العدد 406 - الخميس 16 أكتوبر 2003م الموافق 19 شعبان 1424هـ

النجارية... والتوفيق بين المقالات

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حروب التكفير كانت سابقة على الفكر الاسلامي ابتدعتها المعتزلة لشتم المخالفين لافكارها، ثم تطورت وانقلبت عليها وتحولت وسيلة ابتزاز يتراشق بها قادة فرق المعتزلة وشيوخها. هذه البدعة كانت خطيرة. فعلى رغم غلافها الايديولوجي (العقائدي) فإنها كانت تستهدف الطعن بالخصوم من السياسيين وابتزازهم امام السلطة او التشهير بهم امام العامة. وادى تطرف بعض الفرق وجنوح شيوخها نحو الاتهام الفوري لكل مخالف في الرأي إلى إعطاء الخصوم قوة الرد وكادت ان تتحول البدعة إلى سياسة ثابتة في العلاقات المتأزمة بين فلاسفة الفقه (العلماء والائمة والقضاة) وفقهاء الفلسفة (مجموعات متنافرة من ملحدين وغيرهم). إلا ان العلماء والفقهاء والائمة ترددوا كثيرا في استخدام هذا السلاح واحجموا عن تناول المفردة حتى ضد الفريق الذي اضطهدهم وطاردهم وقطع مصادر الرزق عنهم. فالتكفير في الاسلام تهمة خطيرة ولا يجوز شرعا استسهال استخدامها من دون اجماع او صدور حكم شرعي عن محكمة (قاض) شرعية. بالنسبة إلى المعتزلة كانت المسألة مختلفة وكان التكفير وسيلة للارتزاق استسهلت بعض فرقها استخدامها واكثرت منها الى درجة ضايقت شيخ المعتزلة (العلاف) الذي عاش قرابة مئة عام وعاصر كل تلك الفرق والبدع وناله منها ما ناله من ردود وسخرية وتكفير. كذلك تعرض فيلسوف المعتزلة في عصره (النظام) إلى التهمة نفسها وناله من بعض فرق المعتزلة الكثير من الردود والشتائم.

حروب التكفير ليست بعيدة عن السياسة والصراع الذي نشب بين فرق المعتزلة على السلطة وفيها وضدها فاختلطت المسائل وتحولت القضايا الخلافية الى معسكرات تكفيرية اصابت رؤوس المعتزلة كما اصابت الكثير من الائمة والفقهاء والعلماء والقضاة.

في هذا الفضاء المضطرب سياسيا والمشحون بكثرة الصراعات العقائدية ظهرت بعض الحركات الفكرية التوفيقية حاولت الجمع بين الاضداد وربط المشترك بين الفرق لتكوين تيار من المثقفين يتسم بالاعتدال والوسطية، وكان ابرزهم الحسين بن محمد بن النجار.

افكار النجار (النجارية) اثارت الالتباس، فأدى غموض مقولاته إلى اضطراب كتب المقالات والملل والنحل في تحديد هويته وتصنيف افكاره. فهناك من وضعه في صفوف السنة وهناك من قال انه اقرب إلى المعتزلة من السنة (ابن حزم) وهناك من صنفه في معسكر «المجبرة» وهناك من رتبه في جانب «المجبرة» مع ميل واضح إلى المعتزلة.

عموما الاختلاف على هوية النجار وتصنيف مقالاته له ما يبرره ولكنه موضوعيا يعكس فعلا ذاك الاضطراب الذي دخلت فيه فرق المعتزلة وتخابط شيوخها وظهور تلاوين من الاطياف الفكرية التي تجمع بين الالحاد والكفر من جهة والايمان والزهد من جهة. وبينهما ظهرت سلسلة حلقات توفيقية حاولت سلوك طريق التوازن بين المتطرفين فلجأت إلى نوع من التركيب الايديولوجي بين اتجاهات متفرقة فنشأ ما يشبه المدارس الجديدة التي تريد شق طريقها وسط صفوف انتظمت في معسكرات ثابتة لا تتحرك مع تغير الزمن ودلالاته.

النجارية كانت واحدة من تلك المدارس المتخبطة بين انواع من المقالات فاخذت من هذه وتلك وحاولت تركيب مخرج نظري يؤكد على المشترك ويتجاهل نقاط الاختلاف الجوهرية التي تميز هذه الفرقة عن تلك.

عاش الحسين بن محمد بن النجار في فترة بلغت فيها المعتزلة اوج ازدهارها وتمكنت من السيطرة على السلطة والبطش بخصومها العقائديين سواء تلك التي كانت تقول قولها أو تلك التي تخالف مقالاتها.

في هذا الجو من قوة المعتزلة عاش النجار ايامه في الري فكسب بحسب قول الشهرستاني «اكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه» (الملل والنحل، الجزء الاول، ص 88 - 90).

انحياز «معتزلة الري وما حواليها» إلى رأي النجار قد يكون مصدر الالتباس في قراءة مقالاته الا انه ليس كافيا لتفسير اسباب عدم الاتفاق على تصنيف هويته العقائدية. يحاول الشهرستاني البحث عن عناصر ايديولوجية اخرى تساعد في توضيح اللبس. فالشهرستاني ينسب الفرقة إلى الجبرية ويرد على من يرى في النجارية فرقة من المعتزلة لان المعتزلة كما يرى «يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة اثرا في الابداع والإحداث استقلالا جبريا» (الجزء الأول، ص 85).

ولاحظ الشهرستاني ذاك الالتباس حين ذكر ان المصنفين لمقالات الاسلاميين «عدوا النجارية والضرارية من الجبرية». وعلى رغم ميله إلى تصنيف النجار من الجبرية فهناك من يرى انها اقرب فرق المعتزلة إلى السنة، كما ذهب الجرجاني في كتابه «التعريفات» اذ اعتبر النجارية (اصحاب محمد بن الحسين النجار) تتوافق مع أهل السنة «في خلق الأفعال» (ص 307).

وزاد التباس النجارية مقالة قالت بها ما يعرف بالجبرية الخالصة وهي فرقة الجهمية (نسبة إلى جهم بن صفوان) التي وافقت المعتزلة في نفي الصفات الازلية وزادت عليها في اشياء. إلى ذلك وافق جهم المعتزلة في «نفي الرؤية واثبات خالق الكلام، وايجابه المعارف بالعقل قبل ورود السمع» (الشهرستاني، الجزء الأول، ص 88).

ويختلط الأمر نفسه على ابن حزم في كتاب «الفصل» اذ يعتبر النجار انه «كان من جلّة المجبرة ومتكلميهم وله مع النظام مجالس ومناظرات، وله كتب الاستطاعة والارجاء والقضاء والقدر»... والأهم انه اخذ مذهبه عن بشر المريسي وهو من شيوخ المعتزلة وعلى رأس فرقة تقول بالارجاء. والمريسي كما هو معروف تتلمذ واخذ الفقه عن القاضي الحنفي ابي يوسف (صاحب كتاب الخراج).

المريسي إذا من شيوخ المعتزلة تفقه على يد ابي يوسف وهو من كبار قضاة المذهب الحنفي وتلميذ الامام الاعظم (ابوحنيفة). ومن المريسي اخذ النجار افكار المعتزلة على طريقته في الارجاء. انها دائرة واسعة من العلاقات ولكنها في النهاية مترابطة وتكشف عن تلك الملابسات الايديولوجية التي جعلت الامام ابن حزم يضطرب في قراءة نصوص النجار فتارة يصنفه من المجبرة وطورا من المعتزلة... ولكنه من اقرب فرقها إلى أهل السنة هو وبشر بن غياث المريسي وثم اصحاب ضرار بن عمرو.

النجارية إذا فرقة من «المجبرة» واقرب المعتزلة إلى أهل السنة. هذا الاختلاط يوضح مدى قدرة النجار على التوفيق بين مختلف المقالات وتكوين نسيج عقائدي يتألف من خيوط والوان متنوعة. فمهنة النجار هي الحياكة ويبدو انه استفاد كثيرا من اسلوب مهنته في تركيب وتوليف الخيوط لينسج منها صناعة تميزت عن غيرها الا انها تجد ما يشابهها في الصناعات الاخرى.

وبسبب توفيقية النجار تعرض لسلسلة هجمات عقائدية وخاض مناظرات كثيرة مع المعتزلة وضدها ومع المجبرة وضدها وكتب الكثير من المؤلفات وخاض معارك ونقاشات فكرية بسبب قوله: «ان الجسم اعراض مجمعة. والمحدثات قد يجوز ان تعلم وتجهل من وجهين في حال واحدة».

اثارت نظريات النجار المركبة من كل نسيج مجموعة خيوط ردود فعل من مختلف الجهات وخصوصا من قبل فيلسوف المعتزلة في عصره: النظام.

دعاه النظام إلى مناظرة فلسفية فافحمه ووضعه في زاوية صعبة احرجت أصحابه وتلامذته فخرج من مجلس النظام منهارا واصيب بعدها بحمى قاسية ادت إلى موته. وهناك بعض المؤرخين يربط بين موت النجار وتلك المناظرة الحامية مع النظام ويرى انها اسرعت في انهياره ورحيله الذي حصل في سنة 220 هجرية ويقال ايضا في سنة 230هـ (844م).

توفي النجار ولا يعرف على اي مذهب رحل إلا ان مدرسته تفككت بعد غيابه وتبعثرت مقولاته كخيوط النسيج فافترقت «النجارية» إلى عدة فرق بعد اختلافها في مسألة «خلق القرآن» وموضوع «حكم القولين المخالفين».

ومن أشهر الفرق النجارية ثلاث وهي البرغوتية، والزعفرانية، والمستدركة... والثلاث ليست من المعتزلة وكذلك ليست محسوبة على «المجبرة». انها فقط نجارية فهي ليست جبرية بالكامل ولا معتزلة بالخالص. ويمكن اعتبارها مجرد فرق مستقلة تأثرت بالمجبرة وأثرت على بعض فرق المعتزلة. وهي آخر محاولة للتوفيق بين مقالات الاسلاميين... وفي النهاية لم يحالفها النجاح.

آنذاك كان عصر العلاف (شيخ شيوخ المعتزلة) الذي توفي في العام 226هـ (840م). وبوفاته بدأ عصر جديد في حياة المعتزلة وتطورها الايديولوجي ومؤسس فلسفتها في طبعتها الجديدة: ابراهيم النظّام. فالنظّام هو فيلسوف فلاسفتها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 406 - الخميس 16 أكتوبر 2003م الموافق 19 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً