الموت بسبب الحياة الراكدة Road To Perdition
قدم المخرج سام منديز في فيلم Road To Perdition واحدا من أفضل الأفلام فيما يتعلق باختيار الصور بعناية للعام 2002، إذ ان جميع مشاهد الفيلم رائعة بشكل كبير. فبالإضافة إلى وجود المصور السينمائي الخبير كونراد هال الذي قام أيضا بتصوير فيلم American Beauty ومصمم الانتاج دنيس غاسنر، فقد قام منديز باعادة تقديم صورة لاميركا في فترة الكساد الاقتصادي بطريقة تشبه طريقة ادوارد هوبر الحزينة. ومن الصور والمشاهد التي تسر العين صورة رجل يتناول طعامه في مطعم ليلي صغير، ومشهد لردهة فندق مليئة بضوضاء مجهولة. كما نرى لوحة بحرية وحيدة تتألق بصفاء تقشعر منه الأبدان، وهي صور جميلة ولكنها بالتأكيد كانت ستكون أجمل لو استطاع المشاهد ان يعرف ما تعنيه. مهما يبدو هذا الفيلم جميلا فانه أيضا مجوف بسكون، فهو نسخة أنيقة لا يمكن أن تقنعنا تماما بوجود دراما، كما ان مشاهد الفيلم السوداء كالحبر تلمع لمعانا مدهشا، ولا تحوي أية عفوية. انه موضوع حياة أو موت، فيلم من أفلام العصابات تدور حوادثه في العام 1931 ويتناول مواضيع الخيانة والانتقام والندم، فكيف يمكن أن يكون فيلما بليدا؟ يمكنكم مشاهدة الفيلم وستعرفون ما اذا كانت قصته التي تدور حول الآباء والأبناء ليست سوى عمل مدبر، سواء حقق الفيلم اية روعة عاطفية كان يهدف لها أو أن دور توم هانكس الشرير المتباهي لا يمثل اي تغير حقيقي في الاتجاه على الاطلاق.
يلعب هانكس دور مايكل سوليفان، رجل موضع ثقة واعتماد من قبل رئيس عصابات المافيا في المدينة جون روني (بول نيومان)، وهو رب عائلة متبلد الاحساس واب لولدين صغيرين. مايكل الابن البالغ من العمر اثني عشر عاما (تايلر هوكلين)، وهو الأكبر من بين ابني مايكل، يمشي على رؤوس أصابعه خوفا من والده ولكنه على رغم ذلك يشعر بالفضول لمعرفة سبب حمل والده المسدس حين يذهب الى العمل. في احدى الليالي يختبئ في السيارة ويشاهد والده وابن روني المصاب بلوثة عقلية «كونر» (دانيل غريغ) يقتلان أحد المساعدين الذي أصبح مزعجا للرئيس. هكذا أصبح سر أبيه مكشوفا وأصبحت نضارة البراءة ملوثة بشكل لا يمكن تعديله، والأسوأ من ذلك هو أن تطفل مايكل الابن غير المقصود عرّض عائلته للخطر، إذ نسمع روني يقول بهذا الخصوص في أحد مشاهد الفيلم: «يوجد الأطفال على هذه الأرض ليسببوا الأذى لآبائهم». بعدها يقوم كونر المضطرب عقليا والذي يشعر بالاضطهاد بسبب تفضيل روني لسوليفان عليه، بقتل زوجة سوليفان (جنيفر جاسون ليغ، التي كانت بالتأكيد ضحية لغرفة التقطيع) وبقتل ابنه الأصغر كذلك، وهكذا بموت نصف أفراد الأسرة يلجأ سوليفان الى الشارع مع مايكل الابن في مهمة للانتقام وللتخلص من الذنوب التي تلتصق باسمه.
بعض المشاهد الأولى منسقة على نحو دقيق وتشدنا بلا رحمة الى الشر، ففي أحد المشاهد نرى كونر يتجمد فجأة وهو في طريقه للخروج من الباب الأمامي لمنزل العائلة وذلك مباشرة بعد قتله لزوجة سوليفان، ونعتقد أنه ربما يكون قد رأى مايكل الابن وهو عائد للتو الى المنزل، ولكن الأمر ليس كذلك فقد رأى كونر خياله فقط في زجاج الباب فاعتقده شخصا آخر، وهنا يندفع مايكل مسرعا في وسط هذا الخيال. وبعدها عند ما يصل الأب وابنه الى شيكاغو يرون مجموعة مذهلة من الرجال الذين يرتدون معاطف وقبعات سوداء (بحيث يبدو الفيلم وكأنه فيلم استعراض للملابس) يسيرون بحركة بطيئة تجاه الكاميرا، وهذه اللقطة في الواقع سرقة من فيلــم Age of Innocence لسورسيسي.
وأستطيع عمليا أن أحدد المشهد الذي يبدأ عنده الفيلم في الصخب ويبدأ قناع البرود الذي يرتديه هانكس في السقوط، وذلك حين يقف الهاربان في مطعم صغير على جانب الطريق ويذهب سوليفان لتناول طعامه هناك، ويجلس على الطاولة المقابلة رجل يدعى ماغوير (جود لو)، وهو قناص يحب أن يصور الجثث وقد تم استئجاره لقتل سوليفان. يلاحظ الأخير الخطر ولكنه يتلاعب مع هذا الغريب ليعطي نفسه المزيد من الوقت، وهانكس حتى هذه اللحظة يبدو متنكدا ولطيفا وهي الطريقة التي صنع بها اسمه، وهنا يصعب تصديق انه عضو عصابة سفاح، ففجأة تبدو عيناه وشكل وجهه غير مناسبين جدا للدور، ربما احب هانكس فكرة تمثيل دور الشرير ولكن انتهى به الامر لأن يلعب دور البطولة تحت حجة مختلفة، عموما الشيء الوحيد غير اللطيف بخصوص سوليفان هو الشارب الصغير الذي يشبه شوارب الفأر أعلى شفته العليا. عند هذه النقطة ينحرف الفيلم ليصبح فانتازيا عصابات (وهو في الواقع موضوع على أساس رواية تصويــرية)، الأمر الذي يجعــل المقارنــات مع فيلم The Godfatherبمثابة نكتة. يبدأ الأب وابنه نزهة حول المقاطعات المختلفة ويقومان بعمليات سلب للمصارف، كما في فيلم American Beauty ولكن مايكل الابن يقوم هنا بقيادة السيارة.
أما بالنسبـــة إلى فيلم The Godfather فليس هناك وجه تشابه اذ ان هذا الفيلم اقرب الى فيلم Bugsy Malone. لا يقتل أحد في هذا الفيلم ولا يحاول أحد أن يوقف الوالد وابنه، الشخص الوحيد الذي يلاحقهم هو ماغوير الذي يقتفي اثرهم أخيرا الى فندق ويسقط جريحا بعد المعركة التي تنتج عن ذلك، وهي فرصة ممتازة لسوليفان ليقضي عليه، ولكن - وبشكل لا يصدق - لا يفعل سوليفان ذلك. العنف في فيلم Road to perdition اما ان يتم تجاهله بالكامل او ان يتم تقديمه بشكل استعراضي، مثل رقصة الباليه بالرصاص والتي تتم في شارع يتساقط فيه المطر بكثافة في الليل، كل ما نراه هو ضوء اطلاق النار والأجساد وهي تتهاوى بحركات بطيئة، وكل ما نسمعه هو موسيقى توماس نيومان المفعمة بالعاطفية.
إطلاق النار تم عرضه بشكل غنائي مفعم بالعاطفة والحماس على يد أشخاص يعتبرون الأفضل في هذا المجال وهم كوبولا وبيكينباه، ولكني لا أتذكر أنهم كانوا غير قادرين على خلق أي تأثير كما يحدث هنا سابقا.
هذا هو الفيلم الثاني فقط لسام منديز بعد فيلمه الأول American Beauty، ما يعني أن تقديمه لعمل آخر كان من المفروض أن يتم بدقة وبراعة كبيرين. بالتأكيد سيقدم أعمالا أفضل في الوقت المناسب، ولكن هذا الفيلم يعتبر عملا فاشلا. ولكن اكثر شيء يثبط الهمة هو الطريقة التي اخرجت بها الجماليات الحياة من كل شيء، الصورة تتجعد مثل منطاد معطوب، ولم يلاحظ منديز ذلك تقريبا.
هناك شبح علاقة مهمة بين سوليفان وروني العجوز، ولكنها تبقى غير متطورة بشكل محبط كفكرة المصور الذي يعقد صفقات لقتل الآخرين التي يؤديها جود لو. اللقطة قبل الأخيرة في الفيلم تصور غرفة مضاءة بالشمس تقف فيها الكاميرا ثلاثية القوام بين رجلين ميتين، وهي شرك لهوليوود أو لانبهارنا بجرائم القتل الدموية؟
ليس هناك فرق. انها حياة راكدة منسقة بشكل جميل مثل الفيلم نفسه، السكون يبدو رائعا ولكن الحياة تختفي منه.
(خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط»
العدد 352 - السبت 23 أغسطس 2003م الموافق 24 جمادى الآخرة 1424هـ