العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ

تكريس الرقابة المسبقة عبر تعميم الخوف أوكسجينا يوميا

قانون الصحافة... هاجس الرقابة عندما يصوغ القوانين (2-2)

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

«الرقابة» كمفهوم واداة تدل على حاجة إلى الضبط المسبق، وهي مكون أساسي في الثقافة العامة الموروثة وأداة راسخة في التقاليد السياسية ايضا. من بإمكانه اليوم ان يدّعي ان المجتمع الذي عاش عقودا طويلة لا يعرف المشاركة والتعددية. قد تحول اليوم وخلال شهور إلى مجتمع ديمقراطي بكل معاني الكلمة. وهو في سعيه المفترض هذا لترسيخ الديمقراطية سيتخلى عن كل الادوات والمفاهيم التي تربى عليها طيلة تلك العقود وأهمها «الرقابة».

الرقابة ليست أداة سياسية فحسب، او مفهوما تتشبع به نخب المجتمع واجهزة الدولة، وهو ما يدفعها إلى الخلط في ادوارها، بل هو مفهوم مجتمعي يبدأ من العائلة التي تشكل المكان الاول والمؤسسة الاولى التي يتشكل فيه وعي الصغار بالاسرة كمؤسسة للرقابة والتوجيه. فالاسرة هي التي تحدد مقاييس ومفاهيم الصواب والخطأ لدى الصغار بالمعنى الاوسع للكلمة. وهي لا تستطيع ان تمارس هذا الدور حتى مع تأكيدنا البعد الاخلاقي فيه من دون ان تستعين باكثر المفاهيم قوة ومضاء «الرقابة».

لست هنا بصدد البحث عن الوسائل المثلى للتربية، لكن الرقابة كمفهوم مركزي في حياتنا السياسية والثقافية بات يدفعنا إلى القلق الحقيقي والتساؤل عما اذا كانت السلطة قد استوعبت فعلا دورها في ظل مجتمع ديمقراطي تعددي. ان الرقابة تبدو أحد مهمات السلطة حتى في المجتمعات الديمقراطية، لكن الفارق يبقى كبيرا في الكيفية التي تطبق بها هذه الرقابة واهدافها وغاياتها. هنا بالضبط تتحدد المشكلة مع «الرقابة». فمع الاقرار بأنها احدى وظائف الحكومات التي تجسد مفهوم القوة والقسر كجوهر للسلطة، لكن ما سيحدد فهمنا لها من خلال القوانين هو غاياتها. وابسط ما يمكن ان يرد في الذهن هنا هو التساؤل: هل يتشابه مفهوم ووسيلة الرقابة وغاياتها في المجتمعات الغربية الديمقراطية مع مفهوم ووسيلة الرقابة وغاياتها في مجتمعاتنا العربية - على الاقل - في مسألة النشر والطباعة والصحافة؟

إذا كنت أنظر بتفاؤل الى تجربة الديمقراطية في البحرين، فإن القلق سيصبح حتميا عندما نرى ان مفهوم «الرقابة» هذا يأخذ غايات ووسائل ماتزال تستمد دوافعها من ميراث العقود الماضية أي «الحاجة إلى الضبط المسبق» لكن بدوافع لا تعزز الديمقراطية بل تنتقص منها. وهي هنا تبدو اخطر بكثير في ظل التعددية والسعي نحو ترسيخ الديمقراطية واشاعتها، لان الدوافع تتعامل مع المستقبل وليس الحاضر، انها بالضبط تأتي لتواجه اندفاعا مفترضا نحو آفاق الحرية التي يقترحها علينا الحاضر.

تحول خطير بالمفاهيم

ضمن هذا الفهم، لحظنا كيف ان القانون المقترح في سعيه إلى الضبط المسبق وتكريس الرقابة، لم يكتفِ باعطاء الوزارة سلطات من دون ضوابط، بل انه يؤسس لتحول خطير في المفاهيم عندما تعامل مع الطباعة والنشر والصحافة، اي بمعنى آخر ادوات «حرية التعبير» كنشاطات يتعين خضوعها للرقابة المسبقة وبشروط متشددة: في الترخيص وفي الرقابة على العمل اولا باول مثلما هي الحال فيما يخص المطابع.

لم يفقد القانون بنصوصه هذه النشاطات المتصلة عضويا بحرية التعبير بعدها التجاري فقط (كعلامة على التعامل الواثق مع حرية التعبير) بل انه باشتراطه حصول الطابع على اذن على كل مطبوع ينوي طباعته، اضاف إلى المستثمرين من اصحاب المطابع مهمة جديدة هي ممارسة الرقابة.

لم ينص القانون على ذلك طبعا، لكنه عندما وضع قيد الحصول على الاذن المسبق لكل مطبوع قبل طباعته، وفي بلد لا ينتج اكثر من عشرة اصدارات ذات قيمة في العام الواحد، فان هذا لن يعني سوى ان الطباعة ستصبح استثمارا لا جدوى منه. ولاولئك الذين سيبقون في سوق الطباعة، فان عليهم ممارسة دور الرقيب على المطبوعات التي ينوون طباعتها حرصا على رزقهم.

وفي نهاية المطاف، وكنتيجة اضافية، لن نجد في المستقبل القريب اي علامة على ازدهار حركة النشر كعلامة على اتساع حرية التعبير ونموها، بل سيبقى المؤلفون البحرينيون وطاقات رائعة تعاني من الوضع القديم نفسه. لن نأمل ان يكون لدينا في يوم ناشر بحريني، بل سيذهب المؤلفون الى الخارج حتما وسيبقى الوضع مثلما هو عليه.

إن تحويل تراخيص مؤسسات قياس الرأي العام ومؤسسات الدعاية والاعلان والعلاقات العامة من تراخيص تجارية الى تراخيص يجب الحصول عليها من وزارة الاعلام، يؤكد السعي إلى تكريس الرقابة على كل ما له صلة بالتعبير، ان مؤسسات قياس الرأي العام احد الادوات القوية لحرية التعبير في اي مجتمع. لكن القانون وهو يحول كل هذه النشاطات من نشاطات تجارية ترخص من قبل وزارة التجارة الى وزارة الاعلام لا يعطينا مؤشرا او علامة على تقدير لميزة التخصص مثلا كأن تضطلع الاعلام بكل ماله صلة بالنشاط الثقافي والنشر والطباعة، بل انه مؤشر على فقدان هذه النشاطات لشرط السوق الاول وهو «الحرية».

يمكن استنتاج ذلك من دون مشقة لان القانون نفسه لا يحدد اية ضوابط لاصدار تراخيص هذه المؤسسات بل يوردها مجردة، عكس الحال عندما كان يتم التعامل معها كنشاطات تجارية. لسبب بسيط هو ان شروط منح الترخيص التجاري واضحة، ولا يورد القانون (قانون المطبوعات والنشر) شروطا للترخيص لمؤسسات قياس الرأي العام او مكاتب العلاقات العامة او الدعاية والاعلان او مكاتب الترجمة، ويسكت تماما عن الحديث عن ضوابط الترخيص لهذه المؤسسات وحقوق مقدمي طلب الترخيص في الرجوع على الوزارة لدى القضاء في حال الضرر او التعسف مثلا، ولا يقدم اي ضمان من اي نوع لهذه الحقوق او اية معايير يمكن الاستناد إليها في المستقبل لرفض او قبول طلب الترخيص. ولا يمكن تبرير هذا السكوت بالسهو او الزلل، لكن النتيجة الوحيدة التي يمكن استخلاصها لهذا السكوت هي ان اغفال كل هذه الضوابط تعطي الوزارة ايضا سلطة من دون ضوابط.

وحتى مع الاخذ في الاعتبار حسن النية، فخلو القانون من الضوابط وحقوق الافراد في مواجهة الوزارة انما يعني في النهاية وحسب النصوص ان رفض او قبول اي طلب لا يخضع لاية ضوابط.

إن القانون يورد كل هذه النشاطات في باب التعريفات، لكنه يسكت تماما عنها في النصوص اللاحقة مثلما فعل في نسخته الاولى مع «المواقع الالكترونية». فهو لا يتحدث باي تفصيل عن كل ما اضافه الى سلطات الوزارة في الترخيص لمكاتب الترجمة والدعاية والاعلان ودور قياس الرأي العام ودور التوزيع.

ومع التسليم بان انشاء وكالة انباء او مكتب صحافي، يدخل في اختصاص وزارة الاعلام، لكن القانون بسكوته ايضا على مقاييس الترخيص وحقوق الافراد في مواجهة الوزارة، انما يكرس «السلطة من دون ضوابط» ويفسح المجال بحرية أمام التعسف والهوى في القرار الاداري.

كبح اندفاعات الحرية

عدا القيود الواردة في النصوص الاجرائية، فان الخوف من اندفاع مفترض نحو الحرية او آفاقها المقترحة، يعكس نفسه في نصوص اخرى من القانون تقود بالنهاية الى ان تجعل الصحافة والطباعة والنشر اكثر صعوبة بل ومغامرة غير مأمونة العواقب.

في احد اشتراطاته للترخيص للصحف، اشترط القانون رأسمالا لا يقل عن مليون دينار. ابسط سؤال يمكن ان يطرح هنا هو: لماذا مليون دينار تحديدا؟ ألا يمكن ان تصدر الصحيفة بنصف مليون دينار؟ ألا يمكن ان تصدر الصحيفة بسبعمئة الف دينار مثلا او اي مبلغ آخر لا يقل عن 300 ألف دينار؟

لا يكتفي القانون بالحجر على الخيال الخلاق في التجارة فحسب، بل والمهارة في توزيع الكلفة والمصروفات التي يمكن ان يتمتع بها اي مستثمر حصيف او اي صحافي يدرك بالخبرة وبالخبرة فقط ان الانتاجية في الصحف وجودة الخدمة ليسا مرتبطين بالضرورة بالرساميل الكبيرة، بل بحسن التعامل مع الموارد والامكانات. هذه قاعدة ذهبية في التجارة، لكن المشرّعين لدينا لديهم وجهة نظر اخرى على ما يبدو.

لا يكتفي القانون بذلك، بل يزيد من التكاليف المالية لاصدار صحيفة باشتراطه ايداع نسبة لا تقل عن 5 في المئة من رأس مال الصحيفة كتأمين. أي 50 ألف دينار اضافية. وما يفهمه اهل التجارة والاستثمار جيدا، ان وضع رأس المال كضمان لا يعني سوى ان المصرف سيقوم بتجميد المبلغ وعلى هذا يحتاج مؤسسو الصحيفة إلى مليون اخرى لكي يبدأوا العمل.

أليس هذا تكريسا لبعد طبقي للصحافة مذكرا من جديد أنها احدى الادوات الاساسية التي لا غنى عنها لحرية التعبير؟

لقد استعار القانون هذا الشرط من المبادئ التي وضعتها اللجنة الفرعية للجنة تفعيل مبادئ ميثاق العمل الوطني، لكن الزملاء الاعزاء اعضاء اللجنة عندما وضعوا ذلك المبدأ كان يحركهم هاجس اجتماعي هو الحاجة الى ضمان مستقبل العاملين في الصحيفة باعتبار ان الصحافة اليومية بالذات باتت استثمارا كبيرا يتطلب رساميل ضخمة. وهذا هو المبرر الذي يتكرر بشأن هذه النقطة، لكن هذا امر يمكن الرد عليه ببساطة لان التوظيف والعلاقة بين رب العمل والعامل تخضع لقانون العمل الذي لم يغفل عن بيان اصول التعاقد والتوظيف، وأوضح بجلاء حقوق العاملين وحقوق ارباب العمل. وفي حال الضرر مثلا لفشل المشروع، فان المسئولية واضحة ولا يمكن التنصل منها تماما مثلما هي الحال في اي مشروع تجاري آخر.

لكن نتيجة هذا القيد المالي الباهظ واضحة، فالقانون باشتراطاته المالية الباهظة لا يفعل سوى ان يكرس صحافة ذات بعد طبقي ولا يجعلها أداة فعالة لحرية التعبير عبر هذا التحديد لانه افقدها شرط انتشارها. انتشارها الذي سيكون العلامة الاولى على شيوع حرية التعبير وقدرة اوسع الشرائح الاجتماعية على ممارسته. فهو لا يتح اي مجال لكي يتنافس من يملك نصف مليون دينار لاصدار صحيفة مسلحا بالموهبة وحسن التدبير وبكل ملكات التجارة والابداع الصحافي مع من يملك مليوني دينار متسلحا بقدرته على الاغراق وسحق المنافسين بما يتيحه له الرأس مال الضخم.

ولن يكون بمقدور من يملك 450 ألف دينار ان يثبت ان الانتشار واكتساب احترام القارئ مسائل لا تتطلب رساميل ضخمة بقدر ما تتطلب تلبية حاجة هذا القارئ إلى المعرفة والعمق او التحليل او الخبر الطازج او التخصص او بمعنى أصح «الحِرَفية العالية»، او تضافر خــــلاق - مازلنا نفتقده على أية حال - بين ملكات الادارة التجارية والموهبة الصحافية. ومادام الامر يتعلق بالسوق والمنافسة، فان شرط الدخول والبقاء في السوق والنمو ضمن هذا الفهم بات محددا سلفا: الرأسمال الضخم وليس الموهبة ولا الذكاء ولا الخيال الخلاق.

يمكننا ان نكون مترفقين قليلا في هذه الجدل عندما نستذكر حقيقة اخرى تحكم سوق الصحافة وهي «صغر هذا السوق». ثمة قناعة ظلت شائعة لفترة من الوقت ترى ان السوق لا يحتمل اكثر من صحيفتين. لكن لدينا اليوم ثلاث صحف يومية عربية واثنتان بالانجليزية. ومع ازدهار سوق المجلات المتخصصة، لن نحتاج الى دليل اضافي على ان صغر السوق ليس دليلا او عائقا امام نموه. وليس لي هنا لكي اختم ملاحظاتي في هذه النقطة سوى الاحالة إلى قوانين السوق نفسها وقوانين المنافسة. ولربما ان احد الاستنتاجات التي ستقفز الى الذهن هو ان هذه الشروط المالية الباهظة قد صيغت بغرض المحافظة قدر الامكان على مساحة ما للمتنافسين في سوق الصحافة. لكنها بمعنى آخر ستجعل اولئك الذين سيدخلونه يفكرون الف مرة ومرة لانه بات استثمارا مكلفا لا بمقياس حرفي بل بقيود اقتصادية محددة سلفا. ألم يخطر في البال احتمال مثل هذا: مستثمرون سيدخلون السوق بعشرة ملايين دينار لاصدار صحيفة، فهل يمكن ان نسمع صوتا شاكيا من المستثمرين الحاليين بالسوق يطالب الوزارة بالتدخل خشية على ارزاقهم؟ في نهاية المطاف، إن القدرة على البقاء والمنافسة ستبقى رهنا بالمواهب والذكاء والخيال الخلاق بالمعنى الاشمل للكلمة: حِرَفيا وتجاريا.

عدا انني لا اود هنا ان أقيم جدلا اكاديميا بشأن المنافسة وقوانين السوق وقدرة الصحف على البقاء والنمو، لكن لألفت النظر لفداحة مضامين النص وتبعات الشروط المالية الباهظة. ان القانون يصعّب مهمة اصدار الصحف وهو لا يكتفي بهذا بل يجعل ممارسة الصحافة ايضا مهمة اكثر مشقة وللاسف في ظل: الديمقراطية.

الرقابة أوكسجين

يمضي القانون اكثر لتكريس فضاء الرقابة المسبقة داخل الصحف نفسها ويجعلها الفضاء الذي يحكم العمل اليومي في الصحيفة مثلما هي الحال مع المادة (60). إذ تكرس هذه المادة وظيفة رئيس التحرير بوصفه رقيبا على كل ما ينشر في الصحيفة مختزلة حرية التعبير لكل فرد الى وظيفة منوطة بشخص واحد هو رئيس التحرير. فهو هنا مثل «الطابع» الذي يتعين عليه التدقيق جيدا في كل ما ينوي طباعته. وعلى رئيس التحرير - والحال هذه - ان يقرأ صحيفته حرفا حرفا او ان يقسم المهمة بينه وبين مرؤوسيه الاقل رتبة طالما ان القانون يحمّله شخصيا المسئولية عن أي تجاوز.

لا يحتاج القانون لتذكيرنا بالمسئولية المعنوية ومسئولية التضامن لرئيس التحرير والصحيفة مع محرريها، لكنه بايراده لهذا النص انما يجعل من حرية التعبير رهنا للرقابة المسبقة ايضا: رقابة رئيس التحرير. ان الخوف من الوقوع في الخطأ او الزلل سيهيمن على ذهن رئيس التحرير دونما اي دافع آخر. فالخوف من الخطأ وهو خوف مطلوب من رئيس التحرير ان يعايشه بشكل يومي، كفيل بان يقضي على كل نوازع الابداع والخيال. ولمن خبروا اجواء الصحف البحرينية جيدا، يمكن ادراك مدى الاذية البالغة في نص كهذا لانه لا يفعل سوى ان يحول الرقابة الى الدافع المنظم الوحيد للعمل اليومي في الصحف. ان مهمة كهذه لا يمكن ان ينهض بها رئيس التحرير وحده. وفي ابسط الصور، سيردد امام مرؤوسيه انه لا يستطيع قراءة كل موضوعات الصحيفة، والنتيجة الحتمية هي ان هذه المهمة سيعاد توزيعها بصورة منظمة على شكل مسئوليات واضحة لا تقبل الجدل على المرؤوسين الاقل رتبة بدءا من مدير التحرير وصولا الى رؤساء الاقسام. وعندما يوضع دافع الرقابة والبحث عن مواقع الزلل المفترض امام دوافع التجويد، فإن دوافع الرقابة هي التي ستنتصر لسبب بسيط: دافعها هو الخوف.

الخوف من الوقوع في الخطأ، الخوف من عواقب مفترضة تستحوذ على الاذهان اكثر من دوافع التجويد. ان الحرية تحتاج الى جرأة في التفكير وليس الى التهور طبعا، وتحتاج الى التركيز على التجويد والابداع. لكن هذه الدوافع تتراجع امام الخوف ولا يمكن ان تتعايش معه لانه بالنهاية مرتبط بالرزق.

أخطر ما في نص المادة (60) هو انه يساوي في المسئولية بين الخبر والمعلومة والتحقيق كادوات ووسائل اساسية للعمل الصحافي، او بمعنى آخر بين الحق المكفول دستوريا في المعرفة وبين «الرأي». وطالما ان مسئولية رئيس التحرير ضمن هذا النص شاملة لكل ما ينشر في الصحيفة، فان هذه المسئولية تمتد حتما الى موضوعات «الرأي». هنا تم وضع رئيس التحرير على تماس مع آراء كتاب الصحيفة او الذين يكتبون للصحيفة من خارجها. وهواجس رئيس التحرير وخوفه سيفعل مفاعليه مع قضايا الرأي ايضا اي بالضبط المؤشر الاهم لحرية التعبير والتسامح والتعددية. واذا سلمنا بان مقياس الحكم على موضوعية اية صحيفة سيكون رهنا بمدى تسامحها ونشرها آراء قد لا تنسجم مع توجهاتها، فان نص هذه المادة وتكريس رئيس التحرير رقيبا عبر تعميم الخوف في العمل اليومي للصحف، لن يعني في نهاية المطاف سوى ان ثمة الحاحا على الرقابة عبر تعميم الخوف الذي يراد له ان يطول كل شيء: الخبر، التحقيق، الموضوع الثقافي او الفني، الاخبار المنوعة، بل ليمضي اكثر ويصبح بمواجهة «الرأي».

في نهاية المطاف، يؤكد هذا الالحاح على «الضبط المسبق» الذي يعبر عنه القانون في نصوصه الاجرائية مكرسا للرقابة، وفي النصوص الاخرى التي تجعل نشاط الصحافة والطباعة والنشر نشاطا شاقا مليئا بالمصاعب وباهظ الكلفة، يؤكد ان المستقبل هو المعني.

وهو هنا يستعير من الرقابة مفهوما واداة ما يجعلها عائقا وليس وسيلة للترشيد او وسيلة للنمو المتوازن. يكرسها عائقا للنمو طالما استذكرنا ان الرقابة حتى كمفهوم اجتماعي وفي ابسط صورها قد تتجسد في جعل الامور اكثر صعوبة واكثر مشقة. وبغلبة هذا البعد، فانها تفقد غايتها القصوى كوسيلة واداة عقلانية لانها ماتزال في نصوص هذا القانون «مشوبة بالغموض» مثلما في النصوص التي تخفي اسبابا اخرى غير الواردة للترخيص باصدر الصحف. و«مشوبة بالهوى واستغلال السلطة» مثلما هي النصوص التي تعطي سلطة من دون ضوابط، و«تكرس الرقابة» مثلما هي في النصوص المتعلقة بالصحف والمطابع. وباستبداله لمفهوم الصحافة والنشر والطباعة والحاقه لكل النشاطات الاخرى مثل قياس الرأي العام والترجمة ومكاتب العلاقات العامة والدعاية تحت مظلة الاعلام من دون ضوابط واضحة ولا ايراد لحقوق الافراد، فان الالحاح على وضع كل هذه النشاطات تحت مظلة الاعلام انما يعني وضعها في فضاء رقابة مسبقة لا تعني بالنهاية سوى ان القانون بشكله الراهن يشكل عائقا بين المجتمع وبين شيوع حرية التعبير

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً