العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ

الإسلام وتنظيم الإنجاب

عوالي - عبدالقادر الطرابلسي 

30 أغسطس 2003

أوردت صحيفة «الوسط» بتاريخ 12 أغسطس/ آب 2003، الموافق للثلثاء 14 جمادى الآخرة 1424هـ، في صفحتها الرابعة موقفا لاختصاصي طب العائلة باسم الجفيري، أوضح فيه أن أكبر مشكلة تواجه الصحة الإنجابية في البحرين هي الخلط بين تحديد الإنجاب وتنظيمه. وبشأن تنظيم الإنجاب أو النسل نسوق وجهة النظر الآتية:

يقصد بتنظيم الإنجاب أو النسل أن تنجب كل امرأة العدد الذي ترغب فيه من الأطفال مع فترة زمنية فاصلة بين ولادة وأخرى، من أجل استعادة صحتها وموارد جسمها الغذائية بشكل يجعلها مستعدة لتحمل مشاق الحمل الجديد. ويفضل ألا تقل هذه الفترة الفاصلة بين ولادة وأخرى عن سنتين، ذلك أن المباعدة بين الولادات تعد من أهم السبل وأكثرها فاعلية لتحسين صحة الأم.

وبهذا المعنى، فإن تنظيم الإنجاب، مسألة تناولها فقهاء الإسلام بالبحث قديما وحديثا، وكانت موضع خلاف في القديم وظلت على هذا النحو في الحديث، شأنها في ذلك شأن كل مسألة تكتنفها اعتبارات مختلفة، ولم يكشف جهة الحق فيها نص واضح في دلالته، فيترك الحكم فيها لما يترجح في نظر الباحث من هذه الاعتبارات، وما تقضي به مصلحة صاحب الحق فيها فردا كان أم جماعة. وهذه طريقة الإسلام في تشريع الأحكام، فالذي لا تختلف فيه المصلحة باختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات ينص على حكمه نصا قاطعا لا يجعل فيه مجالا للاجتهاد والنظر، أما الذي تخضع المصلحة فيه للظروف فإنه يكله إلى أرباب النظر والاجتهاد وتقدير المصالح...

وعلى هذا الأساس، ذهب بعض الفقهاء إلى معارضة تنظيم الإنجاب أو التحفظ بشأنه، في حين أن بعضا آخر نحى باتجاه تأييده... فلمن توكل مهمة تنظيم الإنجاب؟ وفيما تتمثل الوسائل المشروعة للمباعدة بين ولادة وأخرى؟ ثم ما هي بعض أهداف تنظيم الإنجاب؟ ذلك ما سنحاول التطرق إليه في ثنايا هذا المقال تباعا.

ففيما يتعلق بمهمة تنظيم الإنجاب، لم يغفل فقهاء الإسلام البحث فيها على أكثر من صعيد. وبهذا الصدد، يذكر الإمام الأكبر محمود شلتوت، أن رأي كل فريق منهم فيها ارتبط برأيه فيمن له حق الولد؟ أهو للوالد وحده؟ أم للوالدين معا؟ أم أن الولد حق مشترك بينهما وبين الأمة؟ ومن هذا المنطلق، فإن منهم من رأى أن الولد حق للوالد وحده، فله إن شاء أن يحصله، وله إن شاء ألا يحصله، ومن أصحاب هذا الرأي الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ ... ومنهم من يرى أنه حق للوالدين معا، ومن أصحاب هذا الرأي علماء الحنفية... ومنهم من رأى أن الولد حق مشترك بين الأمة والوالدين ولكن حق الوالدين أقوى، ومن أصحاب هذا الرأي الشافعية والحنابلة والجمهور من أصحاب المذاهب الأخرى... ومنهم من يرى أن حق الأمة في الولد أقوى من حق الوالدين، ومن هؤلاء طائفة من رجال الحديث.

وعموما، إن ما يمكن استنتاجه في ضوء الآراء السالفة، باستثناء الغزالي، هو أن الرجل، الوالد أو الزوج، لا ينفرد لوحده بتنظيم الإنجاب بل بالاتفاق مع زوجته. ومثل هذا الموقف، لا يجعل من المرأة أداة للمتعة أو لإنجاب الأطفال، لكنها شريكة للرجل في حصر وتنظيم عدد أفراد العائلة مثلما هو الأمر في كل شأن من شئون الحياة... كما أن جعل الولد حقا مشتركا بين الوالدين وبين الأمة، يستوجب تظافر وتكامل جهود كل منهما، من دون طغيان دور طرف على دور الطرف الآخر، لتنشئته تنشئة صالحة. وفيما يتعلق بوسائل تنظيم الإنجاب، يعد العزل أقدمها. ويقصد به عزل الرجل ماءه عند الاتصال الجنسي عن موضع الحرث من زوجته. وتوخى الصحابة هذه الوسيلة، إذ أكد الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري أنهم «كانوا يعزلون على عهد النبي (ص) والقرآن ينزل»، ومع تطور الحضارة، توصل الإنسان إلى اكتشاف وسائل جديدة لتنظيم الإنجاب غير العزل. وأباح بعض الفقهاء المعاصرين استعمال بعض هذه الوسائل، وخصوصا حبوب منع الحمل، إثر استشارة الطبيب.

أما الإجهاض، نظرا إلى ما يترتب عليه من أضرار بليغة على الأم والجنين، ولأن الجنين يعد حيا من بداية الحمل، وحياته محترمة في أدوارها كافة وخصوصا بعد نفخ الروح، ذهب معظم الفقهاء إلى أنه لا يجوز الاعتداء عليها بالإسقاط إلا للضرورة الطبية القصوى، ورأى قلة منهم جوازه قبل الأربعين يوما من عمر الجنين وخصوصا عند وجود أعذار. وأدرج علماء الإسلام في عداد الضرورة الطبية القصوى كلا من الإجهاض العفوي الناجم عن وجود تشوه شديد في تكوين الجنين... والإجهاض المحرض المترتب عن غرض شرعي معتبر مثل الحفاظ على سلامة الأم ودفع الخطر عنها من بقاء الحمل في بطنها... مقابل تحريمهم للإجهاض الجنائي الذي يهدف إلى التخلص من الحمل من دون مبرر، على اعتبار أنه بمثابة العودة إلى الوأد، تلك الظاهرة التي كانت متفشية في الجاهلية ولما جاء الإسلام حاربها وعنف فاعليها وحرمها، فقال تعالى: «وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت» (التكوير 8 - 9) .

وبمنأى عن هذا الصنف الأخير من الإجهاض، أوجب الفقهاء وأهل الحديث استئذان الرجل زوجته في العزل وما يشبهه من وسائل المنع، أي تأكيد مرة أخرى اتفاق الرجل مع زوجته في تنظيم الإنجاب، فإن رفضت لم يكن له أن يؤذيها باستكراهها على ما تأباه، ولم يكن له أن يجرح شعورها أو يكبح رغبتها الجنسية الطبيعية، تبعا لقاعدة وجوب ارتواء المرأة «جنسيا» مثلما تؤمن لها حاجاتها من الكسوة والطعام وحسن العشرة سواء... وعلاوة على استئذان الزوجة، يوجب علماء الدين استشارة الطبيب لتجنب كل أذى وضرر صحي للأم أو رضيعها في استعمال وسائل تنظيم الإنجاب.

إن من بين ما يهدف إليه تنظيم الإنجاب إذا، الحفاظ على صحة الأم وتخفيض معدل وفيات الأمهات من خلال قصر الولادات على الأعمار الأكثر أمانا، وتعد المباعدة بين الولادات، بفترة يفضل ألا تقل عن سنتين، من أهم السبل وأكثرها فاعلية لتحسين صحة الأم، مثلما سبق وأن أشارت أرجوان سعدالدين الضاحي. ولعل مثل هذه الحقائق العلمية الصادرة عن أهل الاختصاص، تأتي لتسهم في فك رموز وأسرار النص القرآني، ومن ثم إدراك أحد أبعاد الحكمة من وراء قول الله عز وجل «والوالدات يرضعن أولادهم حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة» (البقرة 233). وقد يكون من بين الأبعاد الأخرى لهذه الحكمة الحفاظ على صحة الرضيع. ويتجلى ذلك من خلال المزايا الكثيرة الناجمة عن رضاعة الطفل من ثدي أمه، التي حرض القرآن الكريم على أن تستنفد أقصى مدتها البالغة عامين كاملين. وفي هذا السياق، يشير أهل الذكر إلى ما يأتي:

- الطفل يرضع لبنا نظيفا معقما، ليس باردا ولا حارا، متوافرا في كل الأوقات، يتدفق غزيرا في الثدي بمجرد سماع الأم لبكاء صغيرها، يستمر تدفقه برضاعة الطفل من الثدي ولا يفسد بالتخزين.

- يتناسب ومعدة الرضيع. فلبن الأم يحتوي على نوعين متساويين من البروتين هما: بروتين الجبنين، والزلالي اللبني، وهما يتناسبان مع قدرة قناة الطفل الهضمية، بينما كل البروتين الموجود في لبن البقر والذي يستخدم مجففا لإرضاع الطفل هو من بروتين الجبنين الذي يتناسب ومعدة العجل الصغير.

- يفي باحتياجات الطفل الرضيع. بخلاف نوعية البروتين الذي يحتويه لبن الأم، فإن كمية البروتين تعادل خمس كمية البروتين الموجود في لبن البقر، والسبب في ذلك هو أن معدل النمو في أطفالنا أقل من معدل نمو العجل.

- يضفي على الطفل مناعة خاصة ضد الجراثيم، إذ ان من عناية الله سبحانه وتعالى بأطفالنا الذين يرضعون لبن أمهاتهم خلال الشهور الأولى عقب ولادتهم حمايتهم من شر كثير من الأمراض الشائعة في الأطفال.

فالطفل يحمل في جسمه مناعة اكتسبها من أمه خلال فترة حملها فيه (كالمناعة ضد مرض الحصبة التي تستمر أثناء الشهور القليلة الأولى من عمر الرضيع)، ويحمل لبن الأم للطفل عناصر الوقاية ضد أمراض أخرى وأهمها الوقاية من النزلات المعوية، التي ينشأ عنها القيء والإسهال وجفاف الدورة الدموية. فماذا يحدث لو حرم الطفل من الرضاعة من ثدي أمه؟ إن لبن البقر لن يحمي أطفالنا من الإصابة بالنزلات المعوية، لأنه لا يحتوي على عناصر الوقاية التي يحتوي عليها لبن الأم. وكما أن للرضاعة كل هذه الفوائد في الحفاظ على صحة الطفل، فإن من دواعي المحافظة عليها كذلك ضرورة توقف الأم على أداء تلك الوظيفة، إذا ما حملت، بعد أن تبين للعلماء، أن لبن الحامل فيه داء يعوق نمو الطفل ويذهب بنضرته. وفي هذا السياق، ورد في السنة النبوية الشريفة ما يدل على تحريم الإرضاع وقت الحمل، فعن أسماء بنت يزيد بن السكن (رض) قالت، سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل - أي الإرضاع في زمن الحمل - يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه».

وفي الختام، إن ما يجدر تأكيده هو أن للحجم السكاني دورا أساسيا على صعيد بناء القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية للأمم... لذلك، حث الإسلام على الزواج المبكر، وعلى تزوج الولود الودود، وعلى كثرة التناكح والتناسل... وأباح علماؤه في الوقت ذاته تنظيم الإنجاب حتى يحفظ للنسل قوته ونشاطه ويحفظ للأمة كثرته ونماءه، لأن الشريعة تمقت الكثرة الهزيلة وتحقرها، ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا... وذلك مصداقا لقوله (ص): «توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»

العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً