العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ

للعاطلين حكايات تملأ موسوعات... وخريج هندسة الطيران نموذجا

تغرّب جمال عن البلاد لكي يشقى

للعاطلين عن العمل قصص وحكايات كثيرة ربما تكفي لتأليف روايات وموسوعات. تلك الحكايات لا تخلو من مفارقات ومواجع في حين، ومن إثارة سطور متواصلة لعلامات الاستفهام في حين آخر، فأنْ تكون عاطلا عن العمل في زمن تنتشر فيه البطالة فهذا أمر يمكن هضمه، لكن أنْ تلاحقك البطالة لأسباب توضع بين قوسين فهذا أمر يحتاج إلى وقفة.

وفي هذه الوقفة نعرض حالة مجهرية لعاطل من نوع خاص طالت معاناته ووجد النشر في «الوسط» محطة أخيرة لابد من التوقف عندها عله يجد منفذا، لكن وجب التنويه بأن مثل هذا النموذج الذي نعرضه اليوم هناك صفوف تقف بالدور تبحث هي الأخرى عن لقمة العيش الكريم وتخفق في ذلك لأسباب... يتقاطع معه آخرون، ربما في العمر، ربما في البقاء من دون عمل على رغم الشهادة الجامعية وربما في أشياء أخرى... السطور الآتية تعرض نموذجا.

أنهى جمال خليل إبراهيم دراسته الثانوية في مدرسة المنامة الثانوية (القسم العلمي)، وبعد الثانوية درس في بغداد وحصل على بعثة في جامعة التكنولوجيا هناك فتخصص في بناء محطات الطاقة الكهربائية لمدة عام كامل في العام 1975 وبقي هناك لمدة 9 أشهر، لكن جمال كان دائما يحلم بالعمل في مجال الطيران، وقد تعرف في بغداد على صديق يدرس الطيران في الاتحاد السوفياتي آنذاك بعد أن تم ترشيحه للدراسة لكونه منضما إلى إحدى المنظمات هناك. في العام 1976 غادر جمال بغداد إلى الاتحاد السوفياتي ومكث فيها حتى العام 1983، أي ما مجموعه 7 سنوات، من دون أن يرجع إلى البحرين أو أي بلد آخر بسبب قلة الإمكانات المادية، وبدأ الدراسة لمدة 6 سنوات بين النظري والعملي، وسنة كاملة لغات ليتخرج في مارس/ آذار العام 1983 بشهادة ماجستير في تخصص هندسة طيران الذي كان مطلوبا ولايزال كذلك.

العودة وبداية المشكلات

أثناء مكوث جمال في الاتحاد السوفياتي كانت مدة صلاحية جوازه قد انتهت، ولم تجدد فلما همّ بالرجوع إلى البحرين عن طريق الكويت كان الجواز منتهي الصلاحية، وعليه سلمته الجهات الأمنية في الكويت إلى البحرين بعد أن حجز في مطار الكويت مدة 48 ساعة، وفي البحرين احتجز أيضا فطلب من مسئولي الأمن إطلاق سراحه على أن يرهن شهادته وجوازه، فسمحوا له بذلك لكنه احتجز مجددا في اليوم الثاني لمدة 24 ساعة في سجن القلعة في زنزانة انفرادية ليُسأل عن كيفية ذهابه إلى الاتحاد السوفياتي ومن قبل من ومع من درس، ثم أفرج عنه. وبعد أن استقر جمال في منزل والده أخذ يتردد على التحقيقات الجنائية والجوازات للسؤال عن جوازه، يقول جمال: «كان ردهم لا يخرج عن كلمة محددة هي راجعنا في الغد، أو راجع الأمن (...) كنت أراجع الأمن الذين طلبوا مني كتابة رسالة لكنهم كانوا يقطعونها أمامي، وهكذا حتى وصل عدد الرسائل إلى 7 تقريبا، ففهمت أن ذلك يأتي بأوامر مسبقة، لأن الرسائل الأولى وصلت ولم يردوا عليها، حتى مل الموظفون الذين على البوابة من تسلم الرسائل فأخذوا يقطعونها على باب القلعة وأمام عينيّ».

«وبعد 7 أشهر من حجز الجواز ذهب والدي إلى مدير الجوازات ليطالب بإعطائه الجواز، لأني كنت أريد اكمال دراستي مادامت المطالبات أمنية تلاحقني، فما المانع من تسليم الجواز لأكمل المشوار الدراسي؟»، وواصل يقول: «تبين بعد حين أن ضابط التحقيق الأجنبي كان يظن أن شهادة الطيران التي أحملها هي دبلوم عسكري، وأني تلقيت تدريبات عسكرية، وعندما نفيت ذلك قال لي نصا: لا تحلم بالعمل في البحرين، ولا حتى في مجلس التعاون؟! فأجبت: الرزق على الله».

معاناة البحث عن عمل

لم يحس جمال باليأس بعد، فقد كان متحمسا لعمله، وأثناء فترة الحجز على جوازه كان يتردد على شركات الطيران علّه يحصل على عمل، وتقدم بطلب عضوية «جمعية البحرين للمهندسين» وسجل فيها باعتباره مهندس طيران، لاعتقاده بأنها ستساعده في الحصول على عمل. أحد مسئولي قسم التوظيف بإحدى شركات الطيران أخبره بحاجة الشركة إلى مثل تخصصه، فقابله فنيان من الأجانب، وأخبراه أنهما سيجريان له امتحانا فوافق مباشرة، ولكن سرعان ما غيّرا رأيهما دون سبب واضح!

فبعد أن أكمل إجراءات التوظيف بحماس وعمل البصمات، وأجرى المقابلة التي أخبر خلالها بوجود أربعة أقسام تحتاج إلى شهادته، إلا أنه فوجئ برسالة كتابية يعتذرون فيها عن توظيفه من دون ذكر أسباب، ولما راجعهم قال له المسئول: «لدينا أوامر بعدم توظيفك»؛ فتذكر على الفور كلمة المحقق «لا تحلم بالعمل في البحرين».

واصل البحث عن عمل في شركات أخرى فقصد شركة أميركية سبق وان وظفت أشخاصا متخرجين من الاتحاد السوفياتي، فوعده مدير التوظيف في الشركة بالسفر إلى أميركا لمدة ستة أشهر ومن ثم يوظف، لكن الشركة أقفلت بسبب أزمة مالية طارئة، واعتذروا له شفهيا. يقول: «بقيت أتابع الصحف والمجلات التي توزع في البحرين فقرأت إعلانا أميركيا في إحدى المجلات الأسبوعية المتخصصة في الطيران يطلب مهندسي طيران عددهم 51 ألفا للعمل في المطارات الأميركية، فتقدمت بطلب وأرسلوا عليه موافقة كتابية وعرضوا علي السفر إلى أميركا، تعطل جواز سفري عطل من امكان التحاقي بأميركا».

«بعدما أفرج عن جواز سفري قررت السفر لاحدى الدول الخليجية، وخصوصا أنها كانت على علاقة جيدة مع الاتحاد السوفياتي، فتحركت للحصول على عمل في شركة الطيران المحلية عندهم، قابلت المسئولين هناك وأعطوني وعودا كثيرة إذ لم يكونوا على علم بمشكلاتي مع الأمن في البحرين (...) وفي العام 1984 عرضوا عليّ وظيفة فني أو مساعد مهندس، فوافقت، وقالوا: نحن نجري امتحانا لغير المواطنين، ويجب عليك إجراء امتحان. فوافقت ولكنهم سرعان ما راحوا يتلكأون بحجج واهية، إلى أن اعترفوا له بأنهم يريدون مهندسا فعلا، ولكنهم لن يتمكنوا من توظيفي بناء على تعليمات من البحرين».

عسر ويسر في دولة أخرى!

فرجع جمال إلى البحرين مرة أخرى، وتقدم بطلب وظيفة لدى أحد المصانع فقبلوه للعمل في وظيفة كتابية لمدة شهرين، وخلال هذه الفترة تلقى عرضا من أهله في الإمارات بأن ينتقل إليهم ليبحثوا معه عن عمل وفعلا سافر إلى دبي، وتلقى هناك اتصالا من جيش دبي وقد استغرقت الإجراءات 4 أشهر. فأعطاه الجيش ظرفا ليرسله إلى قسم التحقيقات، ولقي فيه ورقة تعيين برتبة مدنية «عريف فني طائرات»، وكان الراتب ساعتها 8500 درهم ولم يصدق ذلك لأنه لم يكن يملك يومها حتى 20 دينارا، أخبروه أن يتسلم الرد بعد أسبوع، وصار جمال ينتظر الرد بعد أن أخذوا بصماته وشهادة حسن سيرة وسلوك. ولما أحس بتأخير في الأوراق راح ليسأل عن أوراقه، فأخبروه أن أوراقه نظيفة وكاملة لكن توجد لديهم تعليمات من البحرين بعدم توظيفه.

المشكلة العملية أو المهنية التي تواجه جمال الآن هي أن الشهادة التي حصل عليها وبحسب قوانين الطيران تنتهي فترة صلاحيتها بعد 6 شهور، وعليه يحتاج إلى إعادة تأهيل لمدة 6 شهور من جديد.

من وظيفة لأخرى

أخذ جمال يبحث عن أي عمل ولو كان بسيطا وخارج التخصص ليغطي مصروفاته الشخصية، فتعرف على أحد الخليجيين ممن يتاجرون بألعاب الأطفال واتفق معه على أن يعمل بائعا في الشارع بخمسين درهما، وبعد شهرين اعتذر صاحب العمل عن استمرار جمال في العمل لأنه لا يعرف فن البيع، ثم عمل مع رجل أعمال يبيع الأثاث لمدة 3 أشهر بسبعمئة درهم، وبعد ذلك استغنى عنه لأنه غير مؤهل للعمل في مثل هذه الأعمال. بعد ذلك حصل على عمل في صحيفة تسمى «الفجر» براتب 1500 درهم، وأعطوه سيارة خاصة بعد أن تعلم السياقة هناك وبدأ يعمل من الخامسة فجرا حتى الحادية عشرة ظهرا يوزع كميات الصحف على الباعة ولمدة 3 أشهر.

بعد السنوات الثلاث التي قضاها جمال في البحث عن عمل تعرف على أحد الصحافيين الذين يملكون صحيفة اسمها «الأزمنة العربية» وفي الوقت نفسه يملك وكالات سفر، فوظفه فيها مندوب علاقات عامة ومبيعات براتب 3500 درهم إذ عمل فيها لمدة 3 سنوات.

بشائر الخير

يقول جمال: «توفي صاحب الوكالة، فقدمت للعمل لدى شركة الاتصالات، والطريف في الأمر أنني عندما أعطيتهم شهادة الماجستير في هندسة الطيران رفضوني، ولما قدمت مرة ثانية بشهادة الثانوية قبلوني مباشرة».

«تعرفت خلال عملي على أحد موظفي الطيران وهو بحريني الجنسية. والذي عرض علي العمل في شركة الطيران الروسية، فذهبت وقابلت المدير العام الذي استغرب من عدم توظيفي حتى الآن، فقبلوني في وظيفة مندوب مبيعات فنية وتأجير طائرات مدنية، ثم انتقلت إلى مساعد المدير التجاري لمدة 3 سنوات، ثم إلى وظيفة المدير التجاري، حتى وصلت إلى مساعد المدير الإقليمي».

كانت طبيعة عمل جمال هي التخطيط الاستراتيجي لحركة الطيران، وصوغ الاتفاقات الجوية بين البلدان، وبيع وشراء الطائرات فعمل في شركة تعتبر من كبريات شركات الطيران في العالم إذ تمتلك 8 آلاف طائرة ذلك الوقت لمدة 11 عاما، ،لكن القدر لم يمهله طويلا...

يزيد جمال: «أقالوني مع مجموعة من زملائي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 2000 (...) عاد زملائي من دول العالم الثالث من الإفريقيين واليمنيين الأميركيين إلى أوطانهم ليعملوا في مجال اختصاصهم، وبعضهم وصل إلى درجة وزير مواصلات».

في العام 1996 التقى جمال رجال أعمال وأصحاب شركات طيران إيرانيين يزرون دبي، ما دعاه إلى أن يقترح عليهم تسيير رحلات جوية بين البحرين ودبي بمقابل مادي متفق عليه.

حكاية المقترحات

وفي البحرين تقدم جمال بمقترحات إلى الطيران المدني، كان هدفها تدريب البحرينيين وتوظيفهم في مشروعات المقترحات، ونقل المواشي الحية والدواجن والخضراوات والفواكه إلى البحرين جوا من الصومال والهند وغيرها من المناطق ما سيخفف على المواطنين أسعار اللحوم وفي الوقت نفسه سيخفف جزءا كبيرا من البطالة، ولكن المشروع لم يقبل لأسباب غير معروفة. واقترح أيضا نقل السياح إلى جزر حوار عن طريق الطائرات المروحية التي تستخدم بمبلغ 6 دنانير وفي مدة لا تزيد على 10 دقائق بدلا من أن ينقل السياح بمبلغ 12 دينارا وفي مدة لا تقل عن 3 ساعات، إلا أن القائمين على ذلك طلبوا منه الجدوى، وخشي إن هو سلمها أن تكون كسابقتها إذ لم يُردّ عليه حتى الآن، ومن المتوقع أن المشروع سيوظف ما لا يقل عن 20 بحرينيا. ومن جملة الاقتراحات تقدم جمال بفكرة إنشاء شركة خاصة بالشحن الجوي، لكن أيضا لم يحصل على موافقة أو رد.

هذه كانت وقفة مع أحد العاطلين عن العمل لظروف خاصة لاحقته وربما لاتزال تلاحقه، لكننا سنحتاج إلى وقفات كثيرة مشابهة لعرض حكايات باقي العاطلين

العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً