسلام تتجمع عدة قوى اجتماعية متفاوتة في تراتبها الاقتصادي، إلا أن ذلك لا يمنع وجود روابط مشتركة تشد هذه الفئات المختلفة، على قاعدة العداء للغرب وأشكال محاولات التحديث الفوقي كافة.

وجود اتجاهات سياسية متفاوتة في التيارات الدينية السائدة في البلدان الإسلامية لا يمنع قيام نوع من الوحدة المشتركة في عدة قضايا ومواقف ظريفة. فالوحدة الإسلامية في النهاية، ليست وحدة اقتصادية اجتماعية فقط، بل هي مجموع معطيات واقعية معقدة تبلورت في شخصية تاريخية مميزة أملت على هذه الشعوب خصائص معينة جعلتها تتماسك في مواجهة الغزوات الخارجية.

لذلك ليس مصادفة أن تتبلور في الفترة الأخيرة، تيارات دينية - سياسية مقاومة للنفوذ الأجنبي في ظل ظروف مشابهة نسبيا. وقد عبرت التيارات المذكورة عن نفسها في صيغة حركات أدت إلى نشوء نوع من الاستقطابات السياسية مغايرة للحسابات النظرية الغربية والحديثة. فالاستقطابات السياسية لم تقم على أرضية الغزو الاقتصادي - الثقافي الحديث الذي تكون مع بدء النفوذ الغربي وتبلور مع مرحلة استكمال الغرب لسيطرته وهيمنته. كما أن الاستقطابات، التي نشهدها في بلدان إسلامية عدة، لم تتوزع على الأحزاب والمنظمات الحديثة التكوين بل إنها تكورت في إطارات وكتل تقليدية شكلت إطارات تاريخية وسياسية لمجابهة الأجنبي.

نزوع الكتل الشعبية نحو التصويت لحركات الإسلام كان مرده خوف هذه الفئات من الأحزاب والمنظمات السياسية لكونها نشأت وتكونت في مرحلة غلبة الغرب وسيطرة مفاهيمه وثقافته على الشعوب الإسلامية. فالأحزاب والمنظمات العصرية مثلت، لمختلف الكتل الشعبية التاريخية، أجساما غربية تحاول الدخول إليها على أرضية القطاعات الحديثة التي أوجدها الغرب في مرحلة سيطرته. وبسبب هذه الحال المتقلبة بقيت الأحزاب خارج هذه الكتل، وعجزت عن استقطابها على قاعدة سياسية، لأنها تلقى الكثير من الشكوك وتحيطها الكثير من علامات الاستفهام. ولكن الخوف من الأحزاب المعاصرة (العلمانية مثلا) لا يعني أن الكتل الشعبية لم تجد طريقها الخاص وإطارها الناظم للممانعة، بل على العكس من ذلك تماما. فالفئات المذكورة لم تتأخر كثيرا في معرفة سلاحها وفي استعماله عند اللحظات المناسبة.

إذا كانت الدول الغربية وجدت في الأقليات الدينية والعرقية وبعض الفئات السياسية المرتبطة بها أدواتٍ محلية لإيجاد مواقع نفوذ لها في المنطقة، فإن الكتل الشعبية المنكفئة على نفسها؛ خوفا من الأجنبي وجدت بسرعة في هوية الإسلام سلاحها لكسر طوق النفوذ والسيطرة الخارجيين. فالنمو الحديث في البلدان الإسلامية جاء على قاعدة التجزئة والتقسيم وتفكيك الروابط المشتركة. لذلك لم ينجح في المساعدة أبدا على إعادة وحدة البلدان الإسلامية وتجديد وحدتها الداخلية في إطار التطور الرأسمالي. وهكذا استمرت الكتل الشعبية خارج دائرة النفوذ الغربي الحديث، واستطاعت المحافظة على نفسها في سلسلة من المقاومات السلبية، التي لم تستطع السلطة قهرها وإعادة تشكيلها على أسس تجعلها متكيفة مع قوانين السيطرة الايديولوجية.

إذا كانت الرأسمالية المحلية التابعة للغرب استطاعت بعد فترة التعايش مع التيارات الدينية والكتل الشعبية، فإنها عجزت عن استقطابها أو استيعابها فاضطرت إلى «التفاهم والتصالح» مع دائرة العلاقات التقليدية. وهكذا اتجهت الرأسمالية المحلية إلى النمو عبر قنوات العلاقات التقليدية، وحاولت التسلل من خلالها لإحكام نفوذها وسيطرتها المطلقتين... ولكنها بعد فترة وجدت نفسها مضطرة لكسر هذه القنوات التي كانت تضيق بها في مرحلة اتساع نفوذها وامتدادها. ولم يؤدِ «التعايش» المذكور إلى شكل من التطابق بين الحالتين بل أدى إلى نوع من التناحر المتبادل الذي تفجر في مراحل سابقة وأخذ يتفجر مجددا في المراحل اللاحقة.

كانت كلما نمت التجارب التحديثية وازدهرت وأرادت أن تبحث عن سوق لها اصطدمت في طريقها بعقبةٍ كأداءَ تتمثل في تلك العلاقات التقليدية التي توحد الكتل الشعبية وتسد منافذها وتعطل عليها محاولات السيطرة والنفوذ. لذلك اضطرت دول الغرب في مراحل بسط نفوذها على المنطقة إلى استعمال العنف لكسر تلك الكتل وتفكيك علاقاتها التقليدية، بغية تطويعها وإدخالها في عجلة برامجه التحديثية. من هنا لم تكن العلاقات الرأسمالية الأوروبية علاقات تعايش وانسجام مع العلاقات التقليدية بل كانت علاقات تنافر وعنف متبادلين في أوقاتٍ ومراحلَ كثيرةٍ.

إذا كانت المناطق الإسلامية شهدت في فترات سابقة حالات من الركود والاستكانة فإن ذلك لا يلخص المسألة ولا يعطي فكرة حقيقية عن العلاقات القائمة بين الفريقين. فالعنف المتبادل كان هو القانون الأساسي الذي يجمع بين الطرفين ويفصل بينهما على رغم فترات السلم التي كانت تسود تلك العلاقات طبقا للظروف والتوازنات الدقيقة التي تتحكم أساسا في قانون المجابهات المتبادلة.

العنف لم يكن يبرز دائما إلى سطح العلاقات بين الفريقين إلا أنه كان ضامرا في العمق. وما انفجار التيارات الدينية على مستوى الاستقطابات السياسية المعادية للنماذج الغربية إلا دليلٌ على عمق الأزمة المتفجرة بين النموذجين. وهكذا لم يساعد التفكك الذي افتعلته الدول الأوروبية بواسطة البرامج الإصلاحية الفوقية في البلدان الإسلامية على إطالة عمر سيطرة الأجنبي بل ساعد على تبلور وتكوّن اتجاهات سياسية دينية مقاومة لمختلف أشكال الهيمنة. أما القنوات التقليدية التي حاولت الرأسمالية الاستفادة منها لبسط نفوذها تحولت إلى أدوات ضاغطة عليها لمنع تسربها ونموها واتساع رقعة سيطرتها.

إذا نظرنا اليوم إلى بعض المناطق والبلدان العربية والإسلامية نرى المشهد الآتي: هناك أنظمة أقلاوية تقوم على العصبية العائلية أو سلطة الجيش وهناك قوة الناس التي تتوحد في إطار ناظم لحياتها ومعيشتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها. ويتمثل تماسك الإطار المذكور في الإسلام الذي هو دين الأكثرية الساحقة من أبناء المنطقة.

هذا المنظر الذي تشهده ساحات عربية وإسلامية عدة يعكس في داخله تحولات مقبلة علينا لم نرَ مماثلا لها في تاريخنا الحديث. فمن جهة هناك الناس ومن جهة أخرى هناك سلطات قامت أساسا على الولاء لمنظومات خارجية، وأخذت الآن تفقد مبررها التاريخي؛ مما أوجب حالة من الخروج الجماعي للكتل الشعبية ضدها.

سبق لهذه الكتل أن انزوت إلى داخل نفسها؛ بفعل الموازين الدولية؛ وصعود قوة الغرب الذي فرض سيطرته الاقتصادية والسياسية إلى جانب مفاهيمه الايديولوجية والثقافية. وجاءت سيطرة الغرب في مرحلة دقيقة للغاية إذ إنها ترافقت مع ضعف المركز (السلطنة العثمانية) مطلع القرن العشرين وعدم قدرته على ضبط الأطراف التي وقعت بالتتابع تحت نفوذ الاستعمار الحديث.

لم يكن سقوط الأطراف سقوطا استسلاميا بل جاء عقب مقاومة سلبية شهدتها مختلف الثغور والأرياف الإسلامية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا. ولاتزال ذكريات المقاومة الإسلامية في هذه المناطق تشهد عليها الأجيال في تعاقبها وهي لاتزال تمثل حتى الآن النموذج التمردي الخاص الذي تقتدي به الأحزاب الإسلامية المعاصرة. كان المركز الإسلامي آنذاك عاجزا عن استنفار نفسه وكانت الأطراف في طور من الانقسام والتفكك لم تستطع أن توحد نفسها في إطار مشترك لمقاومة القادم من أوروبا. وسقطت الأطراف. وكان من الطبيعي أن يكون سقوط الأطراف مقدمة لسقوط المركز في وقت لاحق.

سقوط المركز لم يكن عملية سهلة إذ مرت بدورها بمراحل تاريخية معقدة، تمثلت في نجاح الاستعمار في إيجاد موطئ قدم له من خلال إثارة مسألة الأقليات الإثنية والطائفية إذ استطاع منها فتح ثغرة مهمة في الجسم الأكثري. ولم تكن مسألة الضمانات والحمايات للأقليات مسألة محدودة بل شكلت وتدا لسلسلة تدخلات مقبلة. وبالتأكيد كان القصد من وراء إثارة مسألة الأقليات، في ظل تنامي نفوذ الغرب، فتح ثغرة تطول مجمل المنطقة الإسلامية. وتركيز الاستعمار على نقطة فرط «العقد الإسلامي» كان اللازمة التي أدت إلى فرط «العقد العربي» ومن ثم فرط كل عقدة على حدة. ولذلك شكل النصف الثاني من القرن التاسع عشر فترة التأسيس لعملية الهيمنة اللاحقة، بحيث مهّد لعملية دخول واسعة النطاق انتهت عسكريا مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

في هذه الفترة التمهيدية شهدت الساحات العربية والإسلامية تحركات عدة عبّرت عن مجموعة اتجاهات سياسية وثقافية متناقضة: فهناك الاتجاه الإسلامي، الذي وجد في الغرب الخطر الأكبر ورأى أن لابد من قيام حركة إصلاحية للجسم الإداري لمنع تسرب الاستعمار من الثغرات والنواقص. وهناك الاتجاه العروبي العلماني الذي شدد على ضرورة التخلص من الحكم الإسلامي ولو كان ذلك عن طريق التعاون والتنسيق مع الغرب. وهناك الاتجاه الوسطي الذي قام بعملية توليف تاريخية بين الرابطة الإسلامية والرابطة العربية، إذ كان يطالب باستقلال الوطن العربي ضمن دائرة الإسلام.

إلى ذلك كان هناك الاتجاه الاقلاوي الطائفي أو الإثني تمثل في الفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، والطورانية في تركيا، والفارسية في إيران وغيرها، وشكل هذا النهج ضغطا قويا على القوى المختلفة بسبب الدور الذي لعبه بحكم علاقاته المميزة مع الغرب. واشتبكت مجموع هذه الاتجاهات مع بعضها بعضا في فترة واحدة، وفي الوقت نفسه تشابكت علاقاتها عشية الحرب العالمية الأولى وانقسمت على بعضها بعضا بين تيار متعاطف مع الإنجليز وتيار متعاطف مع الفرنسيين وآخر ينسق مع الألمان.

بقي خارج مجموع هذه التيارات الاتجاه التوحيدي الإسلامي الذي استمر يشدد على الاستقلالية والتمايز. وعلى رغم قوة هذا التيار على المستوى الشعبي فإنه ضعف آنذاك؛ بسبب انقلاب التوازن الدولي لمصلحة الغرب الممثل في كتلة دول الحلفاء. وكان من الطبيعي أن يهزم هذا التيار التوحيدي الواقعي هزيمة نسبية مؤقتة؛ بسبب اعتماد الغرب على مواقع نفوذ داخلية ساهمت في تسريع عملية الانقسام والتفكك على المستويين الإسلامي والعربي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2128 - الخميس 03 يوليو 2008م الموافق 28 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً