العدد 2331 - الخميس 22 يناير 2009م الموافق 25 محرم 1430هـ

أخطاء الترجمة من العربية إلى العبرية

السطو على الفكر العربي - الإسلامي (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

طرحت حركة الترجمة من لغة إلى لغة مشكلة قديمة لاتزال مدار بحث بشأن هوية الناقل ومستوى معرفته بالمنقول. وازدادت المشكلة عندما ظهرت تيارات إقصائية تحاول تعمية أو طمس الأصل واعتبار الترجمة الأولى هي المصدر الأساسي وبتر الاتصال بين الترجمة وأصلها الأول.

عن هذا الموضوع قدم عبدالقادر بن شهيدة دراسة عن فيلسوف الأندلس تناول فيها المشكلة المذكورة انطلاقا من سؤال عن «سبب وجود مخطوطات عربية اللفظ وعبرية الحرف لابن رشد».

يبدأ ابن شهيدة دراسته بتعريف الأساس التاريخي للمشكلة ولماذا اندفع مع صديقه أحمد شحلان في باريس في السبعينات إلى الاجتهاد في هذا الحقل واستقصاء الحقائق والبحث عن الأصول العربية لتلك المخطوطات. وحاول ابن شهيدة بالتعاون مع شحلان الرد على أسئلة شائعة في الوسط الأكاديمي من نوع «فضل أهل الملة العبرية في إنقاذ كتب ابن رشد». وللإجابة كان لابد من توضيح التباسات كثيرة منها «الكشف عن هوية الناسخ العبري»، وسبب «لجوء أهل الملة العبرية للاستنساخ» وتصنيف ابن رشد كعربي المحتوى وعبري الحرف. وقام ابن شهيدة بالتعاون مع شحلان في خوض هذه التجربة الشائكة بقصد وضع «الناسخ العبري» في إطاره التاريخي، الأمر الذي أدى إلى «اكتشاف خلفيات غير منتظرة»، كما يقول ابن شهيدة، عندما درس كتاب «النفس» لابن رشد وعقد مقارنة بين مخطوطات باريس ومودينا والنسخة المطبوعة، وقام بملاحقة تاريخية لمصدر مخطوطة كتاب «النفس» وتاريخ نسخها، وهوية ناسخها، ومن أين جاءت عائلته، وتاريخ عائلته، ومكانة أسرته في العصر الأندلسي، وتوصل بعد جهد ميداني بحثي إلى اكتشاف اسم الشخص الذي أمر بالاستنساخ. ولاحظ أن الناسخ بالأحرف العبرية هو غير المترجم إلى اللغة العبرية وأن هناك فاصلا زمنيا بين النسخ اللاحق والترجمة السابقة.

شجع هذا الاكتشاف الأكاديمي ابن شهيدة وزميله شحلان على مواصلة البحث وبذل المزيد من الجهد لفك الاشتباك وتوضيح الجوانب التاريخية للصورة و «استخراج معانيها الموؤدة». وكان لابد من الإجابة عن سؤال «ما هو سبب وجود مخطوطات لابن رشد عربية اللفظ وعبرية الحرف»؟ وبدأ التحقيق لمعرفة الغايات والدوافع التي حركت الجاليات العبرية في الأندلس وفاس والقيروان والفسطاط وغيرها للاهتمام بمنتوج الفكر العربي عموما والأمر باستنساخه منذ زمن بعيد.

توصل ابن شهيدة إلى اكتشاف مرحلتين: الأولى، وهي النسخ بأمانة ونقل النص كما هو بأحرف عبرية. بينما عمدوا في المرحلة الثانية إلى الاختزال والتقليص والطمس والتلفيق والسطو، وأحيانا انتحال النص بعد طمس مصادره وأصوله بهدف الانفراد به واستخدامه لأغراض مذهبية خاصة. وحاول ابن شهيدة تفسير أسباب انتشار التصانيف العربية التي وضعها «أهل الملة العبرية في بلاد الأندلس وفي المدن العربية الإسلامية الأخرى» ولماذا حرصوا على تبني اللغة العربية «لطرح شتى أغراضهم من فقه وعلم كلام، ومن شروح على التوراة والتلمود، ومن نحو وشعر وفلسفة وطب» باستخدام أساليب التعمية وهو علم عربي ابتكر كوسيلة لمسك الدواوين وصيانة أسرار الدولة خوفا من تسرب المعلومات إلى الخصوم.

توصل ابن شهيدة إلى اكتشاف نوع من الاختلاف بين الأسلوب العربي في الترجمة والنقل عن اليونانية والسريانية والفارسية والهندية حين «لم يتوخَ الناقل العربي» استخدام «لغة الاستثناء وحرفا للتغطية» بينما لجأ الناقلون من العربية إلى لغة رمزية لطمس وتعمية المصدر الأصلي.

يورد ابن شهيدة الذرائع المتداولة لتوضيح هذا الالتباس مثل أن هؤلاء القوم عمدوا «إلى توخي تلك السبل تيسيرا على من لا يحسن قراءة الحرف العربي (...) ويتكلم لغة العرب سماعا». أو مثل أن الأمر يرجع إلى «نكبة فيلسوف قرطبة المفترى عليه، من أهل ملته، إذ تمكنت الجالية العبرية بفضل توخي تلك الطريقة من إنقاذ تصانيفه من الاندثار والنسيان». أو مثل تأثير كلام موسى بن ميمون وإشارته «على أهل ملته بالاعتناء خصوصا بمؤلفات فيلسوف قرطبة الذي حظي ضمن الجالية العبرية بسمعة سرعان ما أدت إلى نسخ غالبية تصانيفه بالأحرف العبرية ثم إلى ترجمتها إلى اللغة العبرية».

ويرد ابن شهيدة على تلك الذرائع ويفندها بالعودة إلى الأصول التاريخية، مشيرا إلى ضرورة إعادة قراءة تلك الترجمات ومقارنتها لتحديد أصلها الأول والكيفية التي تم فيها تحريف أو تحويل النص الأصلي عمدا أو عن جهل توخيا للحقيقة الضائعة في المكتبات الأوروبية وأرشيف المخطوطات. وازدادت الحاجة إلى هذه المهمة، خصوصا بعد ظهور تيار عكسي إقصائي يعتمد الفرع العبري أو اللاتيني كأصل موثوق ونهائي في نشر وتحقيق أعمال ابن رشد العبرية واللاتينية من دون العودة أو اللجوء «إلى الشاهد العربي».

بعدها يؤكد ابن شهيدة أن الكتب العربية التي ترجمت إلى العبرية «مرت كلها بتلك المرحلة التحويلية من التعمية والإضمار التي تمس الشكل من دون نقل المعاني» وهي انتقلت زمنيا من مرحلة الناقل الأمين اللصيق بالنص الأصلي إلى مرحلة الانفراد بالنص العربي وطمس معالمه الإسلامية وتقليصها و «صبغها بصبغة عبرية».

بسبب وجود تصانيف عربية لاتزال إلى وقتنا في منزلة بين المنزلتين (لا عربية ولا عبرية) يقترح ابن شهيدة الإسراع إلى الاهتمام بها وكشف أصلها العربي من دون إهمال فروعها العبرية واللاتينية كفروع وشواهد خصوصا في حال غياب الأصل العربي. ويقدم ابن شهيدة في ختام دراسته تقنية بحثية لاستقصاء «تواريخ هذه المخطوطات المزدوجة والتحقيق من هوية ونشاط ناسخيها ومترجميها أو الآمرين بنقلها (...) وحصر قائمة الأقاليم التي كانوا يترددون إليها ويتصلون فيها بأعيانها». وكان ابن شهيدة توصل إلى هذه التقنية من خلال تجربة عينية طبقها على كتاب «النفس» لابن رشد وقامت مؤسسة «بيت الحكمة» في قرطاج بإصداره في يناير/ كانون الثاني 1998 بإشراف إبراهيم الغربي الذي نقله عن اللاتينية إلى العربية.

أخطاء الترجمة

بعد أن أبان عبدالقادر بن شهيدة خلفيات السطو التاريخية ألقى زميله أحمد شحلان الضوء على جوانب لا تقل أهمية تناول فيها مسألة الترجمة نفسها بالعودة إلى الأصل العربي ومقارنته بالفرع العبري، وكشف الكثير من الأخطاء الناتجة عن قصور فهم المترجمين للمفردات العربية الأمر الذي أدى أحيانا إلى تغيير المعاني.

يعترف شحلان بدور الإعلام اليهودي في الاشتغال بالعلم العربي وبراعتهم في استخدام علم الكلام والأصول وكتابته بلغة عربية سليمة وأحيانا بلغة بليغة بحرف عبري. واستمر الأمر إلى أن انهار الحكم الإسلامي في الأندلس فرحل اليهود من إسبانيا إلى البلدان الأوروبية «فهجرت العربية لسانهم ولم تهجر المنافع تلك العلوم»، وعندها انطلقت حركة ترجمة من العربية وجلّها «من نسخ عربية المضمون عبرية الحرف إلى اللغة العبرية» ثم نقلت تلك الآثار «من العبرية إلى اللغة اللاتينية».

يورد شحلان لائحة بمؤلفات ابن رشد نقلت إلى العبرية أو اللاتينية بلغ مجموعها 37 كتابا من تأليفه أو تلخيصه وشروحه لفلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان. وبعد أن يستعرض عناوين الكتب يطرح أسئلة عن الترجمة ومدى نجاحها في نقل الفكرة الأصلية ومدى معرفة المترجمين بالعربية، ويعقد مقارنة اختار فيها أربعة كتب لابن رشد وهي: «تهافت التهافت»، و «فصل المقال»، و «الكشف عن مناهج الأدلة»، و «كتاب الشعر.»

سبب اختيار شحلان الكتب الأربعة كنموذج محدد لدراسته يعود إلى وجود أصول عربية لتلك الترجمات وهو أمر يساعد في ضبط الأخطاء وتحديد الهفوات ومعرفة جوانب التقصير في الترجمة أو النقل أو تعدد الترجمات أو وجود أكثر من مترجم لأثر واحد.

استخدم شحلان تقنية ملاحقة المفرد في العربية والعبرية واللاتينية ومقارنته بمختلف الترجمات وتعددها أو تعدد المترجمين في مخطوطات مختلفة. وأدى جهده الثمين إلى اكتشاف مجموعة أخطاء وزعها على أقسام مختلفة وأعطى أمثلة عليها، وهي جاءت كالآتي:

أولا، أخطاء ناتجة عن سوء القراءة، فيصبح لفظ سبب في الترجمة «سلب»، ومصدرها تصبح «مصورها»، والعقل يصبح «الفعل»، ويكفي «يخفي»، ولا تصبح «أو»، ومجانا «مجازا»، وعن منام تصبح «عن مقام»، والوقوف «الوقوع»، ورموز «مزمور»، وتناقض «نقص»، وجوب «وجود» ،التثنية «التشبيه»، المجال «المحال»، الجنس «الحس»، السبعة «الشنيعة»، يساوق «يساوي»، يعلل «يقول»، افتراق «اقتران»، معقولا «مفعولا»، متفاوتة «متفارقة»، قررناه «قدرناه»، الوحدة «الوجوه»، حرفها «حركها»، صاد «ضاد»، وضعت «وقعت»، جرم «جزء»، أشباه «أشياء»، المجانسة «المناسبة»، الفاصل «الفاضل»، نافع «تابع»، وغيرها من الألفاظ التي تغيرت أو انقلبت بسبب سوء القراءة.

ثانيا، أخطاء ناتجة عن سوء فهم الدلالة والصيغ واشتراك الجذر أو التشابه الصوتي بسبب انعدام النقط أو تشابه الحروف أو دمج كلمتين لتصبح كلمة واحدة أو اعتبار كلمة كلمتين متمايزتين. ويعطي أمثلة على الأمر: لم يأذن تصبح «لم يسمع»، الحوصلة «الحصول»، الشاهد «المشاهد»، العصمة «العظمة»، الأماكن «الإمكان»، التناسخ «النسخ»، مجلدات «جلود»، حكم «قضاء»، القبيل «قبيلة»، المناسبة «المنسوبة»، يرتاب «يرتب»، الإسراء «إسرائيل»، روايات «الرؤى»، المزينة «الموزونة»، الفجر «الفجور»، وعد «علم»، واللهم «الله».

ثالثا، أخطاء ناتجة عن التحويل بسبب الحذف نتيجة وقوع الجملة أو الفقرة المحذوفة بين كلمتين متشابهتين، أو بسبب غموض المعنى واستعصاء الفهم على المترجم، أو بسبب داعٍ عقائدي يحتم على المترجم حذف ما له علاقة بالإسلام، أو بسبب استحالة إيجاد المقابل العبري، وأحيانا يأتي الحذف لسبب مجهول لأن المحذوف في الأصل بسيط.

أعطى شحلان أمثلة كثيرة على غموض المعنى واستعصاء الفهم، وعلى استحالة إيجاد المقابل العبري، وانتهى أخيرا إلى أخطر أنواع التحوير وهو المتعلق بالشواهد القرآنية أو أخطاء في قراءة الشواهد القرآنية أو شواهد الحديث أو الشعر. وأحصى شحلان من النصوص التي درسها 192 شاهدا قرآنيا بدَّل المترجمون منها 18 وحذفوا 37 وقرأوا 47 قراءة خاطئة وحذفوا 56 لفظا أو جملة وغيروا 30 لفظا. وأحصى 20 حديثا حذف مترجم كتاب «الكشف» واحدا منها، وقرأ المترجمون 8 ألفاظ خطأ وغيروا 6 وحذفوا 11 منها.

بعد أن أنهى شحلان دراسة النصوص المترجمة ومقارنتها بالأصول العربية أحصى عند مترجم «تهافت التهافت» المجهول الاسم 264 انحرافا، وعند مترجم يدعى قلونيموس 184 انحرافا، وعند مترجم «فصل المقال» 91، وعند مترجم «الكشف» 110 أخطاء، وعند مترجم «كتاب الشعر» 87 خطأ من دون أن يحسب الأخطاء المكررة في الكتب الأربعة أو احتساب أخطاء ترجمات عناوين الكتب الواردة في النصوص المنقولة من كتب الإمام الغزالي إذ يصبح مشكاة الأنوار «شك الأنوار» والمنقذ من الضلال «مدقق الضلال»، إلى أخطاء كثيرة طالت أسماء الأعلام والمذاهب والفرق والاستشهادات النثرية وغيرها من تحويرات ناتجة عن الزيادات وهي كثيرة ومتنوعة.

أخيرا يلتقي شحلان في نهاية دراسته مع ابن شهيدة فيطالب بدعم مشروع إعادة قراءة تراثنا واسترداده من اللاتينية والعبرية قبل فوات الأوان وخسارة فلاسفتنا من طريق السطو على تاريخنا والاستيلاء على ذاكرتنا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2331 - الخميس 22 يناير 2009م الموافق 25 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً