العدد 408 - السبت 18 أكتوبر 2003م الموافق 21 شعبان 1424هـ

أبعد من «العواطفية» وأقل من «الاستراتيجية»

خلفيات زيارة شيراك للمغرب

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

لم يختر الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، مدينة فاس صادفة ليمرر عبرها رسائله الهادفة بكل الاتجاهات، وإفهام من يهمه الأمر والولايات المتحدة في الدرجة الأولى، بأن بلده لن يتنازل مطلقا أمام الضغوط القاضية بتهميش منظمة الأمم المتحدة. فالتورط الأميركي التدريجي والثابت في العراق، كذلك المحاولات الدؤوبة للحصول على مساعدة الدول الداعمة لدور هذه المنظمة وعبرها كلها من العناصر التي تؤكد اليوم أن شيراك كان على صواب بالنسبة إلى موقفه من الحرب العراقية. لذلك، فهو، عبر الزيارة التي قام بها للملكة المغربية، سعى لرفع سقف مطالبه الدولية من جهة، ومن جهة أخرى، محاولة لاستعادة أجزاء من الدور الذي فقدته فرنسا في شمال افريقيا لصالح أميركا.

هذه الأخيرة التي عززت من مواقعها في السنوات الأخيرة بشكل ملفت عبر طرحها مشروع شراكة مغاربية - أميركية عرفت في حينه «مبادرة أيزستات». فالزيارة التي قام بها شيراك لن تكون الوحيدة للمنطقة. ففي مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ستعقد في تونس ولمرة الأولى قمة 55 (دول جنوب وشمال المتوسط) على مستوى القادة، والمتوقع أن يشارك فيها العقيد معمر القذافي، ويلتقي فيها برعاية شيراك كلا من الملك محمد السادس ورئيس الجمهورية الجزائرية، عبدالعزيز بوتفليقة، لذلك، فليس من قبيل الصدفة يعلن الرئيس الفرنسي في مطلع الشهر الجاري إثر لقائه هذا الأخير في باريس، أنه مستعد للعب دور في تقريب وجهات النظر بشأن قضية الصحراء الغربية.

فبعيدا عن العبارات المنمقة، المستخدمة بحسب العادة خلال الزيارات المتكررة للرئيس الفرنسي للمغرب منذ توليه الحكم، مثل «فرنسا هي المصدّر والمستورد الأول من المغرب وأحد أكبر مانحيه ودائنيه»، أو «ان زيارة الرئيس الفرنسي، هي أولا وقبل أي شيء، شاعرية واستراتيجية»، فإن لهذه الزيارة اليوم تفسيرا وأبعادا مختلفة. صحيح أن العواطف والعلاقات الشخصية تلعب دورا إيجابيا أو سلبيا على مستوى التقارب السياسي. إلا أن المصالح الجغراستراتيجية والاقتصادية تبقى العامل الحاسم في نهاية المطاف. ما يعني، أنه على رغم الوفاء المعروف عن الرئيس الفرنسي لحلفائه وأصدقائه، كذلك عواطفه تجاه المغرب، إذ يقضي غالبية إجازاته القصيرة فيه، فإنه يجب ألا ننسى مطلقا أن هذا البلد يشكل حجر زاوية في منطقة شمال افريقيا، لا يمكن إهماله أو تجاوزه بسهولة. وبالتالي، فليس باستطاعة فرنسا استعادة دورها المفقود وتأثيرها السابق من دون مساعدة حليف أثبت صدقيته وثباته كالمغرب في الكثير من المحطات الرئيسية بالنسبة إلى فرنسا. في المقابل، فإن المغرب يبقى بمفرده عاجزا عن مواجهة التحديات المتزايدة المفروضة عليه مع مطلع الألفية الثالثة.

فالتحالف إذن مع شريك كبير كفرنسا، يقع على الضفة الأخرى من المتوسط، يملك المعرفة والتكنولوجيا، وعضو فاعل وأساسي في الاتحاد الأوروبي، أمر لا غنى عنه، وخصوصا أن هذا التوجه من شأنه أن يزيد عرى الصداقة وثوقا.

ضربات معلم

يشار إلى أن العلاقات بين فرنسا والمغرب ليست اليوم في مستوى اختبار النوايا، ولا إيجاد القواسم المشتركة حيال بعض القضايا الدولية والإقليمية، ولا على صعيد حل مشكلات ثنائية عالقة، كما هو الحال مع الجارة الجزائر. فالأمر هو أهم من ذلك بكثير، لأن المطلوب اليوم من قبل باريس، هو نقل المواقف من حال التطابق الكبير إلى التوحد، وخصوصا حيال الاستراتيجيات والسياسات ذات الطابع الدولي. أمر ليس بالسهل على المغرب ومليكه الشاب السير بها نظرا إلى العلاقات الوثيقة والمصالح المتشابكة التي تربطه بالولايات المتحدة، وخصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار التوقيت الدقيق الذي يترافق مع المفاوضات المتعلقة بتوقيع اتفاق التبادل الحر مع واشنطن، المقرر قبل نهاية العام الجاري. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الملك محمد السادس، حريص على تفادي استفزاز الإدارة الأميركية في هذا المرحلة بالذات إذ تصل الحساسيات مع فرنسا أوجها، وتحديدا بعدما عادت واشنطن وحيّدت موقفها نسبيا من «خطة بيكر» القاضية بإجراء استفتاء بشأن الصحراء الغربية يتنافى مع شروط ومطالب المغرب.

وقد جاءت أولى ضربات شيراك السياسية في حديثه إلى الصحافة في مدينة فاس إذ أكد بوضوح تام، ومن دون أي لبس، أن فرنسا هي اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تقف إلى جانب جهود المغرب لإعادة ما تبقى من الصحراء الغربية إلى الوطن الأم برسالة لقيت أصداءها لدى الأوساط الجزائرية «العاقلة» والنافذة في آن معا. إذ ان أحد الكبار المسئولين السابقين من الموجودين على الدوام على الخريطة السياسية - العسكرية، من لمشاركين في صنع القرارات والرؤساء، أشار إلى «الوسط» بقوله: «أعتقد أنه قد حان الوقت الآن لوضع حد لعمليات الهروب إلى الأمام، وإيجاد حلٍ يرضي الاخوة المغاربة ويرضينا، بدلا من أن يفرض علينا هذا الحل يوما من الخارج» مضيفا أن «الرهان على الشركات النفطية والغازية الأميركية لضمان استمرار الوضع القائم، لا يشكل إلى ما لا نهاية، القرار الصائب والحكيم». ومن النقاط الأخرى التي سجلها شيراك خلال زيارته، التأكيد من دون مواربة، على المواقف السابقة بشأن العراق، والذي اعتبر فيها أن الأمم المتحدة هي الوحيدة التي يجب أن تواكب انتقال السيادة والمسئوليات الاقتصادية من قوى التحالف المحتلة إلى العراقيين. بمعنى آخر، يجب على الولايات المتحدة أن تحدد تاريخا لانسحابها العسكري من هذا البلد. وفي سياق الثوابت نفسها، رفض شيراك مبدأ عزل الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، المنتخب ديمقراطيا من قبل شعبه، أو حتى التفكير في نفيه أو المساس بشخصه. كما لم يترك أي جانب يتعلق بالعالم العربي إلا وتناوله. في هذا الإطار، استبق شيراك نتيجة التصويت على قرار «محاسبة سورية» معتبرا اياه غير واقعي، منددا في الوقت نفسه بالضربة الجوية الإسرائيلية لسورية.

فباتخاذه سلسلة المواقف من جملة القضايا التي تمس المغاربة والعالمين العربي والإسلامي، يكون شيراك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد في زيارته هذه، إضافة إلى دخوله قلوب هؤلاء من الباب العريض، بحيث أطلقت عليه بعض الأوساط في فاس والرباط لقب «شيراك العربي»، الذي لم يَحِد قيد أنملة عن الطريق الذي انتهجه أبوه الروحي، الجنرال ديغول. ومن الضربات الأخرى الموجهة، افتتاحه في مدينة طنجة أعمال توسعة المرفأ على المتوسط الذي تقوم بتنفيذه شركة «بويغ» الفرنسية. رسالة في آن معا لكلٍ من أميركا التي تريد أن تجعل من منطقة الشمال المغربي قاعدة مستقبلية لها، وإسبانيا، التي تتقارب حاليا مع المغرب من خلال إزالة نقاط الخلاف السابقة وتقديم تنازلات على أكثر من صعيد. ولم تنظر باريس بعين الرضى لتوقيع اتفاق التنقيب عن النفط في الشريط البحر الممتدة من طنجة إلى العرائش، بين شركة «ريبول» الاسبانية و«المكتب الوطني المغربي للطاقة»، قبل أسبوع واحد من زيارة شيراك، كذلك، إعلان لقاء قمة بين الملك محمد السادس ورئيس الوزراء الإسباني، جوزي ماريا أثنار، في شهر ديسمبر المقبل. وكان الرئيس الفرنسي أصرّ منذ حوالي شهر على إجراء مناورات برية مشتركة مع المغرب على أبواب الصحراء الغربية، تحديدا في منطقة سمارة، المحاذية لمدينة العيون الساحلية. في خضم عملية شد الحبال الدائرة بين واشنطن وباريس في منطقة شمال إفريقيا، يخشى المسئولون المغاربة من أن يدفع بلدهم الثمن ولو جزئيا. لذلك، عُلِمَ أنه فور انتهاء زيارة شيراك، بدأ المسئولون المغاربة محاولات جس النبض الأميركي تمهيدا لاستشراف ردات فعله المرتقبة، ولاسيما أن المقياس سيكون الموقف من الصحراء والمفاوضات التي بدأت منذ أيام من خلال الجولة الخامسة قبل الأخيرة لتوقيع اتفاق التبادل التجاري الحر. وتفيد بعض المصادر الحسنة الاطلاع في الرباط، أن المغرب قد يوفد بعض المبعوثين لواشنطن بهدف شرح تفاصيل الزيارة التي قام بها شيراك، وحرص المغرب على الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لأميركا في المنطقة. كذلك، تجنب الدخول في سياسات المحاور. أيضا، تجديد التزام على الرباط بتنفيذ تعهداتها بمحاربة الارهاب الدولي وزيادة التنسيق بين أجهزتها الأمنية والـ «اف. بي. آي»، الذي أثبت فعاليته وجدواه في الأشهر العشرة الماضية.

الورقة الأوروبية

خلال اجتماعه بالعاهل المغربي، أكد شيراك ضرورة جعل المجال اليورو - متوسطي نقطة انطلاق للسلام والازدهار في المنطقة، مشيرا إلى أنه سيبذل قصارى جهده لدفع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى إلى اتخاذ مواقف قوية من مصالح المغرب الذي يجب أن يصبح حجر الزاوية لهذا المجال. كما أقر الرئيس الفرنسي بالتقصير الأوروبي تجاه المملكة، معتبرا أن التزامات الاتحاد الأوروبي تجاهها لايزال حتى الساعة دون الإمكانات والفرص المتاحة.

من ناحية أخرى أوضح الرئيس الفرنسي لمستضيفيه أن باريس ترغب، عدا العلاقات الثنائية المتميزة، في أن يلعب المغرب دور الرديف الأكثر نشاطا في منطقة «الشرق الأوسط» وافريقيا. لكن المغرب يقرأ هذا التصور بشكل مختلف كونه يفضل ألا يضع نفسه بين مطرقة أوروبا وسندان أميركا، التي تسعى منذ نهاية عهد كلينتون لإحداث اختراقات مهمة على مستوى افريقيا، لا يمكن للمغرب أن يلعب دورا معوقا لها بأي شكل من الأشكال. لكن فرنسا، تراهن على بطء توسع رقعة الاستثمارات الأميركية في المغرب التي تبقى دون الطموحات السياسية، حتى لو انتقلت في سنوات قليلة جدا من ثلاثة ملايين دولار إلى نحو عشرين مليونا. فعدا مساهمة احدى شركاتها «سي. إم. إس»، إلى جانب العملاق السويدي - السويسري «آي. بي. بي»، في بناء المحطة الحرارية في منطقة الجرف الأصغر، والاتفاق الحاصل بين الخطوط الملكية المغربية و«بوينغ» فإن التجارة الخارجية بين البلدين لم تكن يوما في الموعد المنشود. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة هي المنافس الرئيسي للمغرب في مجال صادرات الفوسفات ومشتقاته، التي تعتبر احدى العوائد الرئيسية للبلاد من العملات الأجنبية. يذكر على سبيل المقارنة، أن ثلثي مبادلات المغرب الخارجية تتم مع الاتحاد الأوروبي نظرا إلى القرب الجغرافي.

ويراهن الفرنسيون كذلك، على كون المغرب لا يشكل أولوية في نظر البيت الأبيض مثل مصر والأردن و«إسرائيل» الذين يحصلون على المساعدات والقروض التجارية والعسكرية ببلايين الدولارات سنويا في حين لا يحصل المغرب على شيء تقريبا، سوى بعض الدعم للبرامج التنموية ومساندته في تخفيض ضغوط صندوق النقد الدولي، وبعض المؤسسات المالية الأخرى. لكن فرنسا تتخوف من جانب آخر من تسجيل الولايات المتحدة الكثير من النقاط، ولاسيما في مجال التعليم، وخصوصا بعد نشوء «جامعة الأخوين» التي تدرس البرامج الأميركية في الوقت الذي لم تنشئ فرنسا جامعة في هذا البلد الذي استعمرته عشرات السنين. كما تخشى من النمو الفاعل للوبي المؤيد لأميركا في أوساط عدة، مالية وسياسية، يمكن أن يكبر ككرة الثلج في حال لم تتمكن فرنسا من تنفيذ الوعود التي قطعتها للمغرب. على أية حال، يمكن القول إن زيارة شيراك فعلت فعلها في المغرب على الأصعدة كافة. كما نشطت اللوبي المؤيد لفرنسا، الذي خسر بعض مواقفه في الأعوام الأخيرة. ويرى المراقبون أن الزيارات الأخرى المقررة لكل من تونس والجزائر في الأشهر المقبلة، ستعطي صورة واضحة عن التقدم الذي أحرزته فرنسا بالنسبة إلى استعادة أجزاء من دورها المفقود. بالانتظار، فإن مراقبة التحرك الأميركي في منطقة شمال افريقيا ستكون مؤشرا على ذلك

العدد 408 - السبت 18 أكتوبر 2003م الموافق 21 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً