العدد 335 - الأربعاء 06 أغسطس 2003م الموافق 08 جمادى الآخرة 1424هـ

المحقق الليبرالي

حسام ابو اصبع comments [at] alwasatnews.com

ينتمي إحسان عباس بقوة المنجز إلى جيل أصيل أسهم في تحقيق الكثير من المخطوطات العربية، وأخرجها من أدراج الظلام إلى القراء. فبعد عبدالسلام هارون، ومحمد محيي الدين عبدالحميد، ومحمود شاكر ـ وكلهم من مصر ـ يأتي إحسان عباس وراء هذه الصفوة من العلماء الأفذاذ، ممن كرسوا سنوات حياتهم لإخراج أمهات الكتب العربية بحلة قشيبة، وبتحقيق فخم، فكانت هذه المجموعة بحق مثالا لجهد العالم الذي يعمل بأناة لإزاحة غبار النسيان عن أهم الكتب العربية.

لكن عباس كان ميله وهواه أندلسيا وصقليا في معظم ما حقق وقدم، بما جعله يولي وجهه شطر الحضارة المنسية المندثرة بشكل يتجاوز بمراحل حتى أكثر المتخصصين إنجازا في أدب وتاريخ الأندلس. لقد قدم عباس وحده جهدا يجعل الباحث والساعي الى المعرفة بالأندلس على دراية معقولة بما كان يموج من حركات فكرية وأدبية فيها على امتداد تاريخها، منذ البداية وحتى لحظات السقوط الأخيرة. وشبه التخصص هذا جعل عباس متميزا في عمله التحقيقي مقارنة بمجايليه أو بمن سبقه، أما من جاءوا بعده فقد اكتفوا بأقل القليل.

وعلى رغم مجيء عباس بعد هذه الصفوة المشار إليها، فإنه يعد نموذجا ليبراليا ـ إن جاز لنا التعبير ـ قياسا بغيره من دارسي التراث، ممن اكتفوا في مسيرتهم العلمية والعملية بالتحقيق، أو بكتابة بعض الأشعار محددين بحزم وجزم حدود أراضي اشتغالهم جاعلين ما لا ينطبق مع ذائقة موغلة في القدم خارج حدود الاعتراف بالوجود، لكن عباس لا ينتمي الى هذا الصنف. فهو وإن أولى التراث نصيبا كبيرا وحيزا معتبرا طوال أكثر من أربعة عقود من العمل الجاد فإنه كان ذا ذائقة منفتحة حتى على أشد الأشكال الأدبية فوضوية، وأكثر الأسماء ولعا بالاختبار والتجريب، وهذه مزية نادرة قل أن تجد لها مثيلا في ثقافة لا تتميز إلا بالإقصاء والنبذ، سواء من حزب القديم، أو حزب الجديد. وقد ترى استثناءات قليلة هنا أو هناك، لكن انفتاحا كبيرا بهذا الشكل يعد سابقة، فمن يحقق ديوان لبيد أو كثير أو الرضي أو المعري يصعب تخيل أنه يكتب عن السياب والبياتي والشعر العربي الحديث بالحرارة نفسها، ويشيد بعمل أدونيس بالدرجة نفسها.

مسألة أخرى تميز بها عباس أنه لم يكتف بالفتوحات الأندلسية، وبتحقيق أعلام تلك الحضارة، أو بتجديد تحقيق عدد من الدواوين الشعرية الجاهلية أو الأموية والعباسية، بل نجد عنده ولعا بالترجمة، وقد نقل خلال مسيرته العلمية عددا من المصادر الأساسية التي تعد من الركائز ومنها أثر أرسطو الخالد، ورائعة هيرمان مليفل ـ التي تذكرني ترجمتها بما قام به الراحل جبرا إبراهيم جبرا حين نقل مآسي شكسبير الى العربية فحق أن يكون عمله هذا خالدا تدين له الأجيال بالامتنان والمعرفة ـ وكذلك مقالة كاسيرر في الإنسان، ورؤية جب عن الإسلام، ولم نعرف قط أن باحثا عربيا أوغل في القديم حد التماهي، وراح أثناء هذا الإيغال يأنس لحيتان مليفل، أو لحياة همنغواي، ومنجز إليوت، بل وينظر الى حركة الشعر العربي الحديث من منظور نفسي !!

في لقاء صحافي أجري مع عباس قبل سنوات قليلة سأله المحاور عن رؤيته للفن القصصي والروائي، فأجاب بأن وسائله قاصرة عن الاقتراب من هذين الفنين، على رغم إدمانه القراءة فيهما، وهو الذي قدم لقراء العربية منذ الخمسينات كتابا معتبرا عن فن السيرة، جعل منه بعض النقاد جسرا طال تشييده حين كان عباس يدفع بغربة الراعي إلى المطبعة بعد 43 سنة هي المدة الفاصلة بين الإصدارين، وعلى رغم ذلك يتحفظ عباس... يعترف عباس الذي خبر التواريخ والأساليب والتأثيرات والترجمة والتحقيق والشعر قديمه وحديثه وأدب الأطفال بأن وسائله قاصرة !!

أليست الخسارة فادحة برحيله في زمن يضنّ بأمثاله

العدد 335 - الأربعاء 06 أغسطس 2003م الموافق 08 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً