تمثل مشاعر الحب وأشواقه، وأماله وآلامه، وتضحياته وهمومه، مادة خصبة شكلت الأساس للكثير من الأعمال الفنية سواء في الشرق أو الغرب، مادة قدمت لنا نخبة من أفضل النجوم وشكلت لنا قائمة طويلة لا تنتهي - وان قل تسارعها في الحقبة الأخيرة من عمر السينما - قائمة حملت أسماء لامعة كليلى مراد، عبدالحليم حافظ، فاتن حمامة، ريتا هيوارث، ميغ رايان، كيت وينسلت، ليوناردو دي كابريو. نجوم رسموا لنا عبر تدرج الزمان صورا كثيرة للحب بكل أشكاله ومعانيه، صورا قد تكون مشرقة زاهية الألوان أو عابسة كئيبة شاحبة، صورا أحببناها وعشنا معها فرقصت قلوبنا لفرح الأحباب وتمزقنا ألما ولوعة عند الفراق. صور جعلتنا نعيش مع ابطال عاشوا في التاريخ أو أولئك الذين صنعتهم مخيلة الكتاب، فشهدنا قيس وليلى أشهر المحبين في الشرق، وشهدنا روميو وجولييت في الغرب كأبطال لصور حقيقية، وشهدنا جون وروز في تايتانيك كصور صنعتها مخيلة الإنسان، وغيرهم الكثير، لكن القليل من هذه الصور هو ما تألق وبقي عالقا في أذهان الناس، وفي العادة لا تكون الصور التي تبقى هي السعيدة المبهجة بل الحزينة الموجعة التي يفترق فيها الحبيبان، ولا اعرف ان كان السبب يعود إلى ان العقل البشري يسلم بالفراق والألم أكثر من قبوله للحالة الأخرى انطلاقا من ان الأمور كلها إلى زوال!!
الصورة التي قدمها جيرارد ديبارديو في فيلم Cyrano de Bergerac هي احدى هذه الصور الموجعة التي تظل باقية في الذهن وتضاف إلى قائمة روائع صور الحب، لتضع سيرانو في الطابور ذاته الذي يقف فيه قيس بن الملوح وروميو. قصة حقيقية حدثت في حوالي القرن السادس عشر في فرنسا يصورها لنا المخرج جان بول رابينو في فيلم استحق خمس ترشيحات لجوائز الأوسكار ليحصل على واحدة منها في سنة انتاجه (1990) بالاضافة إلى الكم الهائل من الترشيحات والجوائز الأخرى، فيلم تميز بين الأفلام الفرنسية أولا ثم تألق كفيلم عالمي.
قصة الفيلم مأخوذة من مسرحية للكاتب الفرنسي ايدموند روستان، وهي تدور حول قصة حب سيرانو (جيرارد ديبارديو)، الرجل النبيل، الشجاع، جريء القلب، فصيح اللسان، والمشوه بسبب أنف ضخم يقول عنه ساخرا في أحد مشاهد الفيلم: «انه يسبقه بربع ساعة». سيرانو يحمل حبا كبيرا لابنة عمه «روكسان» (آن بروشيت) التي لا تبادله الحب لكنها تقع في غرام أحد الجنود الذين يعملون تحت إمرته ويدعى «كريستيان» (فينسنت بيريه) وهو شاب وسيم لكنه لا يحسن الحديث ويخجل من بث مشاعره لروكسان. ولا تكتفي روكسان بعدم مبادلتها سيرانو مشاعره بل انها تقصده طالبة منه الاهتمام بحبيبها ورعايته، ويمتثل سيرانو الذي لا يرعى كريستيان فقط بل يتفق معه في ان يوقع روكسان في حبه بطريقة أكبر باثا لها كل عبارات الحب والغرام التي تتوقعها من حبيبها، على لسان كريستيان ولكن بكلمات سيرانو. ينجح الاثنان وتذوب روكسان في حب كريستيان وتتزوجه بينما يعيش سيرانو كاتما مشاعره حاملا الألم والحسرة طوال حياته، ولا تنكشف الحقيقة لروكسان إلا في لحظات موته.
جاءت هذه القصة في قالب درامي يمتلئ بالكثير من الفكاهة والظرف نسمع معظمها من لسان سيرانوا (ديبارديو) الذي استطاع بحضوره المميز ان يخلق فيلما متألقا مميزا كاد أن يفشل لولا حضوره وجاذبيته التي طغت بالكاد على أي عنصر قوة آخر في الفيلم، فديبارديو تمكن من ان يضحكنا ويبكينا، ثم عاد ليجبرنا على الضحك في أحلك الساعات وعلى ان تتساقط دموعنا ونحن نستمع إلى حواراته وكلماته الظريفة.
ديبارديو ممثل قدير ولسنا بحاجة الى اطراء قدراته اذ يكفي معرفة انه احد اهم دعامات السينما الفرنسية لنعرف سر تألقه على الشاشة. وطبعا لا يمكن اجحاف باقي الممثلين فجميعهم أدوا اداء رائعا وصادقا جعلنا نعيش مع القصة التي ما كانت لتنجح سينمائيا إذ انها قصة مسرحية أساسا وحتى حواراتها الشعرية والادبية كانت مناسبة لعرض مسرحي أكثر منها لفيلم رومانسي، وعلى رأس من تألقوا جاك ويبر الذي أدى دور كوميت دوغيش، رئيس سيرانو الذي كان نفسه واقعا في حب روكسان وكان كثير التودد اليها، والذي كان له دور لا بأس به في خلق جو الفكاهة في الفيلم. والى جانب هؤلاء تألقت آن بروشيت، الجميلة الناعمة التي استطاعت ان تتقن دور الحبيبة العاشقة ثم دور الأرملة الحزينة والتي أدت جميع مشاهدها بصدق وعفوية جعلتنا نحبها ونتعاطف معها على رغم انها تسببت في أذى سيرانو الذي احببناه منذ البداية على رغم مشاكساته وعنفه وازعاجه للآخرين الذي شهدناه في أحد المشاهد الأولى، حين أفسد عرضا مسرحيا بسبب كرهه لبطل المسرحية ولم يكتفِ بذلك بل انه تبارز معه وتسبب في جرحه.
وإلى جانب أداء الممثلين الرائع جاءت قدرات المخرج جان بول رابينو وفريق عمله ومهاراتهم في اختيار اللقطات ومواقع التصوير ونوع الأزياء والموسيقى لتسهم في تميز الفيلم واضفاء شيء من المسحة التاريخية عليه. وتأتي عناصر ضعف الفيلم في الحوارات الطويلة التي جاءت على لسان سيرانو في بعض المشاهد والتي كانت مملة إلى حد ما، هذا إلى جانب المشهد الأخير الذي يموت فيه سيرانو إذ نراه يحتضر بينما يسهب في الحديث مع روكسان ليناقش الكثير من الأمور بل ولينقل لها آخر أخبار القيل والقال، مشهد بولغ فيه ليمتد الى دقائق طويلة ومملة إذ ان المشاهد عند هذه المرحلة وقد عرف نهاية القصة لا ينتظر المزيد، فما الداعي الى اطالة مشهد الاحتضار وخصوصا مع كون المشهد غير مقبول منطقيا.
مهما يكن فإن الفيلم رائع ومميز، يقدم لنا صورة للحب الذي لا أمل له والذي تقول عنه أم كلثوم إنه أسمى معاني الوجود، وعلى رغم انه يقدم قصة ليست جديدة على المشاهد ولا تقدم للمرة الأولى فقد قدمت في فيلم فرنسي قام ببطولته جوسيه فيريه في العام 1950 وفاز عنه بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، ثم قدمها ستيف مارتين في واحد من أشهر أعماله وهو فيلم Roxanne الذي عرض في العام 1998، لكن ستيف مارتين جاء كوميديا وفراغ القصة من مضمونها أما هنا فلا يشعر المشاهد إلا بألم مبرح على رغم كثرة الظرف والفكاهة السوداء التي تملأ الفيلم.
اللغة: فرنسي
إخراج: جان بول رابينو
تمثيل: جيرارد ديبارديو، آن بروشيت، فينسنت بيريز، جاك ويبر، رولاند بيرتين
تصنيف الفيلم: دراما رومانسية
مدة العرض: 135 دقيقة
تاريخ العرض: 29 يونيو/حزيران 2003 خلال الأسبوع الثقافي الفرنسي الذي امتد في الفترة (26 يونيو - 3 يوليو)
العدد 303 - السبت 05 يوليو 2003م الموافق 05 جمادى الأولى 1424هـ