العدد 395 - الأحد 05 أكتوبر 2003م الموافق 08 شعبان 1424هـ

بين إدوارد سعيدومحمّد حسنين هيكل!

في ذكرى حرب أكتوبر

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

في ذكرى حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 الثلاثين، حدثان مهمّان. الأوّل، وفاة المفكّر الفلسطيني، إدوارد سعيد. والثاني، هو إعلان الكاتب والصحافي المصري الشهير، محمّد حسنين هيكل اعتزاله الكتابة. وفي المحصّلة، سنفتقد الكتابة المميّزة، من الاثنين معا، وكلّ في مجاله. من إدوارد سعيد، لأن الله استدعاه إلى جواره، رحمه الله. ومن هيكل، وبقرار عاقل لانه بلغ الثمانين من العمر، أطال الله بعمره. فماذا عنهما؟

في إدوارد سعيد:

مهما قرأت له، لا يمكن لك ان ترتوي منه، فتقول مثلا «لقد فهمت» وانتهى. فقراءة كتابه، أي كتاب، ستُغيّرك حتما. فتصبح انت، لست انت. وإذا ما أعدت قراءة هذا الكتاب، فإنك ايضا ستتغيّر لمرّة ثانية، وثالثة وهلمّ جرّا. وقد تشعر انك تقود مع نفسك، وبمساعدة إداورد سعيد، ما يُسمّى بالثورة المُستدامة على النفس، على غرار ما بشّر به المفكّر والثوري الشيوعي تروتسكي.

يُثوّرُك هو، على نفسك وعلى غيرك، وعلى الظلم القائم مهما كان مصدره.

ثار هو بقلمه، والحمد لله. فلو ثار بالبندقيّة، وكانت على مستوى قدرة قلمه في التغيير. لكان من الممكن ان نشهد دمارا شاملا لا يريده هو بالتأكيد. كلمته سلاحه، ارادها صادقة وإنسانيّة. وغفُل عنه أن السيف أصدق أنباء من الكتب. يكتب سعيد عن الفكرة، بطريقة لا يجعلها معقدة جدّا فلا تُفهم، وبسيطة بشكل ان تصبح مبتذلة. يأخذ منك، أفضل ما فيك، فترتقي معه إلى سمو الكلمة، لتصبح نصير ما يطرح من قضايا. كره الكلمة العاهرة. وخصوصا التي تؤسّس لسلب المكان. وخصوصا ذلك المكان الذي افتقده كثيرا خلال حياته. فيقول: «...إن تراكم الافكار والعبارات المتكرّرة، يجعل منها حقيقة واقعة في كثير من الاحيان وبأقل قدر من الاثبات، وبلا دليل على الاطلاق، ويساعد على دعم الادعاءات الشائعة بالحقّ في الأرض في المجال السياسي». هكذا هي الدراسات التوراتيّة. فهي أسكتت التاريخ الفلسطيني بحقّه في الأرض، وغيّبته إلى غير رجعة.

صديقه الانسان، أي إنسان. من هنا كان طبيبه الخاص والذي كان يتلقّى منه العلاج، يهودي الأصل. كره فساد عرفات، ودمويّة شارون. ردّ عليه ابو عمّار، بمنع كتبه من التداول في الاراضي الفلسطينيّة. الامر الذي يثبت عظمة سعيد، والفقر الثقافي لابو عمّار، وذلك حسب ما قاله روبرت فيسك. إنه تمثال كبير وكبير جدّا، وعلامة فارقة في ميدانه. لكنه في الوقت نفسه، هو مُحطّمٌ للتماثيل.

اعتبر إدوارد سعيد أن الاستشراق، هو كعلامة للقوّة الاوروبيّة. فالعلاقة بين الشرق والغرب، هي علاقة من القوّة ومن السيطرة، ومن درجات متفاوتة من الهيمنة المعقّدة المتشابكة. الاستشراق، هو نظام من المعرفة بالشرق، مشبَكا، يُمرَّر خلاله الشرق إلى الوعي الغربي. باختصار، إنه تنميط كاذب للشرق، يعتمد اساسا على علاقة القوّة والسيطرة للغرب. وقد تذكّرنا هذه المقاربة، بما كتبه المفكّر الأميركي من أصل لبناني، جاك شاهين. فهو كان قد درس حوالي الف فيلم سينمائي أنتجتها هوليوود. ركّز فيها على كيفيّة تنميط صورة العرب في هذه الافلام. فكانت النتيجة، ان العربي هو ذلك: الارهابي، المحبّ للنساء، الغني، المُبذّر والذي يملك النفط... الخ. ازداد هذا التنميط ضراوة وقساوة على العرب بشكل عام، وعلى الاسلام بشكل خاص، وخصوصا بعد حادث 11 سبتمبر/ أيلول.

فبعد هذه الحادثة، اصبح لدى مؤسّسة الاستشراق التي ترعاها الآن، الولايات المتحدة بدل فرنسا وانجلترا. أمثلة واقعيّة وحيّة عن الصورة النمطيّة للشرق، وللشرقي. فبدل العمل فقط من خلال الفكر، الابحاث والدراسات لزرع صورة الشرق في العقل الغربي. أتى حادث 11 سبتمبر ليُعطي البُعد التطبيقي لما كان نظريّا. ولتكتمل المنظومة في بُعديها، النظري والعملي. من هنا تبدو صعوبة العمل على تغيير ما تمّ تثبيته في الوعي الغربي، إن كان على المدى القريب كما على المدى البعيد. وخوفنا نحن كعرب، هو ليس مما حصل مع أميركا. لا بل، لاننا المقصودون بما تريده أميركا من حربها على الارهاب. ولان أميركا تبدو حاليا، الحَكم والجلاّد. ولا توجد قوّة تردعها. وقد تكتمل المأساة في هذه المعادلة، في ان العرب ليسوا محضّرين حاليّا، وفي كل الابعاد. لا لخوض الحرب السياسيّة مع أميركا و«إسرائيل». ولا لخوض الحربين، العسكريّة والاقتصاديّة كذلك الامر. إذ يكفي أن نراجع تقرير الامم المتحدة عن التنمية البشريّة في العالم العربي، كي نعرف أين نحن. وما هو ترتيبنا في سلّم الدول المتقدّمة. ولنسأل أنفسنا: «ما الثورة التي نحن بحاجة إليها في العالم العربي»؟ وقد يكون الجواب، «ثورة في الشئون الانسانيّة».

في محمّد حسنين هيكل:

صحافيّ، ارتقى السلّم درجة درجة. تحوّل بعدها إلى الكتابة. قلمه لا يجفّ أبدا. فما أن يبدأ برسم اوّل حرف، حتى تكرّ السبحة دون كلل أو ملل. ويعود هذا السبب إلى وسع ما يملك من معلومات لا تنضب. يختلف كثيرا عن المفكّر إدوارد سعيد. فالانطلاقة كانت مختلفة بين الاثنين، كما الوظيفة ايضا. وعذرا على استعمال كلمة وظيفة، فهما شخصان لا حدود لهما. والوظيفة لم تعطهما، او تضيف شيئا على حجم الاثنين. هما اكبر من المكان، هما اكبر من أيّة وظيفة. لكن المشترك بينهما في انهما مثقّفون من الدرجة الممتازة.

ما المثقّف؟

في حلقة دراسيّة اعدّتها جامعة سيّدة اللويزة - لبنان. ركّز المحاضرون على ان الثقافة مرتبطة مباشرة بالحريّة الديمقراطيّة. كذلك الامر، ميّز المحاضرون بين مثقّف السلطةّ، والمثقّف الحرّ. ونفوا، عن مثقّف السلطة، صفة المثقّف. هيكل، وسعيد من مثقّفي السلطة. عندما كانت السلطة حرّة، وشفّافة. وهما خرجا من السلطة. عندما تبدّلت هذه السلطة وأصبحت فاسدة.

يعرّف عرّاب المحافظون الجُدد ارفينغ كريستول المثقّف كالآتي: «المثقّف هو الشخص الذي يستطيع التحدّث والكتابة في كل الموضوعات. فالذي يكتب في مجال اختصاصه فقط، هو ليس مثقفا. لان ما يكتبه هو من ضمن وظيفته الاساسيّة».

اما الرئيس دوايت إيزنهاور فقد عرّف المثقّف كما يأتي: «انّه الرجل الذي يأخذ من الكلمات أكثر مما يلزم، ليعود فيقول أكثر مما يعرف». وقد اتى كلام الرئيس ايزنهاور في ظروف اميركية كان المثقف فيها مكروها، ويُتهم بالشيوعيّة، من قبل السيناتور ماك آرثر.

يختلف سعيد وهيكل عن هذه التوصيفات. فهما كتبا في امور تهمّ العالم، وفي غير اختصاصهما. فسعيد كان قد اتى من مرابع علم اللغّة، ليكتب عن الثقافة والامبرياليّة. وليزيد على الدارسات الاستراتيجيّة، السياسيّة، وعلى نظريّات العلاقات الدوليّة. بُعدا جديدا لفهم الصراعات والمصالح بين الامبراطوريّات، لم يتناوله احد من قبل بهذا العمق. وهيكل، والذي من المفروض كصحافي، ان يكون مجاله أوراق الصحف. خرق هيكل هذا الحاجز، وتعملق بشكل لم يسبقه إليه سوى الصحافي والكاتب الاميركي الشهير والتر ليبمان. تناول هيكل علم السياسة، والاستراتيجيّة. ففي مقال الوداع الطويل. يقول هيكل كيف انه كُلّف بكتابة وثيقة «التوجّه الاستراتيجي»، والتي اعتمدت على كسر نظريّة الأمن الاسرائيلي، لتشعر «إسرائيل» ان درجة معطوبيّتها قد ارتفعت، فتسعى إلى السلم. تدلّ هذه الوثيقة على مقدرة هيكل في الشئون السياسيّة، وعلاقتها بالامور العسكريّة والاستراتيجيّة. أية علاقة السياسة بالقوّة العسكريّة، على غرار ما قاله المفكّر البروسي كلاوزفيتز: «إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى». يدافع هيكل عن الرئيس عبدالناصر، وعن ثورة يوليو. وما يميّزه هنا عن سعيد، في انه كان في قلب مركز القرار، ومؤثّرا فيه حتى. ومن الطبيعي ان يدافع عن الرئيس الراحل. لكن التاريخ والشعوب، لا تحكم عادة على النوايا، لا بل على الافعال. فجيل الثورة اصبح على نهاياته، فهيكل في الثمانين مثلا. والجيل الحالي، وإذا ما اراد الحكم والدفاع عن ثورة يوليو، فهو لا يملك الوقائع والمعطيات الكافية. وإنجازات الثورة ايضا، لم تكن بالمستوى المأمول. والجيل الحالي، لا يعرف، او يتذكّر من الماضي سوى نكسة 5 يونيو/ حزيران. من هنا ضرورة عدم استقالة هيكل من الكتابة، كمرآة لتلك الفترة. وكصلة وصل بينها وبين مرحلة الانهيار العربي الحالي والشامل، والتي تتطلّب تضافر كل الجهود، وخصوصا من اللذين هم من وزن هيكل. في مقاله الأخير، تشعر ان المقال هو ليس للوداع. لا بل هو لمزيد من العطاء. فقد غابت عنه الاجواء الوجدانيّة إلا في مقاطع محدودة. وهو كعادته، يقول لك، ويُخبرك عما يعرف ومن دون توقّف. يتميّز هيكل باناقته الشخصيّة. كذلك الامر في اناقته الكتابيّة. فعندما تقرأه، تقول انه ليس ابن الثمانين. فهو المتأقلم الدائم مع المتطوّرات. وذلك على رغم انه يقول في مقال الوداع، ان التاريخ لا يعيد نفسه مرتين. وهنا قد يتناقض قوله هذا مع ما قاله سعيد في كتابه «الثقافة والامبرياليّة» فيما خصّ الماضي: «هناك سعي للماضي، لتفسير الحاضر... والخلاف هو ليس على ما حصل في الماضي، او ما كان عليه هذا الماضي.. لا بل على عدم اليقين ان الماضي هو ماضي، وما إذا كان هذا الماضي مستمرا في الحاضر، لكن بأوجه وأشكال أخرى».

باختصار، وفي ختام هذا الهامش، يمكننا القول ان الاثنين معا كانا قد اخذا بنصيحة تشرشل للسياسي الشاب انتوني ناتنغ، عندما قصده هذا الاخير لنصيحة تُقدّم له في بداية مشواره السياسي، فقال له: «استغلّ كل طاقتك وإرادتك حتى تقوّي جناحك ليحملك إلى الفضاء العالي، إذ تُحلّق النسور، هناك الحريّة وهناك الخطر. وإذا لم تستطع، فلا تسمح لنفسك تحت اي ظرف بطلب الأمان في قفص ببغاء تنطق برطانة يدربونك عليها. ثم يكون دورك ان تكرّرها وتعيدها كلما مرّوا عليك، وطلبوا منك ان ترقص وتغنّي حتى يراك السيّد». نسران حلّقا. سهام كثيرة صُوّبت نحوهما. واحد سقط لان الله عزّ وجلّ اراد ذلك. والثاني، قرّر الابتعاد عن الاضواء وعن السهام معا. وكم نحن بحاجة الآن في العالم العربي لمثل تلك النسور!

في الختام، وفي ذكرى حرب أكتوبر. فجّرت محامية نفسها في مطعم في حيفا، قتل على اثرها اكثر من 20 شخصا. وقد تدعو هذه المناسبة للسؤال عن سبب قيام هذه المرأة بهذه العمليّة. فهي مثقّفة، متعلّمة، وقرارها قد يكون في قمّة العقلانيّة. وهكذا نوع من العمليّات، لم يعد حِكرا على الرجال، والشباب الفقير، المُعدم. ولا على الايتام الذين فقدوا اهلهم ويريدون الانتقام من الاسرائيليّين. لا بل أصبحت هذه العمليات نمطا من انماط الصراع العُنفي ضد الكيان الصهيوني. وهي أصبحت تتناول كل شرائح المجتمع الفلسطيني. لكن السؤال يبقى، في: هل ستكون هذه العمليات مستمرّة حتى الوصول إلى الحلّ السياسي العادل؟. أم انها وسيلة للفت نظر العالم والعرب للمأساة الفلسطينيّة؟ في الحالين، العالم وأميركا منشغلان في العراق، وبما هو اكبر من القضيّة الفلسطينيّة. اما العرب فلكل منهم همّه الكبير، وخصوصا في داخل كل قطر. لذلك من الاكيد ان نتيجة هذه العمليات سوف لن تأتي بالحل المنشود. كذلك الامر، يبدو انه ليس للفلسطينيين أي سلاح أو حلّ آخر متوفر في الوقت الحالي. فهذه العلميات قد تكون مهمة، إذا ما كانت من ضمن استراتيجيّة كبرى يرعاها كل العرب. لكن الاكيد انها ليست كافية لوحدها، وخصوصا بعد 11 سبتمبر. وفي انتظار اليقظة الكبيرة، سيبقى الدم الفلسطيني يراق دون نتيجة تذكر. اللهم نجِّ أطفال فلسطين

العدد 395 - الأحد 05 أكتوبر 2003م الموافق 08 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً