العدد 348 - الثلثاء 19 أغسطس 2003م الموافق 20 جمادى الآخرة 1424هـ

ماذا جرى... وماذا يجب أن يجري؟

بعد 32 عاما من الاستقلال

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

تقول الراحلة سيدة الغناء العربي أم كلثوم في أغنية لها: 

وصرت أفكر في النسيان

حتى بقى النسيان هَمّي

وحين يكون التركيز على هم واحد ويصبح أمر واحد هو الهم الأول والأخير تضيع بقية الهموم لأن هذا الهم يأتي على حساب الهموم الأخرى وينطبق هذا على وضعنا في البحرين.

ظلت البحرين بعد إغلاق المجلس الوطني وتعطيل العمل بدستور 1973 همها فقط الهاجس الأمني، فقد تناست الدولة وركزت على هم الأمن فأصيبت الدولة (بالوسواس) فكل من يزور البحرين قد يكون خطرا على البلاد أو يقصد شرا ويهز كيانها وكل مثقف يقول كلمة نقد صادقة مجرم يريد الإطاحة بالنظام فضيقت الخناق على المثقفين والسياسيين وكذلك على كل مستثمر أو زائر أو سائح فأثر ذلك كثيرا على صناعة السياحة وعلى دخول المستثمرين إلى بلادنا.

حرم هم الهاجس الأمني هذه البلاد من تحقيق التنمية المطلوبة وحل المشكلات المعلقة، فمنذ صبيحة 15 أغسطس/آب 1971م حين قرأ صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان على الهواء من قاعة الاجتماعات في دار الحكومة بالمنامة بيان الاستقلال اعتقد المواطن أنه أمام مرحلة تاريخية جديدة، ومن تابع الأفراح التي أقامها هذا الشعب ومظاهر البهجة التي عمت كل مدن وقرى البحرين في تلك الأيام كشف عن مدى تفاؤل المواطن البحريني بأنه سيدخل مرحلة جديدة ومغايرة فتنتهي الهيمنة البريطانية ويختفي العسكر الأجنبي من شوارع وطنه وترجع كل مقدرات البلاد إلى يد الحكومة الوطنية ويصبح الاقتصاد وإدارة الاقتصاد بيد الأسرة الحاكمة وحكومته الوطنية فيصبح يوم المواطن وغده جميلين.

ومما زاد من تفاؤله التزام الحاكم بوضع دستور للبلاد، وفعلا استطاع المجلس التأسيسي برئاسة المرحوم إبراهيم العريض وضع دستور عمق تفاؤل المواطن وإحساسه بغد جميل. وبدأ الشعب رحلته الديمقراطية وبكل جدارة بدأ عمله النيابي على رغم حداثة تجربة الأعضاء بمحاولة فرض كثير من الإصلاحات التي كانت ولا شك سترفع الكثير من الهموم والمشكلات عن كاهل المواطن البحريني.

وترأس المجلس حسن جواد الجشي وكان يمكن للقيادة أن تعيش في حب وصفاء يأتيها رزقها واحتياجاتها رغدا في الحدود المناسبة وتصبح كل المؤسسات التنفيذية تحت رقابة المجلس فلا ضرر ولا ضرار، فما للحاكم للحاكم وما للشعب للشعب وما للحكومة من الصلاحيات التي تمكنها من تطوير البلاد من خلال عقلية جماعية فإلى جانب أعضاء الحكومة كان هناك من يخطط معهم من أعضاء المجلس ما كان سيضمن صحة المسيرة وعدم ضياع المال العام ودقة التوزيع في الوجوه التي يجب أن تذهب اليها موازنة الدولة، وإفساح المجال بشكل يهيئ البلاد لاستقبال المستثمرين ورؤوس الأموال الخارجية وبالذات العربية الخليجية لأنه في حال وجود دستور ينظم مسيرة الدولة يجعل ثقة المستثمر أكبر بأن هناك قانونا وعلاقة ود بين الشعب وحكومته ولا خوف من رياح التغيرات أو الاعتماد على الأمزجة والحكم الفردي.

وفوق هذا وذاك حين تكون علاقة الود بين الحاكم والرعية هي الوضع السائد يشعر أصحاب رؤوس الأموال بالطمأنينة والاستقرار لأنه بمجرد أن يشعر أي مستثمر أن هناك توتر في العلاقة بين القيادة والشعب فلن (يُوَطْ وِطْ) صوب هذه الأرض طبعا فلا يمكن لأية إجراءات أن تغلق عيونهم وتخدعهم فبالتالي فهو يشم رائحة هذه العلاقة ويعرف مدى الود أو التوتر بين الطرفين وهي (طايره).

فمظاهر الود واضحة ومظاهر التوتر واضحة أيضا، فعلى سبيل المثال يحكى أن أحد كبار تجار البحرين شجع أحد كبار المستثمرين الهنود بإقامة مصنع كبير في البلاد تبلغ كلفته عشرات الملايين، فحضر هذا المليونير لزيارة البحرين والتعرف على أوضاعها وكان ذلك أيام قانون أمن الدولة وبلوغ البلاد مرحلة التوتر فأخذه صاحبه في جولة لمختلف مناطق البحرين لأنهما كانا اتفقا بشكل أولي على التفصيلات، فكلما قطعت السيارة بضع خطوات ظهر مبنى لأحد مراكز الشرطة وكل بضع خطوات رأى سيارات الشرطة.

المهم بعد أن انتهت جولة التاجر البحريني وضيفه الراغب في الاستثمار واجتمعوا على غداء دسم ومعهم بعض التجار الآخرين ممن استضافهم المضيف على شرف ضيفه قال له: ما رأيك، كيف رأيت البلاد؟ لا شك أنك أعجبت بالأمن والاستقرار فيها، أجاب الضيف: هل تريدني أن أجاملك أو أقول الحقيقة؟ فرد عليه التاجر البحريني: بل أريدك أن تكون في منتهى الصراحة لأن القضية بها عشرات الملايين وكان يظن أن مشاهدته لكثرة السجون ومراكز الشرطة يعطي الضيف إحساسا بالاستقرار والطمأنينة، فجاء جوابه صفعة وقال بصراحة: غيرت رأيي إذ ان هذه المظاهر التي رأيتها لا تكشف أن في البلد استقرارا يشجع المغامرة بعدة ملايين من الدولارات وإقامة مصنع بهذا الحجم فيه.

فلما سأله عن السبب أجاب: إننا في الهند على رغم كثافة السكان لا تجد مراكز شرطة إلا كل مئات الكيلومترات. اعذرني إن لم أجاملك وكنت صادقا معك. ويقال أن اليمن على مشكلاتهم وعلى حياتهم القبلية الجافة وأن معظمهم مسلحين إلا أن عدد السجون بها لا تزيد على سبعة سجون، بينما بلغ عدد السجون في البحرين قبل إعلان المسيرة الإصلاحية لجلالة الملك وإيقاف قانون أمن الدولة 27 سجنا. قد يكون في هذا بعض المبالغة لكن مما لا شك فيه أننا عشنا مرحلة من الرعب فكان الهم الأول للدولة هو الهاجس الأمني.

هذه المظاهر كانت وراء هروب الكثيرين ممن جعلوا البحرين موقعا لاستثماراتهم عدا عن امتناع دخول مستثمرين جدد لها.

وهكذا فإن هاجس الأمن الذي سيطر على الذهن كان وراء ضياع هذه الدولة مع ما بها من مميزات تشجع المستثمر كان في مقدمتها وجود الأيدي العاملة البحرينية ذات الكفاءة إلى جانب معرفة الكثيرين باللغة الانجليزية مع طيبتهم التي تشجع أن يتعايش معهم أي أجنبي من دون الشعور بالغربة التي قد يحسها في دولة خليجية أخرى.

لكن ما جرى طوال مرحلة ما بعد العمل بقانون أمن الدولة خلق شعورا بعدم الثقة ما فرض العمل بحس واحد وهو حسن الشك وحس الترقب والخوف من المواطن وخصوصا طبقة المثقفين الجادين.

وعندما دخلنا مرحلة الإصلاح في عهد جلالة الملك كان يمكن خلال هذه الفترة القصيرة أن يتم إنجاز الكثير وخصوصا أن البلاد دخلت مرحلة جديدة من حياتها. فالعلاقات اتسمت بما هو أقرب إلى الود منه إلى التوتر وكان يمكن أن يزداد هذا الود ويصبح أكثر عمقا لو لا ما حدث من بعض التراجعات ربما كان وراءها التصعيد غير المتوقع في لهجة المطالبة الشعبية بقيادة بعض الجمعيات السياسية التي وضعت علامات استفهام أمام ما يجري؟ لماذا هذه الضجة؟ ما هو المطلب الحقيقي لهذا البعض هل هو المزيد من الإصلاحات أم أمر أبعد؟

فصار المواطن ضحية عدم إدراك القيادات السياسية خصوصا التقليدية منها التي تولت عملية طرح المطالب بشكل غير هادئ معتقدة أنها بذلك تفرض احترامها على الشارع البحريني ثم أن بعض الأطياف التي تحمل هما أبديا أشبه بهم القيادة التقليدية في هاجسها الأمني الذي استمر ثلاثة عقود مما كان وراء عدم تحرك الاقتصاد وعجز النظام عن تحقيق التنمية المطلوبة تماما.

وفي اعتقادي أن البحرين ستصل عاجلا أم آجلا على الأقل على المدى المنظور إلى خروج البلاد من مأزقها الحالي بحيث تتحول الجمعيات السياسية إلى جمعيات واقعية تعمل من خلال المعطيات الحالية والرضا بما قسمه الله لنا والاعتراف بحكمته، وكذلك إدراك القيادة التقليدية إننا في زمن لا يسمح فيه بما كانت تفعله حتى وقت قريب... ساعتها فإن القيادة الجديدة ستكون قادرة على اتخاذ قراراتها من دون شد وجذب ما يتيح الفرصة أمام حل كثير من المشكلات المعلقة.

إن على القيادات السياسية ألا تضغط أكثر مما يجب ولا تسيس كل مطلب وعمل وعلى الأطياف أن تصحح أخطاءها وتهدئ الشارع وتعلمه أن يتجاوز هذا الوضع النفسي ليشعر أنه يعيش في وطن للجميع وليكن همنا الأول والأخير هو تحسين أوضاع المواطنين وخروج البحرين من مآزقها المحرجة من بطالة وتوقف لعملية التنمية.

لنضع ثقتنا في القيادة الجديدة ونرفع مطالبنا بشكل منطقي وهادئ وندرك الظروف الداخلية والخارجية الحرجة التي تمر بها القيادة الجديدة حتى لا تأتي الضغوط من كل الجهات ما قد لا يكون في صالحنا.

كم كنا نتمنى بعد مرور 32 عاما على إعلان بيان الاستقلال أن نجد البحرين في يوم 15 أغسطس في مقدمة كل دول المنطقة وعروسة الخليج من دون منازع

العدد 348 - الثلثاء 19 أغسطس 2003م الموافق 20 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً