العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ

انتصار المقاومة... بين الدعم والمحاربة

تعني المقاومة في اللغة السياسية رفض الانصياع للاحتلال ومواجهته بكل الوسائل المتاحة، فهناك مقاومة عسكرية وأخرى سياسية واقتصادية وشعبية وإعلامية وأيضا نفسية.

والمقاومة نتيجة طبيعية لوجود الاحتلال، وقد شرعت كل القوانين الدولية مقاومة المحتل حيث وجد، ولذلك عرف التاريخ نماذج متعددة للمقاومة في مختلف أنحاء العالم، بل قد لا تخلو دولة في التاريخ الحديث إلا وعرفت نموذجا لمقاومة المحتل، فالشعب القبرصي قاوم الاستعمار البريطاني إلى أن حصل على استقلاله في ستينيات القرن الماضي، وواجه نظام التمييز العنصري مقاومة عنيفة من السود في جنوب أفريقيا انتهى بتحررهم أواخر ثمانينيات القرن الماضي. أما فيتنام فقد قاومت المحتل الأميركي بشراسة لسنوات كثيرة وهزمته شر هزيمة العام 1970، وأصبحت حرب فيتنام لعنة تلاحق أميركا في كل حروبها، ولم يكن عالمنا العربي بمنأى عن هذه النماذج، فالجزائر والتي قدمت مليون شهيد أصبحت رمزا من رموز المقاومة العربية.

ومنذ قرار التقسيم العام 1947 شهدت فلسطين صعود أشكال شتى من المقاومة ومن كل الأطياف والتيارات، وكانت تقابل كل مجزرة أو مذبحة ترتكبها «إسرائيل» بصعود مقاومة جديدة تنضم إلى باقي التيارات. حماس حركة المقاومة الإسلامية والتي أسسها الشيخ أحمد ياسين رحمه الله أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987 لاقت مواجهة حادة ومطبات عدة ليس من المحتل الغاصب فحسب، بل ومن تيار مضاد في حركة فتح والتي ترأسها المرحوم ياسر عرفات وأدخل الكثير من قياداتها في السجن أبرزهم الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي وغيره من رموز الحركة، وعلى رغم هذه المواجهة ظلت المقاومة في فكر ووجدان عرفات رقما صعبا لم يتجاوزه. وقد لاقى هجوما حادا وتخوينا وطنيا إثر اتفاقات أوسلو في 1993. كما مر بعثرات سياسية كبيرة حتى كامب ديفيد (2) التي جمعته بإيهود باراك رئيس وزراء «إسرائيل» آنذاك والتي رفض فيها تقديم تنازلات بخصوص القدس وحق العودة والقضاء على حماس وما تلاها من انتفاضة الأقصى التي حدثت إثر اقتحام شارون المسجد

الأقصى العام 2000 فعادت شعبيته للارتفاع خاصة بعد محاصرته في المقاطعة برام الله سنة 2002 المهم أنه على رغم الضغوطات فإن عرفات رفض رفضا قاطعا المواجهة مع حماس، وكان كلما التقى مؤسسها ورمزها الشيخ ياسين كان يقبله على جبينه إجلالا وتقديرا يعكس في نفس الرجل إقراره لخط المقاومة وإن انتهج طريقا آخر.

ومع ما جلبت أوسلو من مصائب للشعب الفلسطيني وحركاته التحررية لم نشهد عداء جوبهت به حركات المقاومة كما نشهده الآن ليس فقط فلسطينيا، بل وعربيا أيضا ناهيك عن محاربتها دوليا. منذ أن فازت حماس بالانتخابات التشريعية في صيف 2006 حوصرت فلسطينيا وعربيا ودوليا. ورفضت جل الدول العربية استقبال ممثليها أو مساعدتهم، بل وحاصرتهم ماليا واقتصاديا وسياسيا ثم حدثت مواجهات مسلحة بين حركة فتح المتمركزة في رام الله وحركة حماس المتواجدة في قطاع غزة أدت إلى مقتل العشرات ما أدى إلى نزول أسهم الحركتين عربيا على المستوى الشعبي وخاصة بعد انهيار اتفاق مكة والمواجهة العنيفة التي حدثت في قطاع غزة والتي انتهت بطرد ممثلي فتح واستخباراتها التابعة لمحمد دحلان من القطاع. ومنذ ذلك الوقت اشتد الحصار على غزة وأغلقت المعابر التي تسيطر عليها مصر و»إسرائيل» وازدادت معاناة الشعب الفلسطيني في غزة وكانت الأوضاع تنذر بكارثة إنسانية قبيل العدوان الإسرائيلي.

ليست المشكلة الوحيدة في حماس بالنسبة لأعدائها أنها تنتهج نهجا إسلاميا فحسب، بل وأنها لا تقبل بغير المقاومة بديلا لإنهاء الاحتلال. فتح وتحت سلطة عباس أخرجت هذا الخيار نهائيا من حساباتها السياسية وهي مستعدة للقبول بأي ثمن والتنازل عن أي حق مقابل هذا الخيار. ولذلك كان طبيعيا أن نجد عباس ينبذ المقاومة ويرى فيها لعنة تمحق الشعب الفلسطيني.

ولكن السؤال الآن لم هذا العداء بين الحركة والأنظمة العربية. والحقيقة أن (انتصارها) يعني انتصار مفهوم المقاومة، وهذا الانتصار على العدو في الخارج يعني أيضا التفاف الناس حول مفهوم المقاومة، ومحاربتها لعدو الداخل المتمثل في احتكار السلطة والفساد وسوء الإدارة وتفشي الفقر والظلم وغيرها من الأوبئة المنتشرة في العالم العربي. كما أن انتصارها يعني اعتناق الكثيرين لأيديولوجيا الفكر المقاوم سياسيا ودينيا واجتماعيا أيضا. وهذا أخطر سلاح من وجهة نظر الأنظمة الاستبدادية.

إذن لا يوجد مانع من وجود مقاومة هزيلة ضعيفة ليس لها نفوذ كما أُريد أن يُفعل مع حزب الله الذي قيد بالتزامات إقليمية وتعهدات محلية تحد من حريته في المواجهة وفي إقحامه بالمعادلة السياسية.

هذا ما يؤكد أن الخطر الأكبر هو في انتصار المقاومة، لذا لا تجد الأنظمة مانعا من الاعتراف بوجود أبجديات المقاومة شرط ألا تكون قوية أو فاعلة.

الآن، انتصرت المقاومة في غزة، ولأننا نعرف أن إيقاف النار من جانب واحد وبلا شروط في اللغة الإستراتيجية السياسية يعني العجز عن بلوغ الأهداف وفق الثمن المقدر فإن أية محاولة لتهميش أو تزييف الحقائق لن يغير من ثقتنا وتأكيدنا على النصر الذي حققته المقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني في غزة.

ولكن على حماس والحركات الأخرى أن تحافظ على هذا النصر وأن تواجه تحديات المرحلة القادمة بحذر وحنكة كما فعلت أثناء العدوان، لأن هذه المرحلة لا تقل خطورة عن العدوان الوحشي الأخير. أمام حماس تحديان كبيران، الأول أن تستخدم الدول المناهضة للمقاومة (إعمار غزة) ورقة ضاغطة إذ تصر هذه الدول أن تعطي بند (المصالحة الفلسطينية الفلسطينية) الأولوية ليتسنى لها كما تقول أن تعيد إعمار غزة من خلال كسر الحصار وفتح المعابر والأهم دخول السلطة (الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني كما تقول) للإشراف على عملية البناء وغيرها من التزامات وتبعات الإعمار بما يصعب على حماس أن تتصرف بآلياتها الحالية وسط رفض دولي للاعتراف بشرعيتها ومن ثم فرض الشروط المصرية وهي الوسيط الوحيد للمصالحة كما أريد لها في قمة الكويت. وأي تعطيل من حماس يعني أنها تقف عائقا بينها وبين المنكوبين في غزة وهذا بدوره يعني تجريمها أمام الرأي العام العربي الذي أسقط حركة فتح شعبيا بسبب موقفها المبرر للعدوان.

أما الخيار الثاني فهو موافقة حماس على تمرير بعض الشروط المصرية (الإسرائيلية) حتى لا تكون عائقا أمام المساعدات الإنسانية وعلى فرض إقامة حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني كما يريد لها عباس ثم فتح المعابر وفك الحصار فهذا يعني عودة عناصر جديدة من فتح وغيرها من مؤيدي (التسوية) إلى غزة بما يعني إعادة الجواسيس واختراق الصف الفلسطيني مجددا ومن ثم تنفيذ عمليات اغتيال من جهة ومراقبة بناء الأنفاق وتطوير التسلح الفلسطيني عن قرب وافتعال الأزمات بين الحين والآخر حتى يتم ضرب الأنفاق أو أماكن التسلح بين الحين والآخر بخروقات إسرائيلية تقابل بالشجب والتنديد ومن ثم إبقاء حماس ضعيفة من جهة وتحت المراقبة من جهة أخرى.

هذان التحديان يجب أن تواجهها حماس وباقي الفصائل الفلسطينية بحذر وروية، وعليها أن تتأنى في تصريحاتها وقراراتها حتى لا تنزلق مرة أخرى بمواجهات تسقط انتصارها الجبار في عدوان «إسرائيل» الأخير.

وبقدر ما نشعر بالقلق لحساسية هذه المرحلة ودقتها فإننا واثقون أن حماس ومعها فصائل المقاومة التي وحدت جهودها في الميدان ستتجاوز هذه التحديات وستثبت للرأي العام العربي والعالمي الذي تعاطف معها أنها كما انتصرت بجدارة في الميدان العسكري فلن تقل حنكتها السياسية لتجاوز هذه الصعاب وإثبات أن المقاومة مهما أوذيت أو حوصرت أو حوربت فالنصر سيكون حليفها ولو بعد حين.

*كاتبة عربية

العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً