العدد 2619 - الجمعة 06 نوفمبر 2009م الموافق 19 ذي القعدة 1430هـ

سلسلة الصحافة المسئولة: المأساة الإنسانية كعامل محفّز للتغيير

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

يُختزن كل نزاع عنفي وطني تقريبا في الوعي الشعبي من خلال صورة رمزية تمسك بجوهر القصة. أتت لنا حرب الخليج الأولى بصور لطير بحري مسكين مغطى بالزيت وعالق في بقعة زيت في مياه الخليج.

وفي الانتفاضة الثانية كانت صورة محمد الدرة الذي علق في تبادل إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين عند مفترق نتزاريم وقتل أمام كاميرا التلفزيون الفرنسي.

كذلك حُفِرت في ذاكرتنا من آخر حرب في غزة صورة عز الدين أبو العيش، الطبيب الغزّي الذي قُتِلت بناته الثلاثة بقصف من دبابة إسرائيلية.

تشكّل هذه الصور إدراكنا الحسي. ويعود الفضل في ذلك لاختراع تكنولوجي واحد هو كاميرا التلفزيون. لقد أوجدت القدرة على الإمساك بالواقع وهو يتبلور أمامك وإرساله فورا عبر العالم، ثورة مازالت معانيها الضمنية الكاملة غير معروفة بعد. وكما قال العالم الاجتماعي الفرنسي بيير بوردو: لا يغير التلفزيون الأسلوب الذي نرى من خلاله العالم فحسب وإنما كذلك العالم نفسه. لم يعد النصر في ساحة المعركة يتقرر فقط من خلال توازن القوى وعدد الجنود أو فعالية أسلحتهم. واقع الأمر إن باستطاعة المرء أن يناقش بأن كاميرا التلفزيون أصبحت وبشكل متزايد بنفس أهمية أسلحة الدمار في تقرير نتيجة الحرب.

تخاف الدول والحكومات والجيوش من الصحافة المستقلة في ساحة المعركة، وستفعل كل ما في وسعها لمنع سهولة الوصول إلى منطقة النزاع، وخاصة إذا كانت المعركة تقع في منطقة مدينة عراقية. يجب ألا يستغرب المرء إذا عندما تحاول أطراف المتحاربين مراقبة وتحديد تحركات الصحافة في محاولة لاستغلالها لأهداف دعائية سياسية، أو على الأقل منعها من التدخل في النتائج.

خذ على سبيل المثال الحرب في العراق. لقد تم إجراؤها بأسلوب «معقّم»، دون أي تدخّل تقريبا من قبل الصحافة المستقلة. ومنذ فترة وجيزة، وبعد حرب لبنان الثانية، توصّل الإسرائيليون إلى نتيجة أن الصحافيين الذين كانوا يجوبون ساحة المعركة ساهموا في الشعور بالفشل الذي أصبح مرتبطا بالحرب. أما في حرب غزة فقد صعّدت «إسرائيل» التوجه الأميركي إلى مستوى أعلى من خلال منع الصحافيين المحليين والأجانب من الدخول إلى المنطقة بشكل كامل والسماح بوصول محدود لمجموعة قليلة من المراسلين الحربيين.

كانت النتائج متوقعة. لم يتعرض معظم الإسرائيليين لصور «قاسية» من داخل غزة، ولم يكن لدى الصحافة الأجنبية سبيل للوصول إلى المعلومات باستثناء الناطق باسم الجيش الإسرائيلي وشبكات الإعلام العربية مثل الجزيرة والعربية. أفشلت النتائج دون شك قدرة الجمهور في «إسرائيل» وعبر العالم على معرفة وفهم والحكم على ما كان يحصل بشكل كامل في تلك الحرب.

لنعد الآن إلى قضية الطبيب الغزّي الذي فقد ثلاثا من بناته في الحرب. انكشفت القضية على التلفزيون الحي المباشِر على القناة الإسرائيلية العاشرة. استمرت قنوات تلفزة أخرى وصحف في «إسرائيل» بمتابعة القصة ومقابلة الطبيب في الأيام التي تلت. دخلت صورة الدكتور أبو العيش التي تفطر القلوب كل غرفة جلوس في «إسرائيل» في وقت حطمت فيه تقييمات المشاهدين للأخبار جميع الأرقام القياسية. لم يحصل من قبل أن حصل فلسطيني على هذه التغطية من جانب إعلام التيار الرئيس في «إسرائيل». كان شخصية تمثّل وظيفة عصرية: إنسان مسالم وطبيب يتحدث العبرية وبشر يستمر في التكلم بلغة السلام حتى بعد مقتل بناته.

أتى العديد من الإسرائيليين إلى المستشفى داخل «إسرائيل» بعد بث النبأ، حيث كان بقية أطفال الطبيب يتلقون العلاج، لتعزيته وتشجيعه. جاشت مشاعر آخرين فقاموا بتنظيم مهمات إعانة إنسانية إلى غزة. كان التغيير في الجو ملموسا حتى في الإعلام. بدأ المراسلون ومديرو البرامج يتحدون المتحدث العسكري الرسمي بأسئلة أكثر صعوبة. ويناقش البعض بأن ذلك حقق نهاية مبكرة للحرب. رغم أنه يصعب إثبات ذلك، لا شك هناك أنها كانت لحظة محورية تركت ندبة عميقة في النفسية الإسرائيلية.

صحيح أنه كانت هناك كذلك ردود فعل معارضة انعكست في الإشاعات والإعلام المضلل، مثل الادعاء بأن منزل الطبيب قصفته قوات فلسطينية وليس إسرائيلية. ولكن الأمر في نهاية المطاف هو أن قصة أبو العيش خلعت صبغة إنسانية على معاناة الفلسطينيين في عيون الإسرائيليين أكثر من أي شيء آخر في هذه الحرب.

جعل التلفزيون من هذه الظاهرة أمرا ممكنا. طبيعة هذه الوسيلة الإعلامية أنها لا تترك للمحررين سوى خيارا محدودا، وهذا أمر حسن وسيّئ في الوقت نفسه. فمن ناحية، يستطيع التلفزيون أن يبث مضمونا سطحيا أو خلاعيا أو حتى جنسيا يحض على الحقد ويشجع العنف. ولكن من ناحية أخرى يمكن لانعدام الكابح أن يفتح هذا الوسط ويمكنه من أن يقدّم الطرف الآخر بوجه إنساني.

كيف نحافظ على الجيد ونقلل السيّئ إلى أقصى حدٍّ ممكن؟ الخطوة الأولى شراء كاميرات فيديو وتوزيعها على الناس المقيمين في مناطق النزاع. النجاح مضمون. تبنت هذا النموذج منظمات مختلفة تعمل في مجال النزاعات. قامت منظمة «بتسليم» على سبيل المثال بتوزيع كاميرات على فلسطينيين في الضفة الغربية استخدموها لتوثيق حالات ظلم الاحتلال وعنفه من الداخل، وقد عُرِضَت الصور بعد ذلك على محطات التلفزة الإسرائيلية مرة بعد أخرى. شجع ذلك بدوره على التقصّي وتوجيه تهم ضد ضباط وجنود محددين.

ينزع الناس المنخرطون في نزاع وطني مطوّل لأن يرفضوا ويتجاهلوا وينكروا إطروحات الأعداء. يمكن للتلفزيون أن يساعد على تحقيق العكس. نقوم من خلال بث الحقيقة المأسوية للنزاع بإضفاء شخصية وإنسانية على الآخر.

يمكن للتغطية المتلفزة من هذا النوع أن تزيد من التسامح والشعور المعمق والوعي المتزايد الذي يمكن بدوره أن يمكّننا من أن نهبَّ لمساعدة السكان المدنيين بفاعلية أكثر. قد يساعد ذلك أيضا على تقصير فترات الحرب ويحذّر عند الضرورة من تكرارها.

-مدير كشيف - مركز حماية الديمقراطية في «إسرائيل»، وقد عمل مسبقا مديرا تنفيذيا لمنظمة «بتسليم» - مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة. كما عمل بئير أثناء الانتفاضة الأولى مراسلا لـ «هآرتس» في المناطق المحتلة، والمقال يُنشر بالتعاون مع «كومن غراوند».

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 2619 - الجمعة 06 نوفمبر 2009م الموافق 19 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً