العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ

باحثون أميركيون يتساءلون إن كانت دولتهم امبراطورية امبريالية؟

بعد أن ورثت الاستعمار القديم

محمد دلبح comments [at] alwasatnews.com

.

تشير التطورات التي تشهدها سياسات الولايات المتحدة على الصعيدين المحلي والدولي منذ وصول الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش إلى السلطة في البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2001، إلى ازدياد الدلائل التي تقول إن الولايات المتحدة تتصرف بأسلوب امبراطورية. ولم يكن هذا الأسلوب وليد حوادث 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي استغلتها إدارة بوش لتخطيط عدوانها على العراق وأفغانستان، إذ إن تقارير نشرت في واشنطن ذكرت أنه في السنوات الأخيرة بدأت حفنة من المفكرين العسكريين المحافظين تجادل بأن الولايات المتحدة تتصرف فعلا على النمط الامبريالي وأنه يتعين عليها أن تحتضن هذا الدور.

ولاحظ هؤلاء المفكرون قبل نحو عقد من الزمن أن الولايات المتحدة وسعت فعلا وجودها العسكري العالمي، ويجادلون بأن الولايات المتحدة طورت خلال العقد الماضي من إقامة شبه دائمة إلى دائمة في منطقة الخليج عقب احتلالها للعراق في ابريل/نيسان من العام الجاري. ويعتبر هذا الوجود الآن قوة عسكرية رئيسية في كل منطقة في العالم تقريبا - المنطقة العربية وأوروبا وشرق آسيا ونصف الكرة الغربي - الأمر الذي يجعل مفكرين يرجحون قدرة الولايات المتحدة على خوض حرب رئيسية في أي وقت. وهم يعتقدون بأنها ستظل نشطة عسكريّا في مختلف أنحاء الكرة الأرضية محافظة على السلام في البوسنة وكوسوفو ومبقية على37 ألف جندي من قواتها في كوريا الجنوبية، والإبقاء على جزء من قواتها في أفغانستان للحفاظ على حكومة حميد قرضاي التي نصبتها في أعقاب إطاحتها بحكومة طالبان قبل نحو عامين، في وقت تعتزم الإبقاء على احتلالها العسكري المباشر للعراق لمدة لا تقل عن عامين آخرين. كما أنها تؤكد أنها تسعى إلى إيجاد توازن لمنع نهوض الصين.

ويتساءل علماء ومفكرون ليبراليون عمّا إذا أصبحت الولايات المتحدة «الامبراطورية» التي كان «الآباء المؤسسون» للجمهورية الأميركية يرفضونها؟ واتسم الحديث عن ذلك في واشنطن بالسخونة. فعلى سبيل المثال فإن المستشار السابق للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب بويدين غراي، انضم إلى مجموعة صغيرة تقوم بدراسة سبل تثقيف الأميركيين بشأن أخطار إقامة امبراطورية وضرورة العودة إلى التقاليد والقيم التي تأسست عليها الولايات المتحدة وذلك طبقا لمسودة بيان مقترح لهذه المهمة.

وصدر كتاب جديد بعنوان «دولة خارجة على القانون» وضعه المسئول السابق في حكومة الرئيس السابق رونالد ريغان، ورئيس معهد الاستراتيجية الاقتصادية في واشنطن، كلايد بريستوفيتش، يتحدث في فصل منه عن الولايات المتحدة بوصفها «الامبراطورية غير المعترف بها»، وفي مركز نيكسون في واشنطن يقوم رئيسه ديمتري سايمز بإعداد بحث مطول عن «الورطة الامبريالية الأميركية».

غير أن المناقشات الدائرة في واشنطن بهذا الشأن لم تعكس اهتماما كبيرا في صفوف الأميركيين. فمعظم الناس في الحزب الجمهوري إضافة إلى عدد كبير من الديمقراطيين يؤيدون موازنات عسكرية أكبر ولا يرون بديلا لدور أميركي قوي في الخارج. ولكن أولئك الذين يقودون المناقشة يقولون إنها على الأقل تدخل أصواتا عبر الطيف الأيديولوجي من أجل تقييم طال انتظاره لما يمكن أن يكون عليه دور الولايات المتحدة.

فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة فعالة في إقامة شبكة من المنظمات الدولية الاقتصادية والعسكرية والسياسية على المبادئ الأميركية للديمقراطية والأسواق الحرة. ومن أجل محاربة النفوذ الشيوعي استخدمت الولايات المتحدة عمليات سرية لتقويض أو إسقاط حكومات في إيران وغواتيمالا والكونغو وتشيلي وغيرها من البلدان.

وفي الوقت الذي كان فيه النفوذ الأميركي واسعا فإن الكثير من علماء السياسة والاقتصاد والاستراتيجية ينكرون أن يكون ذلك شكّل الامبراطورية التي ينطبق عليها تعريف قاموس أكسفورد بأنها «مجموعة من البلدان أو المناطق الخاضعة لدولة واحدة ذات سيادة».

وقد يكون غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله بمساعدة قلة من الدول الراغبة، السبب المباشر في الاهتمام الكبير بموضوع الامبراطورية، ولكن هناك اتفاقا عريضا على أن انجراف الولايات المتحدة نحو الامبراطورية يسبق بفترة طويلة إدارة بوش.

ويقول مدير دراسات السياسة الخارجية في معهد كاتو بواشنطن، كريستوفر بريبل، إنه «كان يتعين على الولايات المتحدة أن تواجه هذه المسألة عندما انهار الاتحاد السوفياتي، ففي ذلك الحين كان يتعين أن يكون لدينا بحث بهذا الشأن، وبدلا من ذلك احتفظنا بكل التزاماتنا في الحرب الباردة وأضفنا إليها التزامات جديدة من دون نقاش إطلاقا».

واحتفظت الولايات المتحدة بشبكتها من أقمار التجسس الصناعية وغواصاتها المزودة بصواريخ باليستية وحاملات طائراتها على نطاق العالم، ووضعت مئات الآلاف من جنودها في عشرات البلدان. وبعد انخفاض حاد في موازنتها العسكرية في مطلع التسعينات من القرن الماضي بدأت هذه الموازنة بالارتفاع بعد إعادة انتخاب بيل كلينتون رئيسا لولاية ثانية في العام 1996.

وفي الفترة ما بين نهاية الحرب الباردة وبدء رئاسة بوش الحالية، تدخل الجيش الأميركي في بنما وهايتي والصومال والبوسنة وكوسوفو ويوغسلافيا. ففي بنما وهايتي أطاحت الولايات المتحدة بدكتاتورين ونصبت خلفاء لهما اختارتهم بنفسها. وفي الصومال أصبحت مهمة إنسانية لحماية إمدادات الإغاثة لضحايا المجاعة، كما صور بوش الأب التدخل آنذاك هدفا لجنرال عسكري ما أدى إلى مقتل وجرح وسحق جنود أميركيين أدى إلى انسحاب القوات الأميركية من الصومال. وفي يوغسلافيا السابقة تدخلت الولايات المتحدة عسكريّا للإطاحة بنظام ميلوسيفيتش ولكنها ظلت في البوسنة وكوسوفو للمحافظة على النظام وتوفير استقرار مدني وسياسي.

ويعتبر بريبيل أن إطاحة الولايات المتحدة بحكومة الطالبان رد مشروع على ما يصفه بـ «التهديد الإرهابي» بعد 11 سبتمبر. ولكن كلما طال أمد بقاء الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق بدت دولة محتلة أكثر فأكثر، وهو مصطلح مرتبط بالقوى الامبريالية. وقال بريبيل إنه بالنسبة إلى المحافظين الايديولوجيين فإن التزامات الولايات المتحدة العالمية الواسعة ينبغي أن تشكل معضلة فلسفية صعبة. وأضاف: «إنك لا تستطيع أن تؤيد نظاما لحكومة محددة في الداخل والاحتفاظ بحاميات عسكرية في مختلف أنحاء العالم».

وكثيرون من المحافظين الجدد الذين ينتمون إلى مجموعة سياسية «غير متبلورة» لها جذورها في عملية الهروب التي قام بها ديمقراطيون من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري أثناء «الحرب الباردة» ومعظمهم متشددون صهاينة ومن الطائفة اليهودية الأميركية، يقولون إن الأمر ليس كذلك وهم يميلون إلى تحبيذ استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية بهدف نشر القيم السياسية الأميركية من أجل السيطرة على مقدرة الدول التي تعاديها الولايات المتحدة مسبقا قبل أن تتمكن من تهديد الولايات المتحدة بأسلحة الدمار الشامل (المزعومة) وإعادة بنائها على صورة الولايات المتحدة فيما عرف باستراتيجية بوش القائمة على الهجمات الوقائية أو الاستباقية.

وفيما يقدم الباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ماكس بوت فكرة «امبراطورية الحرية» الأميركية لنشر الديمقراطية في العالم داعيا إلى مضاعفة الإنفاق العسكري الأميركي لتنفيذ التزامات الولايات المتحدة العالمية، فإن نائب المدير التنفيذي لمشروع القرن الأميركي الجديد وهو المؤسسة الفكرية للمحافظين الجدد، ثوماس دونيللي، يعتبر المدافع الرئيسي عن فكرة تطبيق «السلام الأميركي» الجديد. ومشروع القرن الأميركي الجديد هو مركز أبحاث في واشنطن يتبنى انتهاج سياسة خارجية ريغانية (نسبة إلى الرئيس السابق رونالد ريغان) قوية وتوسعية.

ويجادل دونيللي بأن الولايات المتحدة هي امبراطورية للديمقراطية والحرية بطرق مماثلة - وإن تكن غير مطابقة - للامبراطوريتين الرومانية والبريطانية، ويقول إنها لا تغزو أرضا ولا تقيم مستعمرات إنما لها وجود عالمي مهيمن عسكريّا واقتصاديّا وثقافيّا. ولا تزعج صفة الامبراطورية مدير «مشروع القرن الأميركي الجديد» ورئيس تحرير مجلة «ويكلي ستاندرد»، ويليام كريستول، إذ قال «إنه إذا أراد الناس أن يقولوا نحن قوة امبريالية فنحن قوة امبريالية، هذا جيد». ويعتبر كريستول أحد أبرز دعاة غزو واحتلال العراق وإعادة صوغ الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية.

وفي بعض الأحيان فإن المناقشة الهادئة عن دور امبريالي للولايات المتحدة تتعرض للسؤال الأساسي الذي يواجه صناع السياسة الخارجية الأميركية وهو: هل الممارسة العسكرية للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون - من غزوه لهايتي و«حفظ السلام» في البوسنة والعدوان الصاروخي على السودان وأفغانستان وقصف يوغسلافيا - كانت خاصة بحكومته؟ أم أنها كانت تميز فترة ما بعد «الحرب الباردة» وأنها على الأرجح ستصيغ الأوضاع المقبلة؟

كما أن البحث بشأن امبراطورية أميركية يساعد أيضا في إلقاء الضوء على المعركة التي دارت طوال الأشهر الستة التي أعقبت تولي بوش السلطة بين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ورؤساء هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية بشأن كيفية تغيير القوات المسلحة الأميركية، إذ كان وزير الدفاع يريد إعداد القوات المسلحة للتعامل مع تهديدات المستقبل وهذا يشير إلى خفض القوات التقليدية من أجل تمويل قدرات جديدة مثل نظام الدفاع الصاروخي، غير أن هجمات 11 سبتمبر وما نجم عنها من حرب أميركية ضد ما تسميه واشنطن بـ «الإرهاب» دفع رامسفيلد إلى تعديل موقفه وتأييد بناء القوات التقليدية.

وكانت خطة رامسفيلد أساسا تقوم على ضرورة أن يقوم الجيش بتركيز خططه بصورة متزايدة على الاستعداد لخوض صراعات صغيرة حول العالم بدلا من الاستعداد لخوض حربين رئيسيتين في آن واحد، الأمر الذي يعتبر تحولا يمكن أن يغير بصورة دراماتيكية نمط تشكيل القوات المسلحة الأميركية. واستكمل المخططون الاستراتيجيون في «البنتاغون» بقيادة نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوفيتز تقويما شاملا للأولويات العسكرية للولايات المتحدة، إذ تم تقديمها إلى الكونغرس في ديسمبر/ كانون الأول العام 2001. وهدف التقويم إلى وضع الأساس لإعادة تشكيل القوات البحرية والجوية والبرية الأميركية من حيث الحجم والانتشار وبصورة شاملة.

وكانت محتويات هذا التقويم موضع تكهنات مكثفة داخل القوات المسلحة والكونغرس، غير أن وولفوفيتز قال إن البنتاغون يعتزم تأكيد الانتشارات السريعة والضرب بسرعة في أماكن مثل البوسنة وتيمور الشرقية وهايتي مع الإبقاء على قدرتها على كسب حرب رئيسية منفردة.

ويذكر أن «البنتاغون» نشرت طيلة عقد من الزمن تقريبا قوات لخوض حربين إقليميتين رئيسيتين في الوقت نفسه.

وأضاف وولفوفيتز أنه «خلال السنوات العشر الماضية قللنا من بنيان القوة وأقمنا بصورة متزايدة قوة تكفي لخوض حربين إقليميتين رئيسيتين». وقال: «إن الافتراض كان يقوم على أساس أن تمويل حربين رئيسيتين كاف لتغطية نفقات حروب أصغر وأن تلك الاستراتيجية أصبحت بصورة متزايدة غير مناسبة».

ويتوقع مسئولون عسكريون كبار في البنتاغون أن يؤدي هذا التحول إلى توفيرات مهمة من خلال التخفيضات في عدد الجنود وإغلاق قواعد عسكرية وتخفيض أنظمة الأسلحة القديمة لاستخدام الأموال في تحديث القوات المسلحة الأميركية وبناء نظام دفاع صاروخي. ولكن المسئولين العسكريين الميدانيين يحذرون من أن مثل هذا التحول في الاستراتيجية يتطلب في الحقيقة زيادة كبيرة في القوات المسلحة استنادا إلى عدد الصراعات الإقليمية المحتملة التي يتعين على القوات المسلحة أن تستعد لها.

ورد رؤساء هيئة الأركان المشتركة على ذلك بأنهم منشغلون تماما بالمهمات اليومية. ووقف إلى جانب رؤساء الأركان دونيللي وهو يجادل بأن «القيام بأعمال الشرطة في المحيط الأميركي في أوروبا والخليج وشرق آسيا سيوفر المهمات الرئيسية للقوات المسلحة الأميركية طوال عقود مقبلة». وجادل أيضا بأن إدارة بوش تجنبت هذه الحقيقة وهي تحاول بدلا من ذلك صوغ سياسة أخف في ضوء وجهات النظر التقليدية «الواقعية» لتوازن القوى المرتبطة بهنري كيسنجر وبرينت سكوكروفت.

ويعتقد دونيللي أن «المسلك الكيسنجري» خاطئ. ويجادل بأنه كلما كانت الحكومة الأميركية أسرع في تنظيم الامبراطورية الجديدة كان ذلك أسرع في اتخاذ الخطوات لإعادة تشكيل القوات المسلحة الأميركية والسياسة الخارجية للتلاؤم مع هذه المهمة.

ويرى الباحث في معهد بروكينغز المرموق في واشنطن إيفو دالدر، وجود صدى للرئيس السابق جون كنيدي وللعناصر الأكثر حماسة للسياسة الخارجية للرئيس السابق وودرو ويلسون في رؤية المحافظين الجدد. فقد تعهد كنيدي في العام 1961 في خطاب حفل التنصيب بـ «أن يدفع أي ثمن ويجمل أي عبء ويواجه أية صعوبة ويدعم اي صديق ويعارض أي عدم لضمان بقاء ونجاح الحرية».

واعتقد ويلسون أن الحرب العالمية الأولى يمكن أن «تجعل العالم آمنا من أجل الديمقراطية» ولكن دالدر قال إن هناك اختلافا رئيسيّا هو أن كنيدي وويلسون كانا يؤمنان بفوائد العمل من خلال المنظمات الدولية، بينما يريد «المحافظون الجدد» من الولايات المتحدة أن تعمل منفردة. وقال دالدر عن المحافظين الجدد «إنهم امبرياليون ديمقراطيون».

ويشير تقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست» قبل أيام من هجمات 11 سبتمبر إلى أن وقائع الأشهر الستة الأولى عقب تولي بوش السلطة تؤيد حجة دونيللي. ففي الوقت الذي كان فيه بوش ومستشاروه يتحدثون خلال الحملة الانتخابية عن الانسحاب من مهمات حفظ السلام الدولية في البلقان، فإنهم عندما تولوا السلطة أكدوا أنهم لن ينسحبوا من هناك قبل انسحاب الحلفاء الأوروبيين، كما أنهم يواجهون احتمال أن يصبحوا أكثر تورطا في ورطة ثالثة في البلقان وهي مقدونيا. ويقول دونيللي إنه إذا فكر الأميركيون بوضوح وبصراحة أكثر في ضرورة أن تكون لهم مهمة امبريالية «فإننا سنفهم بصورة أفضل مجمل المهمات التي نريد من قواتنا المسلحة أن تقوم بها بدءا بمهمات الشرطة في البلقان إلى الاحتفاظ بقدرة كافية للحروب الكبرى والعمل على مواجهة بروز أي عدو رئيسي».

وطرح الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي من جامعة أكسفورد نييل فيرغسون مؤلف كتاب «امبراطورية: صعود وموت النظام العالمي البريطاني والدروس من أجل قوة عالمية» في ندوة في معهد «أميركان انتربرايز» الذي يعتبر معقل المحافظين الجدد في واشنطن في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قضية التأييد للامبراطورية، إذ شاركه في النقاش أحد ممثلي تيار المحافظين الجدد، المستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية روبرت كاجان، بشأن الاقتراح القائل إن الولايات المتحدة امبراطورية وينبغي أن تكون كذلك. غير أن الحاضرين في الندوة لدى الاقتراع على هذه الفكرة رفضوها، إذ قال 47 منهم ان الولايات المتحدة امبريالية، فيما قال 51 إنهم لا يعتقدون ذلك، وامتنع 26 شخصا عن التصويت.

ويعتقد كثيرون من المنتقدين أن اتخاذ مواقف امبريالية ستكون له ردود فعل سلبية لما ستثيره من رد فعل خارجي أو ما تثيره فعلا الآن. وقال رئيس معهد دراسات سياسة اليابان تشارلز جونسون: «إن الناس عرفوا موقفنا». وأضاف جونسون الذي يقع مركز أبحاثه في سان دييغو بولاية كاليفورنيا أنه يعتقد أن الولايات المتحدة تتبع مسارا امبرياليّا وأنه يجري تشكيل تحالفات من اليسار واليمين في مختلف أنحاء العالم لإحباط هذا الموقف. وأشار في هذا الصدد إلى التعاون الوثيق بين روسيا والصين وإلى أوروبا الموحدة التي أصبحت منافسا أكثر منها حليفا للولايات المتحدة، وإلى الحركة النشطة المناهضة للعولمة. وكان جونسون قد نشر في العام الماضي كتابا بعنوان «رد فعل: تكاليف وعواقب امبراطورية أميركية» وقال إنه تم تجاهله في الولايات المتحدة.

ووضع مسئول سابق في وزارة الدفاع «البنتاغون» في عهد الرئيس الأميركي السابق كلينتون، جوزيف ناي، كتابا آخر يندد بالفكرة. ويجادل ناي، وهو عميد كلية كندي للحقوق في جامعة هارفارد، في كتابه بعنوان «القوة المرنة: وهم الامبراطورية الأميركية» الذي نشر في العام 2001، بأن الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة هي الآن القوة العظمى الوحيدة في العالم وإنه يجب عليها أن تكافح لكي تظل كذلك، أصبحت مقبولة على نطاق واسع لدى كل المعلقين المحافظين. ويقول ناي: «إن وجهة النظر هذه في مجال الهيمنة تلقى اهتماما كبيرا جدّا لدى القوة العسكرية وأعتقد أن الناس الذين يتحدثون عن (هيمنة حميدة) ويقبلون بدور امبريالي يركزون كثيرا جدّا على بعد واحد من أبعاد القوة ويهملون الأشكال الأخرى للقوة وهي الأبعاد الاقتصادية والثقافية والأيديولوجية». ويقول: «إن زيادة تأكيد القوة العسكرية الأميركية بأكثر من اللازم سيؤدي في النهاية إلى تدمير تلك الأشكال من القوة غير الملموسة وبذلك يتم القضاء على الجهود الرامية إلى الإبقاء على الامبراطورية».

ويجادل المؤرخ في جامعة نورث كارولينا الأميركية، ريتشارد كون، في الاتجاه نفسه، ويقول: إن معظم الأميركيين سيرفضون بحكمة دورا امبرياليّا إذا وضع هذا الدور لهم بشكل مكشوف. وأضاف أن الشعب الأميركي ليس لديه اهتمام أو رغبة أو قوة تحمل للقيام بذلك.

وأشار فيرغسون إلى أن الأميركيين يرفضون فكرة أنهم دولة امبريالية. وقال: «إن الثقافة السياسية في الولايات المتحدة مناهضة للامبريالية». وأضاف أنه على سبيل المثال قامت الولايات المتحدة على أساس «مناهضة الامبريالية، مستعمرة ثائرة حاربت ضد امبراطورية شر من أجل استقلالها». وقال أيضا إن التعريف الضيق والطبيعي للامبراطورية يجعل الأميركيين يفكرون في أن الـ 14 إقليما المرتبطة بالولايات المتحدة وتضم نحو ستة آلاف ميل مربع (مثل بورتوريكو والجزر العذراء) يمكن أن تكون مؤشرا على أنها تكوّن امبراطورية.

لذلك يفضل فيرغسون استخدام تعريف أوسع للامبراطورية إذ قال: «إن الولايات المتحدة ليست رقما واحدا فقط بل هي الأكثر قوة في التاريخ».

وأكد فيرغسون أن الولايات المتحدة تمتلك جميع خصائص وشروط الامبراطوريات السابقة وهي القدرة العسكرية والاقتصادية والثقافية. فطبقا للشروط العسكرية، لديها نحو 750 مرفقا عسكريّا في 130 بلدا في العالم (ثلثي بلدان العالم) إضافة إلى أن «حصة الولايات المتحدة من الإنفاق العسكري في العالم تبلغ 40 في المئة». وفي الجانب العسكري أيضا، فإن فيرغسون قال إنه ليست هناك من امبراطورية كانت من القوة كما الولايات المتحدة التي «يمكن أن تحارب وتكسب أية حرب ضد أي خصم».

وفي الشروط الاقتصادية فإن حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي 31 في المئة وهي ثلاثة أضعاف حصة العالم في عهد الامبراطورية البريطانية. في الجانب الثقافي يمكن للولايات المتحدة تصدير قيمها الثقافية إلى مختلف أنحاء العالم والتي يمكن أن يتبناها الناس طواعية.

ويعتقد فيرغسون أنه ينبغي على الولايات المتحدة، من أجل مواصلة دورها العالمي النشط، العمل على ترتيب وضعها الداخلي، فهي «لا تستطيع إدارة امبراطورية بكلف ضئيلة» مشيرا بسخرية - كدليل حقيقي على ما يقوله - إلى أنه في أفغانستان خصصت واشنطن فقط خمسة ملايين دولار نفقات مباشرة لإعادة بنائها، فيما تقدر كلف احتلالها للعراق بـ 3,9 مليارات دولار شهريّا لتغطية نفقاتها العسكرية فقط والتي لا تشمل اي تمويل لإعادة إعمار العراق وضمان الأمن والنظام فيه.

والغرض من الامبراطورية الأميركية في نظر فيرغسون هو نشر الأسواق الحرة وإقامة حكومات جمهورية أو نيابية وحكم القانون في العالم. وان هذه الأهداف يمكن تحقيقها فقط عن طريق ما اصطلح على تسميته بـ «امبراطورية».

غير أن كاجان قال إنه سيكون من الخطأ القاتل وصف الولايات المتحدة بأنها امبراطورية. وفيما أُعتبر ردّا على مقولات الدكتور إدوارد سعيد عن الامبريالية والثقافة، قال كاجان إنه لا توجد هناك أمور مثل ثقافة امبريالية.

ويقول الباحث في معهد بروكينغز في واشنطن جيمس ليندسي إن الولايات المتحدة ابتعدت عن فكرة «الآباء المؤسسين» بتجنب التورطات الأجنبية قبل أكثر من قرن عندما ذهبت إلى الحرب مع إسبانيا في العام 1898». ووجد في كتاب «أميركا غير مقيدة: ثورة بوش في السياسة الخارجية» الذي ألفه ليندسي ودالدر أمثلة من الماضي للصراعات على السياسة الخارجية التي تحدث داخل إدارة بوش.

وبعد الحرب العالمية الأولى، حارب ويلسون من أجل العضوية في عصبة الأمم ولكن الجمهوريين في مجلس الشيوخ تفوقوا عليه في المناورات بقيادة هنري كابوت لودج. وأراد ويلسون ولودج أن تمارس الولايات المتحدة القوة في الخارج ولكن لودج خشي أن تحد عصبة الأمم من حرية الولايات المتحدة في العمل. ويرى ليندسي شبيها لبعض تلك الصراعات في الخلاف القائم حاليّا داخل حكومة بوش بين وزير الخارجية كولن باول وما يسميهم «القوميين العدوانيين» بقيادة وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. ويجادل ليندسي بأن «القوميين العدوانيين يعتقدون بأن قتل الناس السيئيين هو السبيل لإيجاد الديمقراطية، وليس بناء المؤسسات»

العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً