العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ

المطبخ البحريني والتفاعل مع عدد من الفضاءات

كتاب «بنادر التراث»

حسنا فعل القائمون على تحرير كتاب «بنادر التراث» بإثبات أن المطبخ البحريني يدين بالشيء الكثير للهند وإيران بقولهم: «كانت البحرين منذ القدم ولاتزال تتخذ موقعا جغرافيا مهما جعلها محطة لالتقاء الحضارات... وطبعا لابد أن تكون المواد الغذائية مكونا رئيسيا من مكونات العلاقة التجارية بين شعب البحرين والشعوب الأخرى كإيران والهند... ونتيجة للعلاقة التاريخية المنسوجة مع هذه الشعوب... فإن تأثيرات هذه الشعوب في المطبخ البحريني متنوعة سواء من خلال أنواع الوجبات، أو أساليب الطهي، أو العناصر الداخلة في إعداد الطعام».

لكن الكتاب بالمقابل لم يبتعد أكثر في تلمس العمليات التحويلية والتوليدية التي أصابت هذا التأثير والتأثر، لتجعل من المائدة البحرينية الزاخرة ذات خصوصيات على المستويات كافة، بحيث تشكل الثقافة المحلية آلية تدوير، عملت ولاتزال على إضفاء لمساتها الخاصة، وعلى خلق خصوصية تنبئ عن ذائقة خاصة، تمثل خليطا ومزيجا من هذه الثقافات المختلفة، ومن الثقافة المحلية.

لم يقصر، من جهة ثانية، عبدالرحمن مصيقر في فحص هذه الأكلات لجهة السعرات الحرارية التي تمنحها، وكونها صحية من عدمها، لقد تمت تغطية هذا الجانب بشكل جيد، لكن لم يتم البحث في الموضوع كحالة ثقافية تسترعي الانتباه، وتستحق التوقف في بعدها التاريخي/ الثقافي، لاستقراء صنعة اليد البحرينية، وإتقانها، وهضمها للقادم من الخارج، وتمثلها له، ثم تجاوزها لصيغتها المتعارف عليها في هذا القطر أو ذاك بشكل يجعلنا نقر بكيفية نجاح الثقافة في خلق خصوصية ما.

لقد هجا الكاتب السعودي عبدالله المحيميد مرة «الكبسة» في تقشيره لبعض المظاهر الاجتماعية في المجتمع السعودي، لجهة شكلها ومضمونها، إذ وصف هذه الأكلة ومدى تمسك الأهالي بها بالشيء العجيب، فهي لا تنتمي للسياق الصحراوي، ولا تتوافر فيها العناصر الغذائية، وتساعد على الخمول، لكنه توصل إلى أن انحياز الأهالي لها، هو نتيجة للأطباق متعددة الجنسية التي تزخر بها المطاعم السعودية، والتي بدأت تغزو الذائقة العامة. وعلى رغم طرافة التحليل في منتهاه، إلا أننا لو دققنا النظر - من زاوية أخرى - سنجد أن المسافة التي تفصل البحرين عن السعودية لا تكاد تذكر، ومع ذلك فالمجبوس البحريني له مذاقه الخاص، والذي يختلف عن شبيهه السعودي في كثير من التفاصيل. فلو افترضنا جدلا أن الكبسة جاءت من السعودية إلى هذه الأرض، فإنها اتخذت صيغة جديدة، وخضعت لسلسة من التحويلات، والتغيرات لتصبح أكلة بحرينية لها مذاقها غير المتوافر في الموائد الخليجية الأخرى، وهذا مثال.

وبعقد مقارنات أخرى، سنجد أن المائدة البحرينية المتمركزة على العيش - الأرز - على الأقل في الوجبة الرئيسية على رغم عدم زراعته في البحرين، تشير إلى مدى قدم ورسوخ العلاقة مع الهند التاريخية - وهو الطرح الذي يدعو له باستمرار عبدالله المدني في جل ما يكتب، من دون أن يتطرق طبعا إلى قضية الطعام - هذا من زاوية.

ومن زاوية أخرى والعهدة على سعد مبخوت في كتابه «أصول لهجة البحرين» أن البرنيوش/ المحمر، والتكة، والحسو، والخنفروش، والزلابية، والساقو، وغيرها أكلات فارسية تتشارك في جزء منها مع الهند. وقد وجدت هذه الأكلات لها موطأ قدم هنا، وأصبحت المائدة البحرينية تزدان بها، لكن التكة - وهذا مثال - التي نراها في مطاعمنا تختلف حجما ومذاقا عن تلك الإيرانية، وعن أي شيء شبيه في العالم أجمع. حتى القائمة السابقة التي احتفظت بأسمائها تعرضت للتبدل والتغيير، إنه حوار حضاري من نوع مختلف.

وإذا ابتعدنا شرقا إلى الهند ذات التأثير الواضح سنجد أن المائدة البحرينية تدين لها أكثر من غيرها، لاسيما في المذاق والنكهة، وطريقة الإعداد، وكأن الهيكلية العامة ارتحلت من الهند وحطت هنا، تدعمها القائمة العريضة، والتشكيلة المتنوعة من البهارات، والتي كانت سببا رئيسيا لتكالب القوى العالمية عليها - كما يقول التدوين الرسمي للتاريخ - ومع ذلك فالبهارات بأنواعها والألوان التي تمنحها قد تم التعامل معها بأياد ماهرة، وبحرفية مختلفة، وبذائقة متميزة، والأهم تم استثمار التتبيل على أنواع من الأسماك - إذا سلمنا أن السمك هو محور المائدة البحرينية إضافة إلى الأنواع الأخرى من القشريات - لا تعرفها الهند، كما أن النسب تختلف، ودرجة كون الطعام «حارا» أو حريفا.

ولم يتوقف التأثر عند هذين الفضاءين فحسب، بل نجد أن الأتراك بدورهم قد احتلوا حيزا بسيطا، تماما كما كان الدور العثماني التاريخي محدودا على هذه الجزر، وعلى ذمة مبخوت - أيضا - فإن قائمة الطعام البحرينية تدين بالباجة والغوزي والمحلبية للترك كمصدر فحسب، وبدورها فعلت الثقافة فعلها، فأضفت، وأضافت حساسيتها الخاصة، وحورت، لتكن النتيجة شيئا مختلفا في المذاق والنكهة في ضوء الانفتاح المستمر على الممكنات التي توفرها التوابل الهندية، ذات التأثير العميق، حد التجذر.

إن التأثير الإيراني والهندي، لا يعني على الإطلاق اقتصار التفاعل على هذين الفضاءين فحسب، وهذا زعم يصعب تخيله والإقرار به، فهناك ضمن قوائم الطعام أكلات بحرينية خاصة... هي نتيجة ما تجود به الأرض، وما يزخر به البحر على اختلاف عطاياه، فهناك أكلات بحرية ابتدعت ابتداعا، لتتساوق مع طبيعة الحالة الاجتماعية. فلو سلمنا بما جاء في الكتاب من تثبت الذائقة المحلية لأصناف محدودة ومحددة من السمك «الصافي، الهامور، الكنعد، السبيطي»، فإن هناك أصنافا أخرى أقل رتبة وكلفة جرى ابتداع أطباق تحتويها، صنفها الكتاب على أنها أكلات قروية وكأن لسان الحال يقول إنه بالمقابل توجد أكلات مدينية!

إن هذا الموضوع شائق ومعقد في الوقت نفسه، لكنه مهم لجهة معرفة كيفية اشتغال الثقافة، وسعة انفتاحها في مرحلة مبكرة من التاريخ، بحيث استطاعت أن تمتصها، وتعيد إنتاجها من جديد، من دون حرج أو تخوف، بل إن هذا الأمر لم يضيرها بقدر ما وسع من أفقها في التعاطي مع المكونات البسيطة والقليلة نتاج الأرض والبحر، لتؤسس ذائقة خاصة بها، وهذا مبحث آخر يشتبك فيه التاريخي بالثقافي. ولعل من المعلومات الطريفة المتداولة أن أهالي الحالة تتميز موائد طعامهم بكونها حريفة أكثر من أهالي الحد !! وهذا فضاء آخر للبحث في الموضوع تبعا للتقسيمات الجغرافية، والتأثيرات الإنسانية.

ورد في لسان العرب في مادة «هـ ر س» الهريس: الحب المهروس قبل أن يطبخ، فإذا طبخ فهو الهريسة، وسميت الهريسة لأن البر الذي هو منه يدق ثم يطبخ، ويسمى صانعه هراسا... وهذا فضاء آخر يؤكد الامتداد والديمومة التاريخية... وكما تقوى الموائد وتتنوع بالانفتاح على مطابخ العالم، فإن الثقافة تتنوع، وتختلف... ولم يكن هذا المطبخ منغلقا، كما الثقافة التي تقف خلفه... ومن يدري قد يصبح في يوم ما «الترياكي» وجبة بحرينية بامتياز!!

العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً