العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ

عقدة الآخر... التسعينيون نموذجا (1)

على ما يبدو، فإن مفارقة البعض صورته النمطية التي رسمها لذاته في أيام الستينيات والسبعينيات، قد أحدثت أثرا عكسيّا في نفسيته المبتلاة بعقدها الخاصة التي قيّض لها أن تتناسل في ظلّ صمت متعالٍ عن مناكفات لا تريد لقادمين مختلفين أن يتنفّسوا في فضاءاتِ حريةٍ كان هذا البعض هو من يتباكى عليها طيلة سنوات وسنوات من الكتابة الواهمة المليئة بالدعاوى الفارغة/ المفرّغة من مضمونها التاريخي.

ومن المضحك المبكي أنّ هؤلاء الواهمين لا يزالون يحسبون أنّ التاريخ قد توقف عندهم هم فقط...

هم شخوصا،

وهم أيديولوجيا،

وهم إبداعا،

وهم نضالا وطنيّا،

بلى... هم كل ذلك، وسواه؛ ممّا يحتّم على الجميع أن يقدِّم فروض الطاعة والولاء لهم كي يمنحوه صكّ الغفران والدخول في «جنّتهم» التي غادروها منذ زمن طويل مع مغادرة الصيغة الأولى للذّوات التي أثبَتَت أنّها جديرة بأن توسم بأنّها ذوات «متحوِّلة». على أن مغادرة «الجنة» التي سوّلت لهم أنفسهم الوقوع في مكائد أخطائها، لم تؤدِّ قط إلى النزول بهم من «الوهم» إلى الأرض توبيخا وتأديبا وتربية للنفس المبتلاة بالنظر في ذاتها. وتلك مسألة أخرى، نتركها إلى وقتها.

ها هو الصوت النشاز المحيَّر لا يزال ماكثا في مستنقع الرؤية بين ما يريده من جهة، وما هو واقع في حبائله من جهة نقيضة. وليس أدلّ على ذلك من الكلمات التي كتبها علي الشرقاوي بمناسبة مرور أربعين عاما على تأسيس أسرة الأدباء والكتّاب.

ولك أن تصدِّق، أيها القارئ العزيز، فأنا أتكلّم عن أسرة الأدباء والكتّاب، التي بما هي «أسرة» فإنها - حتما - تتضمن المختلفين بل والمتناقضين.

ليس لنا، هنا، أن نبحث عن الانسجام؛ فقد تمّت مغادرته منذ سبعينيات القرن المنصرم. كما وقد تمّ إغلاق الأبواب، وقفلها بأقفال حديدية منذ الثمانينيات المجيدة. ولنا في «كلمات» عبرة، وأيّ عبرة!

الأمر الغريب حقّا، هو أن يرمي علي الشرقاوي الآخرين بما هم بريئون منه براءة الذئب من دم يوسف؛ ليكون حاله كحال «مَنْ رمتني بدائها وانسلّت». ويبقى الأمر في درجته القصوى من الغرابة والدهشة، في هذه الروح الثأرية الاستئصالية التي تسيل من شقوق كلماته وعباراته كلّما تعرّض لما يُسمّى بـ «جيل التسعينيات» لدينا هنا في البحرين.

لن نستغرب لو أن الشرقاوي قد دلّل على ما يذهب إليه بصورة علمية صارمة؛ ولكنْ، لنا أن نتوقف ونسخر من كلمات تتهم الآخرين، وتعمل بجرّة قلم... هكذا!... على إقصائهم، مرة واحدة، وإلى الأبد من لوح الذاكرة الأدبية، بحيث أن الكلّ ليس إلا (تجارب ضعيفة)، كما يقول.

ولجعل الأمور أكثر تحديدا، يمكن لنا أن نشير إلى العلّة التي تجعل علي الشرقاوي يقول ما قاله. فقد أشار إلى الفترة التي أعقبت صدور عدد كلمات المكرّس لإدانة احتلال صدام للكويت، حيث إنه (بعد فترة قصيرة من هذا الموضوع، وصدور أكثر من عدد من مجلة «كلمات» ومجموعة إصدارات: «كتاب كلمات» وتحوّل الشارع السياسي إلى مستنقع لا تتحرّك فيه «غير بيوض الماضي» - وجدت بعض الأصوات الفاعلة، ?أنها أنجزت مشروعها الأدبي، في إدارة الأسرة وإدارة مجلة «كلمات»، ولم يعد بالإمكان إضافة الجديد إلى هذا المشروع الذي وصل إلى نهايته، فابتعدت تاركة الطريق لجيل آخر ليبدأ مشروعه الخاص به). إن العبارة السابقة على درجة من الأهمية؛ إذ إنها تكشف لنا عن الجرثومة التي منها تكوّنت عقيدة الشرقاوي فعُقْدته. وكان، بها، يحاكم كلّ ما حوله، ومَنْ حوله، سواء أكانوا مجايلين له أم لاحقين. وأنا أشير بهذا الكلام إلى ما يمكنني أن أطلق عليه، في هذا السياق، عقدة الآخر.

إن شخصية الشرقاوي - بحسب طبيعة تكوينها - تميل إلى رفض الآخر، مهما يكن. ولذلك، فإنه يمارس عدة أساليب للتعبير عن هذه النزعة. وفي هذا المقام، كان يشير بقوله «تحوُّل الشارع السياسي إلى مستنقع لا تتحرّك فيه غير بيوض الماضي» إلى الحالة المطلبية في البحرين، والتي تمثّلت في لجنة العريضة الشعبية، وكانت قوى المعارضة جميعا مشتركة في صياغتها. على أنّ حضور التيار الديني فيها كان الحضور الأبرز، بسبب من هيمنته المطلقة تقريبا على الشارع. وفيما كان علي الشرقاوي - بحسب المفروض - منتميا إلى التيار الديمقراطي ممثلا في الجبهة الشعبية، إلاّ أنه من الواضح عدم الالتزام في كلامه هذا بمرئيّاتها. ولم يكن ما كتبه الشرقاوي، إذا، من منطلق الحرص على انتمائه الحزبي؛ فقد تمّت مغادرته من قبل بمدة مديدة. إن علي الشرقاوي، إنما يستجير هنا بانتمائه الحزبي السابق. فيقوم بمصادرة مضاعفة لتاريخ الانتماء، عبر تعليق الأمر في تحوّلاته الشخصانية بأسرة الأدباء والكتّاب، في محاولة تعويضية عمّا فاته من نعمة البقاء في «جنّة الحزب». إن إلصاق صفة «المستنقع» بـ «تحوُّل» الشارع السياسي، كان المظهر الأبرز الذي يدمج العقدة المتضخمة لديه، فتتحوّل غضبا عارما من الذّات التي لم تكن بحجم ما تريده هي لنفسها. وإذ لا تمتلك هذه الذات شجاعة كافية لمعاينة صورتها في مرآة تحوّلاتها، فإنها تستمرئ البقاء في أسر طقوس الإقصاء بأشكاله المختلفة، منذ تاريخها المعلن بأسرة الأدباء والكتّاب نهاية ستينيات القرن العشرين. لتكون الأسرة - بحسب المطلوب - صورة تعويضية عنه هو، وفقط. ولذلك، فالتاريخ متوقف عند عتبة الذّات. ومؤشِّر كينونة الأشياء في العالم لا يشير إلاّ إلى جهة واحدة، هي الصورة التي يتمنى معاينتَها في المرآة. وليس الصورة الحقيقية التي تشاهدها الذوات الأخرى.

إن الممارسة الإقصائية التي نشير إليها، هنا، تقع على أمثلة أخرى. وهي أمثلة على القمع الممارَس بحق المشابِه والنظير، هذه المرّة. ولنا، هنا، ألاّ نتلقّى ما قدّمه في بداية ما كتبه عن كون تأسيس الأسرة ضرورة لإيجاد (كيان أدبي، يجمع الأفراد المبعثرين على خريطة البحرين من أدباء وكتاب، من شتى الاتجاهات والتيارات السياسية التي كانت في قلوب وأحلام الجسد الثقافي) إلا باعتباره تقديما منقوضا بما تلاه من كلام واستدلالات، وهذا ما سنراه فيما يلي:

يقول الشرقاوي، مشيرا إلى ردة فعل جهاز المخابرات على التجاوب الجماهيري مع فعاليات أسرة الأدباء في بداية سنوات التأسيس (كل ذلك جعل المخابرات تتوقف أمام هذه الروح الجديدة وتبدأ في اعتبار أسرة الأدباء والكتاب جناحا ثقافيا لتنظيم سياسي، ولأن الجبهة الشعبية كانت وليدة في نفس الفترة تقريبا، لذلك ألصقت الأسرة بالجبهة الشعبية. ولانتماء بعض أعضاء الأسرة للجبهة الشعبية «قاسم حداد - علي الشرقاوي» اعتبرت الحركة الوطنية البحرينية وبعض القطاع الطلابي أن الأسرة هي الجناح الثقافي للجبهة الوطنية). وكلام الشرقاوي السابق مليء بالمغالطات. فمع اقتناعنا بأن المخابرات كانت تعتبر أسرة الأدباء والكتاب متصلة - بصورة أو بأخرى - بالتنظيمات السياسية، إلاّ أنّ قصر الأمر على الانتماء للجبهة الشعبية فيه مصادرة كبيرة للتاريخ الوطني والإبداعي. أمّا إطلاق العبارة بصياغة تقفز على حساسية القارئ، ففيه ما فيه من الاستخفاف به. وقد لجأ علي الشرقاوي إلى إجراءات نصية/ خطابيّة لحمل القارئ على التصديق بزعمه هذا. ولنا أن نستعرضها بصورة مختصرة، فيما يلي:

أولا: تعليق تهمة ارتباط أسرة الأدباء والكتاب بالجبهة الشعبية بموضوعة «التزامن» في ولادة المشروعين، من خلال قوله (ولأن الجبهة الشعبية كانت وليدة في نفس الفترة تقريبا).

ثانيا: اللجوء إلى صيغة المبني للمجهول بعد سَوْق العبارة السابقة، حيث (لذلك ألصقت الأسرة بالجبهة الشعبية).

ثالثا: تركيزه على انتماء بعض الأعضاء التنظيمي، بقوله (ولانتماء بعض أعضاء الأسرة للجبهة الشعبية «قاسم حداد - علي الشرقاوي» اعتبرت الحركة الوطنية البحرينية وبعض القطاع الطلابي أن الأسرة هي الجناح الثقافي للجبهة الوطنية).

بتحليل كلام الشرقاوي السابق، نجد أنه يميل إلى التركيز الحاد والمباشر على ارتباط أسرة الأدباء بالجبهة الشعبية. وفيما كان هذا التركيز يتطور وينمو، فإنه يحاول أن يُلقي في روع المتلقِّي من خلال التدليل بالأمثلة «قاسم حداد/ علي الشرقاوي»، على أنّ الفاعلية الإبداعية الحقيقية إنما هي في الاسمين المشار إليهما فقط، مع تهميش غير مباشر للأسماء الأخرى؛ إلاّ أنّ تهميش الأسماء الأخرى يتأتّى، هذه المرة، من خلال تهميش الانتماء التنظيمي. هنا، علينا أن نتذكّر انتماءاتٍ متعددة كانت تزخر بها أسرة الأدباء والكتاب، لعل أبرزها الانتماء إلى جبهة التحرير (عبدالله خليفة «الروائي» - علي عبدالله خليفة «الشاعر» - سعيد العويناتي - عبدالحميد القائد - حمدة خميس). وهناك انتصار للتوجه القومي (علوي الهاشمي - أحمد المناعي). وهناك مستقلّون (إبراهيم غلوم - إبراهيم بوهندي - أمين صالح - عبدالقادر عقيل)، ونستدرك على وجود المستقلّين بأنهم - وإن كانوا مستقلّين «غير منظّمين حزبيّا» - إلاّ أنّ لهم تعاطفا مع هذا التنظيم السياسي أو ذاك.

سيأخذ التجاوز الذي يرتكبه الشرقاوي بالمتلقِّي إلى تشويش متعمّد في زاوية الرؤية، كما سيؤدي إلى مصادرة التاريخ لصالح توجّه مخصوص؛ ومنه لصالح أسماء مخصوصة، هي من تَمَّ ذكرُها. ويتصاعد المدَّعي الشرقاوي بالعبارة التي استشهدنا بها في «ثالثا»، والتي تؤكِّد على أنّه بسبب من انتماء (قاسم - الشرقاوي)، فإنّ «الحركة الوطنية» وبعضا من القطاع الطلابي قد ذهبا إلى اعتبار الأسرة هي الجناح الثقافي للحركة الوطنية. وعلينا ألاّ نُخدَع من محاولته ستر مقصده الأصلي حينما أتى على ذكر اسم «الحركة الوطنية»؛ إذ إن استشهاده باسمين فقط، وهما منتميان إلى الجبهة الشعبية، إنما كان يمحو الأسماء الأخرى في الوقت نفسه الذي يمحو فيه الانتماءات الأخرى. وفي ذلك ما فيه من قفز على انتماءات الأعضاء الآخرين من الرعيل الأوّل الفاعل. وهم، ليسوا بالضرورة منتمين إلى الجبهة الشعبية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ هذا الطرح يقوم بالمصادرة على الأعضاء الآخرين أدبيّا، من خلال تغييبهم المتعمّد عن لحظة الفعل.

تشير المعاينة السابقة إلى أنّ الشرقاوي كان ملتفتا إلى ما يقوم به بصورة تامة. ولم يكن الأمر في خانة عدم الالتفات أو الغفلة أبدا. وهذا يتأكّد من خلال الحكم الحادّ الذي أطلقه، دون أدنى مراعاة للحقائق التاريخية، بأنّ الأسرة كانت محسوبة على الجبهة الشعبية. وللقارئ المتأمل أن يشكِّك كثيرا في هذا الزعم الذي يطلقه الشرقاوي. ولا أظنّ أنّ الرعيل الأول من أعضاء الأسرة المحسوبين على الانتماءات الأخرى يوافقون على هذا الطرح.

هنا، من حقّنا أن نطالب الشرقاوي بإثبات مدّعاه هذا، من خلال الوثائق. فنكون أمام عدة احتمالات، وبينها احتمال واحد فقط يثبت به مدّعى الشرقاوي، ويتمثّل هذا الاحتمال بأنْ تكون أسرة الأدباء قد أُلصقت بها تهمة الارتباط بالجبهة الشعبية، وفقط. وهذا الأمر نقوله طلبا لإنصاف الحقائق والتاريخ وسائر قوى الحركة الوطنية في البحرين.

سنكتفي، في هذا الجزء من معاينتنا، بهذا القدر. على أننا سنقوم في الجزء القادم من معاينتنا بتحليل مقاربة علي الشرقاوي لما يُسمّى بجيل التسعينيات.

العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً