العدد 2560 - الثلثاء 08 سبتمبر 2009م الموافق 18 رمضان 1430هـ

عندما يصل الفساد إلى ذيل السمكة (2 - 2)

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لكي ندرك خطورة تسرب الأدوية المغشوشة إلى الأسواق العربية، لابد لنا بداية أن نمتلك تصورا أوليا عن حجم تلك السوق، التي تشير إحصاءات وردت في بعض التقارير التي قدمت الى مؤتمر وزراء الصناعة العرب، الذي عقد في منتصف العام 2007 في دمشق، إلى أن «الصناعة الدوائية في الدول العربية قد ارتفع إنتاجها (حينها) إلى ما قيمته 2.15 مليار دولار، وأن الوطن العربي يستهلك سنويا من الأدوية بقيمة 4.5 مليارات دولار، وهذا يشكل 15 في المئة من الاستهلاك العالمي».

ورقة عمل أخرى قدمت للمؤتمر المنظمة العربية للصناعة والتعدين تتوقع أن «يصل الإنتاج الدوائي العربي إلى نحو 2.5 مليار دولار مع مطلع هذا القرن ليغطي نحو 45 في المئة من استهلاك الوطن العربي والمقدر بـ 5.5 مليارات دولار وبزيادة سنوية قدرها 50 في المئة».

هذه الأرقام المتفائلة، لا تعني إطلاقا أن البلاد العربية قد نفذت بجلدها من آفة الأدوية المغشوشة. ذلك ما تؤكده اعترافات المسئولين فيها، والضالعين في العمل في أسواقها، إذ يعترف مساعد وزير الداخلية للأمن الاقتصادي المصري اللواء محمد لطفي، بوجود أدوية مغشوشة بالأسواق المصرية «تصل نسبتها إلى ‏10 في المئة‏ من كميات الأدوية الموجودة»، لكن ممثل شركة «غلاسكو» عمرو ممدوح ‏يرى ما هو أسوأ من ذلك، حيث يؤكد أن «ظاهرة غش الدواء (في مصر) في تزايد مستمر، إذ وصلت في العام 2007 إلى 25 في المئة من حجم السوق المصرية بواقع 1513 حالة غش دوائي خلال العام».

وتشير مصادر بعض الشركات المتخصصة في صناعة الدواء والعاملة في السوق المصرية إلى أنه في العام 2008، التهمت سوق الأدوية المغشوشة ما قيمته 22 مليون دولار، من أصل 2.2 مليار دولار، هي إجمالي قيمة سوق الأدوية المصرية. لكن هناك من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما يتعلق الأمر بصناعة الأدوية المغشوشة، إذ تشير بعض التقارير إلى أن نحو 7 في المئة من الأدوية العالمية المغشوشة يتم تصنيعها في مصر.

وفي لبنان، ينقل موقع إيلاف عن النائب في البرلمان اللبناني إسماعيل سكرية قوله «إن الأدوية المزورة والمغشوشة موجودة في لبنان وتتكاثر، بغياب الرقابة الحازمة والمحاسبة، والتقرير الأخير لمنظمة الصحة العالمية يرفع مستوى الأدوية غير الصالحة للاستعمال إلى ثلث الاستهلاك، ما بين مغشوش وممدد الصلاحية وما بين طبخات وهمية تُعمل في الداخل والخارج، وهذا طبعا غير التهريب من دول متخلّفة في صناعة الدواء يتم تقليد الدواء بحسب المصنع الأم».

أما في دولة الإمارات المتحدة، فقد بادرت وزارة الصحة هناك إلى تشكيل لجنة خاصة مهمتها التصدي لظواهر التزييف والغش في الأدوية، حيث يتوقع أن تبلغ قيمة سوق الدواء هناك إلى ما يقارب من ملياري دولار، تشكل مشتريات وزارة الصحة 40 في المئة منها.

وحتى في دولة مثل السعودية، والتي يعترف مدير الشئون العامة في شركة فايزر للأدوية مجدي محسن في كلمته التي ألقاها في المنتدى العربي الأول لحماية المستهلك بعدم توافر «معلومات دقيقة بشأن حجم الأدوية المغشوشة في المملكة العربية السعودية»، لكنه يضيف أنه في حال «طبق النسب العالمية المتحفظة، وهي 8 في المئة على المملكة الذى يقدر فيها حجم سوق الدواء بنحو 2 مليار دولار، نجد أن حجم الأدوية المغشوشة قد يقدر بنحو 160 مليون دولار».

انتشار وتنامي صناعة الأدوية المغشوشة عالميا وكذلك عربيا، يدق ناقوس الخطر أمام تهاوي القيم الإنسانية النبيلة التي يفترض أن تتحكم في سلوك الإنسان المعاصر، فإن يصل الغش والتزوير إلى هذا القطاع، يعني أنه لم يعد هناك أي رادع، أخلاقي أم غير أخلاقي، يمكن أن يثني هذا الإنسان عن ارتكاب أسوأ الجرائم وأكثرها بشاعة، بحق بني جنسه، سعيا وراء الربح، أو أية مكاسب أخرى. ونظرة شاملة إلى ما يدور من حروب على الكرة الأرضية، تؤيد هذه النظرة الواقعية، بغض النظر عما تكتنفه من نزعة تشاؤمية. ومن ثم فلم يعد هناك ما يمكن الدفاع عنه أمام إصرار هذا الإنسان على الإمعان في جشعه، وسعيه الأعمى وراء تحقيق أعلى نسب من الأرباح المادية، ضاربا عرض الحائط بشرعية مصادر تلك الأرباح والقنوات التي جلبتها، من جهة، ومتعاميا عن الأضرار التي تلحقها بالمجتمعات البشرية من جهة ثانية.

وللعلم بالشيء فقط، تعتبر شركات صناعة الأدوية (غير المزورة) من أكثر الشركات تحقيقا للأرباح. ففي العام 2002 على سبيل المثال، كشفت مجلة «فورتشين» عن تحقيق «أكبر عشر شركات أميركية في مجال صناعة الدواء مبيعات بلغت 217 مليارا من الدولارات محققة هامشا ربحيا صافيا يزيد بمتوسط بلغ 3.1 في المئة على ذلك الربح الذي حققته أكبر خمسمئة صناعة في ذلك العام».

هذه الأرباح الفاحشة، وذلك الغش المتنامي يعيدان سوية إلى ذاكرتنا طرفة كان يتندر بها العراقيون أبان الحكم الملكي قبل انقلاب 1958 العسكري، إذ يقال إن الفساد حينها قد طال كل أجهزة الدولة، وزكمت رائحته العفنة كل الأنوف، لدرجة لم يعد بالإمكان تجاهله أو غض الطرف عنه. تلك الحالة دفعت برئيس الوزراء العراقي حينها نوري السعيد إلى أن يدعو وجهاء البلاد وأعيانها سوية مع وزرائه إلى جولة في سوق السمك في بغداد. لاحظ الزوار حركة غريبة كان يقوم بها نوري السعيد عند توقفه أمام حوانيت بيع الأسماك، إذ كان يمسك أحدى الأسماك ويقرب ذيلها من أنفه كي يشمها. استغرب المرافقون، وتجرأ أحدهم وبادر بسؤاله «معاليكم تدركون أن تعفن السمكة يبدأ من الرأس، وليس الذيل؟، أجابه نوري السعيد متهكما «أدرك ذلك لكني أبحث عن المدى الذي وصل إليه العفن في جسم السمكة، بعد أن بت متأكدا من إصابة الرأس».

وباختصار، وإذ تزكم أنوفنا رائحة فساد صناعة الدواء نرفع السؤال: هل بلغ فساد المجتمع الإنساني القاع، فلم يعد ما هو بعده؟

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2560 - الثلثاء 08 سبتمبر 2009م الموافق 18 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً