العدد 425 - الثلثاء 04 نوفمبر 2003م الموافق 09 رمضان 1424هـ

النزعة الاستقلالية والظلم التاريخي يقربان الباسك من العرب (2)

بلد الباسك الإقليم العصي على الغزاة

المصطفى العسري comments [at] alwasatnews.com

في أقصى شمال شبه الجزيرة الأيبيرية تتربع أم المشكلات الاسبانية: «إقليم بلاد الباسك». وظل مطلب الاستقلال والانفصال المطلب التاريخي للقوميين هناك لقرون، باعتبار أن بلاد الباسك لم تكن يوما ما جزءا من إسبانيا وفرنسا وهو ما تشهد به اللغة والعادات الاجتماعية، فضلا عن أن أهل الباسك لا يؤمنون بشيء اسمه «إسبانيا»، على أساس أن مملكة القشتاليين «مدريد وضواحيها» أجبرت باقي القوميات على الدخول تحت عباءتها.

إرث تاريخي، ومتغيرات اقتصادية زادت من حدة المطالبة بالاستقلال والانفصال عند الباسكيين الذين تقودهم مليشيات حركة «إيتا» الذراع العسكري لحزب باتاسونا، الذي حلته الحكومة الإسبانية وتابعت قادته بالإرهاب. «الوسط» تواصل جولتها داخل الإقليم.

هذه بلباو العاصمة

تزامن دخولنا بلباو مع احتفالات سكان المدينة بأحد أعيادهم الدينية، إذ شهدت حديقتها العامة الرئيسية طيلة ثلاثة أيام حفلات راقصة تخللها تقديم وجبات من اللحوم الحمراء المشوية، غالبيتها لحوم خنازير، بالإضافة إلى الأسماك. هذه الاحتفالات كانت فرصة لنا للتسلل داخل المجتمع الباسكي ليمكن التعرف عليه عن قرب.

خلافا للسكان الشماليين في إسبانيا، سواء وسط إسبانيا كالعاصمة مدريد وضواحيها، أو تلك المناطق الواقعة في إقليم كتالونيا والتي تشبه حياتها إلى حد بعيد الحياة الأوروبية وما يوازي ذلك من انعدام الحياة الاجتماعية، واحتقار الغرباء وخصوصا من ذوي السحنات السمراء، فإن سكان إقليم الباسك يتميزون بالعلاقات الاجتماعية الوثيقة، فتجد التجمعات في الشوارع والمقاهي والساحات العامة، فسرعان ما تجدهم يندمجون في التعامل مع الغرباء وخصوصا العرب منهم على خلاف غالبية الأسبان، الذين يتذوقون بدورهم التمييز العنصري من قبل الباسكيين الذين ينظرون إليهم في غالبية الأحيان نظرات ملؤها الازدراء والاحتقار.

تقع بلباو في أقصى الشمال الاسباني، يحدها من جهة الشمال الغربي خليج كانتابريا، ومن الشمال جبال البريني أو البرانس التي تفصل الباسك الاسباني عن الباسك الفرنسي، وتعتبر بلباو - وفقا للتسمية الاسبانية، وبلبو وفقا للتسمية الباسكية - عاصمة إقليم الباسك وكبرى مدنه. وبالإضافة إلى دورها السياسي، تلعب دورا اقتصاديا كبيرا في الإقليم وفي الشمال الإسباني عموما، إذ تحتوي على الكثير من المنشآت الصناعية والتجارية. وتتميز بلباو على غرار باقي المدن والبلدات الباسكية ببناياتها الحمراء الجميلة، إضافة إلى نهرها «نرناخي» الذي يفصلها إلى شطرين، والذي يعتبر أحد أبرز الممرات المائية في الإقليم بصلاحيته للملاحة ما جعلها تحتوي على ميناء نهري.

وأثناء تجوالك في المدينة، وخصوصا في ساعات الصباح الأولى، تكتشف مدى حيوية المجتمع الباسكي، إذ تجد سكان الإقليم من عمال وموظفين وتلاميذ كأنهم نهر متدفق يسير في اتجاه واحد صوب أعمالهم، وهذا ما يميز مثلا السكان الباسك إذا ما قورنوا بالسكان الأندلسيين المتميزين بكسلهم وحبهم للحفلات الراقصة والليالي الساهرة.

ملامح النزعة الاستقلالية

خلال تجوال المرء في شوارع بلباو أو سان سبايستيان أو فيتوريا، تجد اللباس الطاغي عند الشباب الباسكي هو الألوان المميزة لنادي الإقليم «بلباو» والمتميز بخطوطه «الحمراء والبيضاء» أو «الزرقاء والبيضاء»، حتى انهم يعتبرون المباريات التي يجريها فريقهم ضد الأندية الاسبانية ضمن «لاليغا» بمثابة معارك ثأرية، كما تمتلئ المقاهي والحانات بالاعلام الباسكية الصغيرة المعلقة هنا وهناك. بالإضافة إلى ذلك فإن المرء يحسب نفسه وهو يتجول في شوارع مدن الإقليم محل النزاع كأنه في إحدى المدن الفلسطينية أو العراقية، إذ تمتلئ جدران الشوارع بالشعارات المعادية «للاحتلال الإسباني»، والمؤيدة لحركة «إيتا» الاستقلالية. بالإضافة إلى ذلك فواجهات المنشآت الاقتصادية الاسبانية من مصارف ومتاجر ، تتعرض هي الأخرى لهجمات «شعارية» مكتوبة من قبل المتعاطفين مع «إيتا». فيما تعمل القنوات الإذاعية والتلفزيونية على تهميش اللغة والثقافة الاسبانية مع سبق الإصرار، خلافا لباقي المقاطعات المكونة للاتحاد الإسباني.

وعلى ذكر اللغة، فإن الاختلاف الكبير بين اللغتين الإسبانية والباسكية، انعكس بدوره على أسماء المدن، فتجد اللافتات وعلامات الطرق تحمل أسماء المدن باللغتين، كما أن هذه الأسماء تختلف من حيث المعنى.

فبلباو تكتب بالإسبانية BIBAO ، وبالباسكية BILBO وهي التسمية الأقرب بين اللغتين، أما مدينة سان سباستيان فتكتب San Sebastian بالإسبانية يقابلها بالباسكية اسم «دونوسيتا» Dobosita ، ومدينة فيتوريا Vitoria يقابلها بالباسكية اسم «غاستييز Gasteiz».

حتى أن الانفصاليين الباسك يلجأون إلى محو حرف «أA-» من اسم مدينة بلباو بطلاء أبيض حتى تنطق بالباسكية فقط Bilbo وهو ما لحظناه عند الكثير من التقاطعات الطرقية.

التقارب العربي الباسكي

«غرتيزا» سائق سيارة أجرة، وما إن ركبت معه وما ان انطلق حتى بادرني: «هل السينيور عربي؟»، وعندما اجبته بالإيجاب، قال لي: «نحن نحترم العرب بشكل كبير، لأنه خلال حكم إسبانيا قبل خمسة قرون من الآن عاملوا قوميتنا باحترام، ولم يفرضوا أنفسهم علينا، بل عندما لاحظوا عدم رغبة سكان الإقليم في وجودهم بين ظهرانيهم احترموا تلك الرغبة. إضافة إلى ذلك فإن سبب احترامنا لهم هو تعاطفنا مع قضاياهم القومية من قبيل الاحتلال الإسباني لمدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وأرخبيل جزر الكناري، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والآن الاحتلال الأميركي البشع لأرض العراق».

وعن سبب كراهية الشعب الباسكي للإسبان، رد «غرتيزا» بسؤال آخر استنكاري: «ماذا عن أسباب كراهيتكم أنتم المغاربة للإسبان، وكراهيتكم أنتم العرب للإسرائيليين؟».

غريتزا أضاف إلى ذلك قوله: «إننا نحس بقهر كبير عندما يتبين لنا أننا آخر الأمم الأوربية وربما في العالم الذين يخضعون لاحتلال أجنبي. فمع الطفرة الاقتصادية والتصنيعية التي بدأ يشهدها الإقليم منذ تراخي القبضة الحديد لمدريد مع وفاة الجنرال فرانكو منتصف السبعينات، بدأنا نحن الباسكيين نحس بحيف شديد، نحس بالظلم الذي يلحق بنا، فباعتبارنا شعبا يحب العمل فإن الضرائب التي تجنى هنا في الباسك، بدل أن تتوجه لتنمية الإقليم أكثر وأكثر، فإنها تتوجه لدعم المناطق الفقيرة في إسبانيا على حسابنا، وخصوصا في إقليم الأندلس الذي لا يشتغل سكانه سوى ستة أشهر في السنة، أما الأشهر الستة المتبقية فهم يعتمدون فيها على مدخولات صندوق الضمان والبطالة».

أكثر من ذلك ذكر غريتزا «أننا الباسكيين نكره وجود المستوطنين الإسبان داخل أراضينا، لعدة أسباب، فاجتماعيا نحن نتضايق من العادات الاجتماعية التي يصطحبونها معهم إلى مدننا وبلدنا وهو ما يهدد عاداتنا وتركيبتنا الاجتماعية. أما اقتصاديا، فإن المستوطنين يقبلون بأجور أقل من الأجور التي تدفع عادة إلى العامل الباسكي وهو ما يهدد دخل مواطنينا. أما سياسيا فإنهم باتوا يشكلون قوة سياسية تدعم المخططات التوسعية الإسبانية، بالإضافة إلى أن الغالبية العظمى من قوات الأمن والجيش العاملة في الإقليم تنتمي إلى العرق الإسباني».

وعند تذكير محاوري بعدد المواطنين الباسكيين الضخم الموجود خارج الإقليم في إسبانيا وخصوصا في العاصمة مدريد، رد علي بالقول: «إن ذلك كان نتيجة ترحيل منهجي قامت به السلطات الإسبانية لمواطنينا من خلال توظيفهم في مناطق خارج مدن الإقليم، وخصوصا في مدريد والمدن الإسبانية الكبرى حتى يمكن إبقاءهم تحت المراقبة».

على كل فإن الأوضاع في الإقليم محل النزاع مرجحة للتفاقم أكثر، فبعد أيام قليلة من مغادرتنا إقليم الباسك تحدثت الأخبار عن تفجير شاحنات مفخخة، وما زاد من حدة ذلك تقرير صادر عن الخارجية الأميركية صنف الإقليم في أنه من الأراضي المحتلة في إسبانيا على غرار مدينة فينيسا التي تطالب بها البرتغال، ومدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وهي الأراضي التي تطالب بها الرباط

العدد 425 - الثلثاء 04 نوفمبر 2003م الموافق 09 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً