العدد 262 - الأحد 25 مايو 2003م الموافق 23 ربيع الاول 1424هـ

قصة من الواقع المعاش يوميا... إني أحتضر!

قصتي مع أهلي كقصة آلاف من المواطنين. شاب في مقتبل العمر مندفع نحو الحياة مستغرق في طموحه العظيم ابتعث ليدرس في بلاد الغربة استلذ غربته ليدرس ما رغب فيه من تخصص علمي كافح وجاهد نفسه واجتهد وتميز وكوفئ مرارا على ذلك التميز، لينهي سنينه الدراسية الخمس ويرجع وهو يمني نفسه بمكانة تليق بما حققه وتعوض عنه ذلك التعب المضني ليرى وليته لم ير مهازل يشتعل منها الرأس شيبا ويتفطر بسببها القلب غما وكمدا فليتني لم أكن ولم أعش.

لا أعلم ماذا أسميها؟ واسطة، محسوبية، طائفية، تمييز عنصري. ربما كانت واحدة ولكنها تبتذل نفسها في كل مرة بلباس مختلف وربما قبحت نفسها فوق قبحها تجنيسا وسرقة للمال العام. تلك هي مصيبة مصائبنا وسبب حزننا وبؤسنا. تلك هي الغصة التي نتجرعها كل يوم في يقظتنا ومنامنا. تلك هي مبعث الدموع الحرى التي لا تفارق وجناتنا المحفورة. تلك هي سبب النظرة المنكسرة البائسة الخائبة المجردة من أي معنى للحياة، تلك هي...

وإليك أخي القارئ طيف من المشاهد التي لا تصلح إلا للبالغين فقط لسوء المحتوى وبذاءة المضمون:

- الشركة الرائدة (خ) تجري معك مقابلة بعد اختبار طويل أنهك قواك وأجبته كاملا من دون نقصان ليسألك أحد الممتحنين في بداية المقابلة التي تأخرت ساعتين بعد الاختبار الذي دام هو الآخر ساعتين: لم أنت تعب؟! أساهر البارحة؟! فتنفي ذلك، ليواصل بعد ذلك أسئلته التي يلقيها على مسامعك وعينه يطفر منها الشرر؟ لا تعلم لماذا. تجيب عن الأسئلة بكل ثقة وهدوء وسط زمرة من المحققين لا جماعة من الممتحنين. تخرج من المقابلة وكلك ثقة أن تكون عضوا فاعلا في هذه الشركة الرائدة. يمر أسبوع، أسبوعان، شهر. تتصل بهم ليخبرك مسئول التوظيف المجنس تجنيسا انتقائيا لا عشوائيا أنهم اختاروا من نجح في المقابلة متمنيا لك التوفيق. تقفل السماعة متهكما لا تصدق ما سمعته للتو.

- الشركة الرائدة (ب) تتصل بك تتحقق من معدلك العالي تخبرك بأنها ستبقى على اتصال معك. يأتي الاتصال التالي بعد ستة أشهر تخبرك بموعد المقابلة الأولى. مقابلة عادية للتحقق من البيانات. تنتظر موعد المقابلة الثانية بفارغ الصبر. المقابلة الثانية كانت بعد ثلاثة أشهر من الأولى. تستعد لها جيدا. تجري المقابلة الثانية بكل هدوء وثقة بالنفس. تقدم بعدها اختبار في اللغة الانجليزية. تجيب أسئلته مطمئنا إلى إجابتك. تخرج من الشركة واثقا من اختيارك كعادتك. تمر الأيام والأسابيع فالشهور. تتصل بهم بين الفينة والأخرى. الرد واحد: لم تنته المقابلات بعد، اصبر. تصبر فالصبر كما يقولون مفتاح الفرج. يتناهى إلى سمعك أن عدد المتقدمين قد أصبح عشرة بدل أربعة. مازال لديك أمل. تتحطم آمالك بعد وصول رسالة اعتذار عن قبولك بعد فترة انتظار دامت ثلاثة أشهر لتمر سنة كاملة تكتشف بعدها أنك كنت تجري خلف وظيفة من نسج الخيال.

- المعهد المرموق (ب) يتصل ليحدد لك موعدا للمقابلة بعد يومين. تقدم المقابلة بارتياح بالغ. تفرح كثيرا لأدائك خلال المقابلة. تخرج كالعادة واثقا من اختيارك. يمر شهر شهران. تراجعهم بالهاتف والحضور الشخصي. ما عذركم يا معهد؟. نتائج المقابلات عند (م). وما بها؟ متغيبة ولا نعلم ما السبب. تزداد عدة الشهور شهرا آخر لتأتي الأخت (م) ويتضح أن سبب تغيبها عملية أجرتها. تعدك بكشف أوراقك ونتيجة مقابلتك. تتصل بها مرارا من دون فائدة. تتصل بهم ليخبروك بأن أختنا (م) قد قدمت استقالتها. لا تعلم كيف يعهد بنتائج المقابلات التي هي بالأساس أرزاق مواطنين إلى شخص واحد يتغيب مدة ثلاثة أشهر. تضحك فشر البلية ما يضحك. تصمم على كشف المستور. تراجع رئيس القسم المفترض أن تكون موظفا فيه. تشرح له ما حدث لك. يعدك خيرا. يتصل بك بعد يومين ليخبرك أنك قد اجتزت المقابلة ولكن هناك مقابلة أخرى مع مدير المعهد. ومتى هي؟ اصبر فلدينا فائض من الموظفين في تخصصك. تقهقه عاليا بعد إقفال الخط.

- الشركة الرائدة (أ) تجري معك اختبارا قبل شهر من الآن. لا تتأمل خيرا منها فهي مشهورة بتركيز فئة معينة في مواقعها. إن اتصلوا بك فستجري معهم تلك المقابلة الصورية التي لا طائل منها وإن لم يتصلوا فذاك المأمول والمتوقع.

- تعمل منذ ما يقارب أربعة أشهر في شركة متواضعة تحت مسمى تدريب المهندسين حديثي التخرج بدعم من وزارة العمل. تتقاضى راتبا زهيدا مناصفة بين الشركة والوزارة. تموت في اليوم ألف مرة. دوام طويل وعمل لا يصلح إلا لطالب ترك المدرسة الإعدادية. تراقب عن كثب كيف يستحيل شعرك الأسود أبيض. إن ضحكت ساعة فستبكي أياما. أحلامك تتحطم رويدا رويدا على صخرة الواقع البغيض. تذبل شيئا فشيئا حتى...

ماذا عساي أن أفعل وسط بيئة ملأى بالعنصرية والطائفية. لم يحد النائب عبدالنبي سلمان عن الحقيقة قيد أنملة حين قرر أن التمييز هو أساس مصائبنا. فبحل هذه المعضلة تحل جميع المشكلات المتعلقة بها من تجنيس ومحسوبية وبطالة و... وقد أشرت في بداية حديثي إلى أن التجنيس انتقائي وليس عشوائي لأنه يخص تجنيس جماعة من مذهب معين دون المذهب الآخر. ولا يعلم أحد حتى الآن لم تزيد الحكومة الطين بلة؟. كيف يتم تجنيس آلاف الوافدين ولدينا ثلاثون ألف عاطل عن العمل؟ .

لا يمكن أن تتطور البلاد أبدا ما دامت وتيرة التوظيف وإحلال المواطنين تتم وفق الطريقة الحالية: مقابلات شكلية طويلة لا فائدة ترجى منها يتم من خلالها استبعاد الكفاءات الوطنية وتصفيتها وتهميشها وقتل الإبداع والحماس والطموح بداخلها. البلاد تشهد مقتل الكثير من المواطنين إبداعيا ومن ضاق به الحال ورأى في بقائه بالبلد قتلا لنفسه آثر الهجرة والتغرب في بلاد تقدر كفاءته وتنزله المنزلة التي تليق به.

فالحكومة تصم آذانها عما تعتبره نشازا وتحاول جاهدة تمييع القضية وإفراغها من محتواها الأساسي وهي بذلك تفاقم من القضية بدلا من أن تعترف بها وبأسبابها الحقيقية ومن ثم معالجتها.

أسباب البطالة والتهميش واحدة لا يختلف عليها اثنان منصفان ولعل السبب الحقيقي هو ما أشار إليه النائب عبدالنبي سلمان في وقفته الشجاعة أن التمييز بين المواطنين هو السبب الرئيسي للبطالة مستشهدا على كلامه بالأسماء والأرقام، فالتمييز هو الذي يولد المحسوبية والواسطة عند التوظيف والتمييز هو الذي دفع الحكومة للقيام بتجنيس انتقائي والتمييز هو الذي جعل جل شركاتنا الكبرى ووزارات الدولة حكرا على عوائل وفئات معينة خاصة في هيكلها الإداري.

من المخجل حقا أن تقتل الإبداع داخل نفس بشرية كما أنه من المخجل أن يمارس التمييز ضد طائفة كانت ولم تزل وستكون مصرة على وطنيتها، وما عمل كاتب المقال في شركة متواضعة براتب زهيد لمدة مؤقتة إلا ضرب من قتل الإبداع والتمييز على رغم حصوله على درجة امتياز مع مرتبة الشرف في الهندسة الكيميائية!.

محمد سعيد أحمد إسماعيل

العدد 262 - الأحد 25 مايو 2003م الموافق 23 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً