العدد 310 - السبت 12 يوليو 2003م الموافق 12 جمادى الأولى 1424هـ

لماذا استحق «عازف البيانو» كل هذه الترشيحات والجوائز؟

The Pianist

كم هي عدد المرات التي تم التفجع فيها على ما يزعم انه حل باليهود ابان الحرب العالمية الثانية، ولست هنا أتساءل عما ذكر في مقالات الصحف أو الخطب هنا وهناك، بل اني احصر سؤالي في هوليوود وعالم السينما، فكم مرة تفجعت هوليوود وناحت وندبت ضحايا النازية من اليهود، وكم هي عدد الترضيات التي قدمتها لهم لتندمل جراحهم «المزعومة»؟. حسنا ببساطة تم عمل ذلك 170 مرة في خلال ثلاثة عشر عاما، هذا الرقم «الصاعق» اخذته من مقالة نقدية كتبها أحد نقاد الأفلام الأوربيين، وهو فيل هال الذي كان خائفا من ان يتهم بمعاداة السامية لأنه وجد قصة الفيلم معادة ومكررة ومملة، أما أنا ونظرا لموقعي فانني سأخشى من أمر آخر معاكس تماما اذ قد يعتقد القراء انني متعاطفة بشكل أو بآخر مع اي تفصيل من تفاصيل الفيلم، لكنني معاذ الله ان اكون كذلك وهذه هي الحقيقة التي قد تكون عادلة لدى قرائي لكنها ستجعل مني منحازة ولا عقلانية لدى قراء آخرين.

يتناول الفيلم معاناة اليهود في بولندا أثناء الحرب العالمية الثانية، والمآسي التي تعرضوا لها على يد النازيين الألمان، وتتضح هذه المعاناة في قصة عازف البيانو اليهودي البولندي لادسلو شبيلمان الذي توفي منذ بضع سنوات والذي كان قد نشر قصته في العام 1946 ثم أعيدت طباعتها في العام 1990 لتلفت انتباه رومان بولانسكي مخرج الفيلم الذي وجد فيها على حد قوله تعبيرا عن معاناته هو نفسه، اذ لقي جميع أفراد أسرته حتفهم على يد النازيين حينما كان في السابعة من عمره بينما نجا هو حين دفع به والده عبر حاجز من الأسلاك الشائكة أنقذه من القتل لكنه أخذ به الى حياة ملؤها ألم وعذاب اذ لم يستطع لحد الآن نسيان تفاصيل ما حدث وخصوصا، بحسب قوله، (موت والدته في غرفة الغاز الذي لن ينسيه اياه الا موته هو نفسه)، وعلى رغم ما تحمله هذه العبارة من ألم الا ان معاناة بولانسكي التي تتجسد في قصة شبيلمان هي معاناة جميع اليهود في جميع أفلام هوليوود.

تبدأ حوادث القصة في العام 1939 في وارسو لنرى عازف البيانو شبيلمان (ادريان برودي) وهو يؤدي آخر مقطوعة موسيقية تم سماعها من راديو وارسو قبل ان يقوم الجيش النازي بدخول المدينة وقصف محطتها الاذاعية، ونرى شبيلمان وهو يواصل عزفه على رغم اصوات الانفجارات التي تتداخل مع موسيقاه، ولا يتوقف عن العزف الا حين يقصف المبنى وينهار فوق رؤوس من فيه، فيفر لينجو بحياته. بعدها نراه وقد عاد الى اسرته متوسطة الحال التي تعيش في وسط المدينة ونراهم وهم يعدون للرحيل خوفا من الجيش النازي لكنهم يتراجعون حين يستمعون الى نشرة الأخبار من محطة BBC التي تفيدهم أن بريطانيا وفرنسا قد قررتا حرب ألمانيا، الأمر الذي يعطيهم شيئا من الأمل وخصوصا شبيلمان الذي كان رافضا لفكرة الرحيل وترك المدينة التي عاش فيها، وهكذا يقرر الجميع البقاء لكنهم بعد فترة يجبرون على ترك المنزل والانتقال للمنطقة التي خصصها النازيون لليهود والتي أطلقوا عليها اسم «الغيتو» وهي جزء من المدينة مخصص لليهود فصله النازيون بسور كبير وجعلوا له بوابة يقوم على حراستها مجموعة من الجنود.

ويستعرض لنا الفيلم واقع الحال في «الغيتو» وخارجه فنشاهد بعض اللقطات التي تنقل الحالة المزرية التي كان اليهود يعيشونها من وراء هذه الأسوار، ونراهم وقد أنهكهم الجوع وقسوة الجنود الألمان ومعاملتهم اللاانسانية التي تصل بهم في أحد المشاهد الى القاء رجل مشلول من الطابق العلوي لأنه لم يتمكن من الوقوف احتراما لهم حين هاجموا داره، وفي الخارج تشتد حلقة الحصار حول اليهود فيمنعون من ارتياد المطاعم والمنتزهات وغير ذلك من الأماكن العامة بل وحتى السير على الرصيف ثم نراهم أخيرا يساقون كالمواشي ليتم نقلهم الى مخيمات أخرى يتضح لنا فيما بعد انها افران الحرق النازية «الهلوكوست» وذلك من خلال عبارة ساخرة اطلقها احد الجنود الألمان بعد انطلاق القطار الذي سيأخذ الضحايا الى حتفهم. عند هذه النقطة ينفصل شبيلمان عن أسرته وذلك حين ينقذه أحد الجنود اليهود المتعاونين مع الجيش النازي والذي كان صديقا له، وينجو شبيلمان من الهلوكوست ليقع في جحيم آخر (كبولانسكي تماما) وهو محاولة البقاء على قيد الحياة في وسط التهديدات النازية المحدقة به، ونراه ينتقل من خطر إلى آخر لكنه ينجح في مسعاه حتى انتهاء الاحتلال، وفي وسط فترات الرعب والفزع التي عاشها والتي جردته حتى من سلوكه الانساني إذ نراه في كثير من المشاهد كالحيوان المذعور الذي لا يريد سوى البقاء على قيد الحياة، في وسط كل ذلك يظل شبيلمان حاملا لموسيقاه حبا كبيرا ويتضح ذلك من خلال الكثير من المشاهد التي نسمع فيها الموسيقى التي تعزف في رأسه حتى في أحلك لحظات الجوع والمرض والخوف التي مر بها ونرى اصابعه تتحرك وكأنها تحلم بالعودة للعزف حتى في أقسى اللحظات التي كان ينتظر فيها موته، بل وتنقذه هذه الموسيقى من الموت حين يقع في قبضة ضابط ألماني يطلق سراحه بعد ان يعجبه أداءه على البيانو، ويظل هو مخلصا لهذه الموسيقى فنراه وهو يركز على حماية يديه حين اشتداد الخطر اكثر من تركيزه على اي مكان آخر.

سيناريو الفيلم وقصته جاءا على شكل سيرة ذاتية، اذ يركز الفيلم على شبيلمان وما مر به من حوادث منذ بدء الاحتلال حتى النهاية، وقد يكون ذلك لرغبة المخرج في ان يتناول «معاناة اليهود» من زاوية أخرى غير التي عودتنا عليها وسائل الاعلام الأميركية، اذ لا يوجد هنا استعراض لجثث القتلى او لمشاهد الدماء والتعذيب او ما شابه بل ينصب التركيز على معاناة شبيلمان الشخصية ومحاولات النجاة من المخاطر من دون اية مبالغة او استعراض لعضلات البطل وقدراته القتالية، فهو انسان يحاول البقاء على قيد الحياة لا اكثر ولا أقل، وللانصاف كانت هذه هي النقطة التي اثارت اعجابي في الفيلم.

وهكذا وفق المخرج في ايصال فكرته من دون اللجوء الى الطرق السينمائية التقليدية وهي نقطة تحسب له، ووفق في ان يقدم صورة مفزعة وحزينة للمدينة كما وفق في ان يشد اعصاب المتفرج في بعض المشاهد، لكنه فشل في الوقت ذاته في ان يقدم عملا جديدا فكرة ومضمونا فكما ذكرت تم عمل 170 فيلما تتناول الموضوع ذاته، وبغض النظر عن ذلك فالفكرة مشكوك فيها وقد بدأت تثار حولها الكثير من علامات الاستفهام في الآونة الأخيرة لدرجة أن البعض بدأ يكذب ما يروى عن أفران الهولوكوست وعن ملايين اليهود الذين ماتوا حرقا، وحتى لو استبعدنا هذا الرأي فالأمر اليقين هو أن هناك الكثير من المبالغة والتهويل في وصف ما حدث سواء في هذا الفيلم أو في اي استعراض آخر لهذه المعاناة، وهو الأمر الذي يجعل المخرج بولانسكي يفشل في الحصول على اي تعاطف مع اية قضية تذكر في هذا الفيلم.

يذكر أن أداء الممثل أدريان برودي - الذي حصل عنه على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل - هو اداء جيد فلقد برع الممثل في ايصال الكثير من المشاعر والانفعالات عبر تقاسيم وجهه ونظرات عينيه، على رغم عدم احتواء مشاهد الفيلم التي تصور محاولاته للنجاة من الموت على اي حوار، ولقد جاء هذا الاداء عن عزم من الممثل وتصميم على ذلك فلقد عمل جاهدا على ان ينقص ما يزيد على عشرة كيلوغرامات من وزنه ليظهر بالصورة التي شاهدناها في الفيلم والتي نقلت الحالة المزرية التي وصل اليها شبيلمان بسبب الجوع والمرض والخوف، لكنه على رغم ذلك لم يكن اداء فوق العادة بحيث يجعله يتفوق على باقي المتنافسين على جائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار الأخير.

عمل لم تستطع عناصر قوته المتمثلة في اداء بعض الممثلين والموسيقى المصاحبة وتركيب المشاهد ومواقع التصوير بالاضافة الى بعض نقاط قوة المخرج التي ذكرتها سابقا، من ان تتغلب على عناصر ضعفه المتمثلة في التكرار والمبالغة والتطويل، وعلى رغم ذلك يفوز بما فاز به، فهل هي ترضية أخرى لليهود من هوليوود؟

عمل غير موفق لقضية يصعب ان يجد ابطالها ولو شيئا من التعاطف في مقابل ما يقوم به أحفادهم من وحشية واللاانسانية بالغتين

العدد 310 - السبت 12 يوليو 2003م الموافق 12 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً