العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ

اغتيال النور: علي إرثنا العظيم

«وإن رجلا من أعداء الله المارقة عن دَينه اغتال أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه ومثواه في مسجده وهو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله فيا لله هو من قتيل وأكرم به وبمقتله وروحه من روح عرجت إلى الله تعالى بالبر والتقى والإيمان والإحسان لقد أطفأ منه نور الله في أرضه لا يبين بعده أبدا وهدم ركنا من أركان الله تعالى لا يشاد مثله فإنا لله وإن إليه راجعون وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين وعليه السلام ورحمة الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا».

ليس في تاريخ الاسلام رجل يرتقي إلى مستوى «علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي القرشي» ذلك الرجل ال «أدعج العينين» ال «ضخم عضلة الذراع وعضلة الساق»، ال «حسن الوجه»، فهو: «يجتمع مع رسولنا فـي عبد الـمطّلب الـجد الأدنى، وينسب إلـى هاشم فـيقال القرشي الهاشمي عبدالله بن عم الرسول لأبويه، ولـم يزل اسمه فـي الـجاهلـيّة والإسلام علـيا، ويكنى أبا الـحسن وأبا تراب كناه به الرسول، وكان أحب الكنى إلـيه.» ولدته أمه «فاطِمةُ بنت أَسد بن هاشم» وكانت أَسلـمت، وهي أَوّل هاشمية ولَدت لهاشميّ»، في الكعبة الشريفة في العام 36 لمولد الرسول؛ وتشير مصادر عدة إلى أنه أسلـم «وهو عبدالله بن سبع؛ وقـيل عبد الله بن تسع؛ وقـيل عبد الله بن عشر» وهو فدائي الإسلام الأول إذ نام في سرير الرسول يوم عزمت قريش على قتله؛ فهو أمين الرسول، فلـمّا هاجر الرسول إلى المدينة «أقام بعده ثلاث لـيال وأيّامها حتـى أدّى عن الرسول الودائع» ، ثم لـحق به مهاجرا إلى المدينة؛ وهو: «أوّل من أسلـم وأوّل من صلّـى إلى القبلة علي بن أبي طالب» ؛ وحارب في الغزوات الإسلامية جميعها «إلاّ تبوك فإنّه خـلفه فـي أهله» وكان إلى جانب ذلك كله «غزير العلـم». وزوّجه الرسول ابنته «فاطمة الزهراء». وقد سئل بعض السلف عن «علـي بن أَبـي طالب»، علـيه السلام، فقال: «كان دَيّانَ هذه الأُمة بعد نبـيها أَي قاضيها وحاكمها» وذكر أحد رجال قريش أن عند علـي بن أَبـي طالب: «شجاعة ما تُنْكَشُ، فاستعاره فـي الشجاعة، أَي ما تُسْتـخرج ولا تُنْزف لأَنها بعيدةُ الغايةِ» وهو أول المبارزين يوم بدر. قال فيه الرسول: «أنت أخي في الدنيا والآخرة.» وسأل الرسول في المسجد قائلا: « أين علي بن أبي طالب» فوثب إليه وقال: «ها أنذا يا رسول الله قال ادن مني فدنا منه فضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ودموعه تجري على خده ثم أخذ بيده وقال بأعلى صوته معاشر المسلمين هذا شيخ المهاجرين هذا أخي وابن عمي وختني هذا لحمي ودمي وشعري هذا أبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة هذا مفرج الكرب عني هذا أسد الله وسيفه في أرضه على أعدائه فعلى مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين والله منه بريء وأنا منه بريء فمن أحب أن يبرأ من الله ومني فليبرأ من علي أبي طالب وليبلغ الشاهد منكم الغائب ثم قال اجلس يا أبا الحسن فقد عرف الله لك ذلك» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وله نظير من أمتي وعلي بن أبي طالب نظيري» وشهد له بالـجنّة. وقال فيه الخليفة «عمر بن الخطاب»: «أقضانا علي بن أبي طالب» و «لولا علي لهلك عمر» و «ليس من مسألة ليس لها أبا الحسن» و «أَعوذ بالله من كل مُعْضِلة لـيس لها أَبو حَسَن»، (ورُوي مُعَضِّلة؛ أَراد الـمسأَلة الصعبة أَو الـخُطَّة الضَّيِّقة الـمَخارج من الإِعْضالِ أَو التعضيل، ويريد بأَبـي الـحسن علـي بن أَبـي طَالب، كرّم اللَّهُ وجهَه). وقال معاوية بن سفيان «وقد جاءته مسأَلة مشكلة فقال: مُعْضِلةٌ ولا رَجُلَ لها كأَبـي حَسَن» وهو القائل: «سَلُوا عما شئتـم» و«سلوني قبل أن تفقدوني» و قال: «وهو على المنبر لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته». كان علي «من أشهر خطباء ذلك العصر (...) امتاز بمضاء لسانه، وعلو بيانه، وقوة منطقه، وسطوع حجته، ومواتاة البلاغة له في خطبه وكتبه ورسائله وسوابغ حكمه وجوامع كلمه»، وكان له «شفقة علـى رعيته متواضعا ورعا ذا قوّة فـي الدّين»، وكان «قوته من دقـيق الشعير يأخذ منه قبضة فـيضعها فـي القدح ثم يصبّ علـيها ماء فيشربه» وهو القائل: «يا دنيا غري غيري. إلى تعرضت؟ أم إلىَّ تشوفت؟ هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها. فعمرك قصير، وخطرك حقير. آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق» و «علي» هذا الاسم اللامع في تاريخ الاسلام يقول عنه عباس محمود العقاد «هو الشهيد أبو الشهداء» و «هو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الانسانية منزع الحقيقية». «تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد.» «يعد من أصحاب الآراء الحكيمة بين حكماء العصور» «صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الاسلامية». «كان بليغا له نهج من الأدب والبلاغة (...) فهو الحكيم الأديب، والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين.» وهو «من أشهر خطباء ذلك العصر (...) امتاز بمضاء لسانه، وعلو بيانه، وقوة منطقه، وسطوع حجته، ومواتاة البلاغة له في خطبه وكتبه ورسائله وسوابغ حكمه وجوامع كلمه» هذا الإسم «أصبح علما يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وقامت باسمه الدول». وهو «أول من اتخذ بيتا ترمى فيه قصص أهل الظلامات» وهو الذي «يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثرا لطاعة ربه والتقوى على آراء أهل الدنيا»

قيل في علي إنه أخ النبي وابن عمه: «سيفه القاطع ومحنه الدافع وسهمه الصارد وناصره العاضد فارس الوقائع ومعنوس الجمائع مبيد الأقران ومبدد الشجعان» «مصباح الدلالة وحجاب الرسالة إمام الأمة وباب الحكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ممزق الكتائب ومفرق المواكب ومحطم القواضب في القلل والمناكب» «الهمام الضرغام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مكسر الأصنام» «إمام الأمة وأبي الأئمة وقدوة السعداء وسيد الشهداء وعاضد الدين بذي الفقار ومن لم يزل الحق إلى ذبه شديد الافتقار» «ناصر شريعته وقسيمه في النسب والسبب ويد الحق التي حكم لها في كل طلب بالغلب» «سيف الله الذي شهره على الكفر وسله وكفله إعزاز الدين فأعظمه بجهاده وأجله وقرع بعزه صفاة الإلحاد فأزاله بعزه وأذله وقصد الأصنام وأعلى رغم من استغواه الشيطان باتباعها وأضله» «قسيمه في الشرف والأبوة وصديقه الأكبر فيما جاء به من النبوة والمكمل بالنص على إمامته الدين وخامس الخمسة الذين سادسهم الروح الأمين وأبي الأئمة الأبرار والهازم بمفرده كل جيش جرار» «سيف الحق الماضي المضارب وبحر العلم الطامي اللجج والعوارب ومعين الحكمة العذب المشارع والمخصوص بكل شرف باسق وفضل بارع» «الذي وفر الله نصيبه من العلم والحكمة» ونظر «أبو بكر» إلى «علي بن أبي طالب» فقال: «من سره أن ينظر الى أقرب الناس قرابة من نبيهم وأعظمهم عنه غناء وأحفظهم عنده منزلة فلينظر الى علي بن أبي طالب» وقال «أحمد ابن حنبل» : «الخلافة لم تزين عليا بل علي زينها» وجاء عن «محمد بن منصور» يقول: «كنا عند احمد بن حنبل فقال له رجل يا أبا عبدالله ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أن عليا قال أنا قسيم النار فقال وما تنكرون من ذا أليس روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق قلنا بلى قال فأين المؤمن قلنا في الجنة قال وأين المنافق قلنا في النار قال فعلي قسيم النار»

من أسمائه التي عرف بها نورد الآتي: «حيدرة» وقد سمته به أمه إذ قال:

أَنا الذي سَمَّتْنِـي أمِّي حَيْدَرَهْ،

كَلَـيْثِ غاباتٍ غَلِـيظِ القَصَرَهْ،

أَكِيلُكُمْ بالسيفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

وجاء اسم «حَيْدَرة: اسم علي بن أبي طالب عليه السلام في التَوراة،»

«وذو البَرْقَةِ: عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، رضي الله تعالى عنه، لَقَّبَهُ به العباسُ، رضي الله تعالى عنه، يومَ حُنَيْنٍ.»

وأبو تُرابٍ: سماه به الرسول محمد ابن عبدالله.

من أقواله وحكمه المشهورة هنا قطرة من بحر:

«من رضى عن نفسه كَثُرَ الساخِطُ عليه» «ومن ضيعه الأَقرب أتِيحَ له الأَبعدُ» «ومَنْ بَالَغَ في الخُصُومة أثِم، ومن قَصَّر فيها ظلم» «من كَرُمَتْ عليه نفسه هانت عليه شهوته» «ألاَ حُرٌّ يَدَعُ هذه الُّلمَاظة لأَهلها» «انه ليس لأَنفسكم ثمن إلاَ الجنة، فلاَ تبيعوها إلاَ بها» «من عَظَّم صَغار المصائب ابتلاَه الله بكبارها» «الولاَيات مضامير الرجال» «ليس بَلَدٌ أحقَّ بك من بلد» «خير البلاَد ما حملك» «إذا كان في رجل خَلَّة رائعة فانتظر أخواتها» «للعبد جَهْدُ العاجز» «رُبَّ مفتون يحسن القول فيه» «ما لابن آدم والفخر أوله نُطْفة وآخره جيفة، لاَ يَرْزُقُ نفسَه ولاَ يَدْفَع حتفه» «الدنيا تغر وتضر وتمر، إن الله تعالى لم يَرَ فيها ثوابا لأَوليائه، ولاَ عقابا لأَعدائه، وإن أهل الدنيا كَرَكْبٍ بينما هم حلولٌ إذ صاح بهم صائحهم فارتَحَلُوا» «مَنْ صارع الحقَّ صرعه» «القلب مصحف البصر» «التُّقَى رئيسُ الأَخلاَق» «ما أحْسَنَ تواضع الأَغنياء طلبا لما عند الله، وأحْسَنَ منه تِيهُ الفقراء على الأَغنياء اتكالا على الله» «كل مقتَصرٍ عليه كافٍ» «من لم يُعْطِ قاعدا لم يُعْطٍ قائما» «الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، فإن كان لك فلاَ تَبْطَر، وإن كان عليك فلاَ تَضْجَر» «من طلب شيئا ناله أو بَعْضَه» «الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جَهْل، والتقصير في حسن العمل إذا وَثِقْتَ بالثواب عليه غبن، والطمأنينة إلى كل أحَدٍ قبل الاَختيار عجز، والبخل جامعٌ لمساوئ الأخلاق» «مَنْ كثرت نعمةُ الله عنده كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام للّه فيها بما يحبُّ عَرَّضَها للدوام والبقاء، ومن لم يقم عَرَّضَها للزوال والفَنَاء» «الرغبة مفتاح النَّصَب، والحسد مَطِيَّةُ التعب» «الخُرقُ المعالجةُ قبل الإمكان والأناةُ بعد الفُرْصَة» «من علم أن كلامه مِنْ عمله قَلَّ كلامه إلاَ فيما يَعْنيه» «من نَظَر في عُيُوبِ الناس فأنكرها ثم رَضِيها لنفسه فذلك الأحمقُ بعينه» «صَوَابُ الرأي بالدول يبقى ببقائها، ويذهب بذهابها» «العفَافُ زينةُ الفقر، والشكر زينةُ الغنى» «المؤمنُ بِشْرُه في وَجْهه وحُزْنه في قلبه» «الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، والعالم المتعسفُ شبيه بالجاهل» «ينام الرجل على الثُّكْل. ولاَ ينام على الحرب» «الناسُ أبناء الدنيا، ولاَ يُلام الرجل على حُب أمه» «رسولُكَ تَرْجُمَان عقلك، وكتابك أبْلَغُ ما ينطق عنك» «الحظ أتى مَنْ لاَ يأتيه» «الطمع ضامن غير وفيّ» «الأمانيُّ تعمى أعين البصائر» «لاَ تجارة كالعمل الصالح، ولاَ ربح كالثواب، ولاَ فائدة كالتوفيق، ولاَ حسب كالتواضع، ولاَ شَرَفَ كالعلم، ولاَ ورَعَ كالوقوف عند الشبهة، ولاَ قُرْبة كحسن الخلق، ولاَ عِبَادة كأداء الفَرْض، ولاَ عقل كالتدبير، ولاَ وَحْدَةَ أوحَشُ من العُجَب» «من أطال الأمل أساء العمل» «نومٌ على يقين خيرٌ من صلاَة على شك» «نَفَسُ المرء خُطَاه إلى أجله» «إذا تم العقل نقص الكلام» «قدرُ الرجلِ على قدر همته» «قيمة كل امرئ ما يُحْسِنه» «المال مادة الشهوات» «الحِرْمانُ خيرٌ من الامتنان» «الناسُ أعداء ما جهلوا» «أحْبِب حبيبَكَ هونا ما، عسى أن يكون بغيضَكْ يوما ما، وأبْغِضْ بَغيضَكَ هَوْنا ما، عسى أن يكون حبيبَكَ يوما ما» «صولة الباطل ساعة وصولة الحق إلى الساعة» «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم».

ونقتطف هنا بعضا من خطبته في مدح الدنيا، وهي قطعة في غاية البلاغة والجمال وهي على خلاف ما عرف عنه من ذم للدنيا، قال: «أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها بم تذمها أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى كم عللت ولديك وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تشف لهم بطبك ولم تدفع عنهم بقوتك قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك وخيلت لك بمصرعهم مصرعك إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباب الله ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أوليائه اكتسبوا منها الرحمة وربحوا منها الجنة فمن ذا يذمها وقد أدبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها فمثلت لهم ببلائها البلى وشوقتهم بسرورها إلى السرور وراحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا»

وحين يذكر شجعان العرب وشجعان المسلمين فإن « أمير المؤمنين علي بن طالب» عليه السلام «آية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسول الله ومؤيد بالتأييد الإلهي كاشف الكروب ومجليها ومثبت قواعد الإسلام ومرسيها وهو المتقدم على ذوي الشجاعة كلهم بلا مرية ولا خلاف» وجاء عنه أنه قال: :والذي نفس ابن ابي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موتة على فراش» وقال بعض العرب: «ما لقينا كتيبة فيها علي بن ابي طالب رضي الله عنه إلا اوصى بعضنا على بعض» وقال لمعاوية: «قد دعوت الناس إلى الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي ليعلم اينا المران على قلبه والمغطى على بصره وأنا أبوالحسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي» وقيل له كرم الله وجهه: «إذا جالت الخيل فأين نطلبك قال حيث تركتموني» وقيل له: «كيف تقتل الابطال؟ قال: «لأني كنت القى الرجل فأقدر أني اقتله ويقدر هو اني قتلته فأكون أنا ونفسه عونا عليه»

وما أشبه اليوم بالبارحة فلنقرأ هذا الجزء من خطبة لعلي: «اما بعد فان الجهاد باب من ابواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء وألزمه الصغار وسيم الخسف ومنع النصف ألا وإني قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا سرا وإعلانا وقلت لكم اغزوهم قبل ان يغزوكم فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم الا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات هذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار وقتل حسان او ابن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها وقتل منكم رجالا صالحين وقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة فينتزع أحجالها وقلبها ورعثها ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم كلما فلو ان امرءا مسلما مات من بعدها أسفا ما كان عندي ملوما بل كان عندي به جديرا فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم وفشلكم عن حقكم فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى وفيئا ينهب يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون فاذا أمرتكم بالسير اليهم في الحر قلتم حمارة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر واذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم أمهلنا حتى ينسلخ عنا القر كل هذا فرارا من الحر والقر فاذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر يا أشباه الرجال ولا رجال ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال وددت ان الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني الى رحمته من بينكم والله لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وورثت صدري غيظا وجرعتموني الموت أنفاسا وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش ان ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله أبوهم وهل منهم احد اشد لها مراسا وأطول لها تجربة مني لقد مارستها وما بلغت العشرين وقد نيفت فيها على الستين ولكنه لا رأي لمن لا يطاع»

وإلى علي بن أبي طالب ينسب علم النحو: دخل «أبو الأسود الدؤلي على ابنة له بالبصرة فقالت له يا أبت ما أشد الحر متعجبة ورفعت أشد فظنها مستفهمة فقال شهر ناجر فقالت يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل فقال له وما ذاك فأخبره خبر ابنته فقال هلم صحيفة ثم أملى عليه الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ثم رسم له رسوما فنقلها النحويون في كتبهم» وينسب إلى علي «علم الكتف» و«ان الامام علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه وضع الحروف الثمانية والعشرين على طريق البسط الاعظم في جلد الجفر يستخرج منها بطرق مخصوصة وشرائط معينة الفاظ مخصوصة تدل على ما في لوح القضاء والقدر» وواضع كتاب «نهج البلاغة» وهو كنز ثمين في الحكم والبلاغة و«عن عبدالله بن مسعود قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا له ظهر وبطن وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن» وعلي أحد الصحابة الذين جمعوا القرآن.

هذا البارع في العلم والحرب والدين والحياة، هذا العادل، المتواضع، الواسع الصدر، هذا الذي «ردت له الشمس» و«داحي باب خيبر»، قتله «عبد الرحمن بن ملجم المرادي» الذي قيل «أنّ علـيا سلام الله عليه كان إذا رأى بن ملـجم يتمثّل ببـيت عمرو بن معديكرب بن قـيس بن مكشوح الـمرادي وهو قوله:

أريد حياته ويريد قتلـي

عذيرك من خـلـيلك من مراد

فقـيل لعلـي سلام الله عليه: كأنّك عرفته وعرفت ما يريد أفلا تقتله؟ قال: كيف أقتل قاتلـي؟ نقول ان ابن ملجم قتله غدرا» وهو في صلاة الصبح إذ ضربه علـى «رأسه» فـي لـيلة الـجمعة السابعة عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فقال سلام الله عليه بعد أن تلقى الضربة: «فزت ورّب الكعبة»، ثم أضاف: «شأنكم بالرجل فخذوه»، «فحُمل بن ملـجم علـى النّاس بسيفه فأفرجوا له وتلقاه الـمغيرة بن نوفل بن الـحرث بن عبد الـمطلب بقطيفة، فرمى بها علـيه واحتمله فضرب به الأرض وجلس علـى صدره»؛ قالوا: «وأقام علـي سلام الله عليه يومين ومات»؛ ويعود السبب في قتله كما تذكر المصادر إلى أن «عبدالرحمن بن ملجم» «تزوج بقطام بن علقمة» وهي إحدى نساء الخوارج، فقالت له: «لا أقنع إلا بصداق أسميه وهو ثلاثة آلاف درهم وعبد وأمة وأن تقتل علي بن أبي طالب» فقال لها: «لك ما سألت إلا علي بن أبي طالب وكيف لي به قالت تغتاله فإن سلمت أرحت الناس من شره وأقمت مع أهلك وإن اصبت دخلت الجنة» فقال: «ثلاثة آلاف وعبد وقينة وضرب علي بالحسام المخذم فلا مهر أغلى من علي وإن علا ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم»؛ وفي رواية أخرى تقول: ما ذكره عبدالله بن خـلكان وغيره أنّه اجتمع قوم من الـخوارج فتذاكروا أصحاب النهروان وترحّموا علـيهم وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فتـحالف عبد الرّحمن بن ملـجم والبرك بن عبدا وعمرو بن بكر التميمي علـى أن يأتـي كل واحد منهم واحدا من علـي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله تعالـى عنهم، فقال عبدالرحمن بن ملـجم وهو أشقـى الآخرين: أنا أكفـيكم علـي بن أبـي طالب، وقال البرك: وأنا أكفـيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفـيكم عمرو بن العاص، ثم سمّوا سيوفهم وتواعدوا لسبع عشرة لـيلة خـلت من رمضان. فدخـل عبدالرحمن بن ملـجم الكوفة فرأى امرأة حسناء يقال لها قطام كان علـي بن أبـي طالب رضي الله تعالـى عنه قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فخطبها فقالت: لا أتزوّجك حتـى أشترط، قال: وما شرطك؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد ووصيفة وقتل علـي، فقال لها: وكيف لـي بقتل علـي؟ فقالت: تروم ذلك غيلة فإن سلـمت أرحت النّاس من شرّه وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت إلـى الـجنّة ونعيم لا يزول، فأنعم لها وقال: ما جئت إلاّ لقتله. ثم أقبل عبدالرحمن بن ملـجم حتـى جلس مقابل السدّة الّتـي يخرج منها علـي رضي الله تعالـى عنه إلـى الصلاة، فلـمّا خرج لصلاة الفجر ضربه عبدالرحمن بن ملـجم علـى رأسه«، و قيل أنه طعنه وهو داخل المسجد في الغلس وذلك في تاسع عشر رمضان المعظم سنة اربعين هجرية. ووجدنا أن الضربة على الرأس هي الصحيحة إلى جانب الطعن إذ ينسب إِلى «أُثَيْر بن عمرو السَّكُوني» الطبيب الكوفي يُعْرَفُ بابن عُمَرِيَّا. قال عبد الله بن مالك: جُمِعَ الأَطِبَّاءُ لعليّ بن أَبي طالب، رضي الله عنه، لما ضربه ابن مُلْجَم، لعنه الله تعالى، وكان أَبصَرَهم بالطب أُثَيْر، فأَخذ أُثير رِئَةَ شاةٍ حارَّة فتَتَبَّعَ عِرْقا فيها فاستخرَجَهُ وأَدخله في جراحة عليّ ثم نَفَخَ العرقَ واستخرجه فإِذا عليه بياضُ الدماغ وإِذا الضربة قد وصلَتْ إِلى أُمِّ رأْسه فقال: يا أَمير المؤْمنين اعْهَدْ عَهْدَكَ فإِنك ميّتٌ.»

ويتضح من جميع الروايات التي نظرنا إليها أن عليا لم يجزع من الموت إذ كان يستشهد بهذا البيت:

أشدد حيازيمك للموت فإن الموت يأتيك

ولا تجزع من القتل إذا حل بواديك

وجاء عن «أسماء بنت عميس» قالت: «كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه ثم أفاق وقال مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فقيل له ما ترى قال هذا رسول الله وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين وهذه منازلي لمثل هذا فليعمل العاملون»

وبعد أن علم الناس بضرب علي ثارت ثائرة المسلمين وقال قائلهم: «لا تقوم لهم قائمة إن شاء الله تعالى» فقال علي وهو مسجى «لا تفعلوا إنما النفس بالنفس» وروى أحمد فـي «الـمناقب» عن الـحسين بن كثـير عن أبـيه وكان قد أدرك علـيا سلام الله عليه قال، قلت: يا أمير الـمؤمنـين خـل بـيننا وبـين مراد فلا تقم لهم ثاغية ولا راغية أبدا، فقال: لا ولكن احبسوا الرجل فإن أنا مت فاقتلوه وإن أعش فالـجروح قصاص. وذكرت مصادر عدة غير واحد أنّه سلام الله عليه «أوصى الـحسن والـحسين وصية طويلة وفـي آخرها: يابنـي عبد الـمطّلب لا تـخوضوا دماء الـمسلـمين خوضا تقولون قتل أمير الـمؤمنـين ألا لا يقتلن بـي غير قاتلـي اضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا به، فإنّـي سمعت رسولنا يقول: «إيّاكم والـمثلة». ولما انتقل علي إلى الرفيق الأعلى خطب الحسن وقال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعد رسول الله ولا يدركه الآخرون فعند الله نحتسب ما دخل علينا وعلى جميع أمة محمد فوالله لا أقول اليوم إلا حقا لقد دخلت مصيبة اليوم على جميع العباد والبلاد والشجر والدواب ولقد قبض في الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم عليهما السلام إلى السماء وقبض فيها موسى بن عمران ويوشع بن نون عليهما السلام وأنزل فيها القرآن على محمد ولقد كان رسول الله يبعثه في السرية ويسير جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عز وجل على يديه وما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمئة درهم أراد ان يبتاع بها خادما لأهله إلا أن امور الله تعالى تجري على احوالها فما احسنها من الله وأسوأها من انفسكم إلا ان قريشا أعطت أزمتها شياطينها فقادتها بأعنتها إلى النار فمنهم من قاتل رسول الله حتى اظهره الله تعالى عليه ومنهم من اسر الضغينة حتى وجد عن النفاق أعوانا رفع الكتاب وجف القلم وأمور تقضي في كتاب قد خلا ثم أطرق الحسن فبكى الناس بكاء شديدا ثم نزل فجرد سيفه ودعا بابن ملجم فأقبل يخطر واضعا شعره على اذنيه حتى قام بين يديه فقال يا حسن إني ما عاهدت الله تعالى على عهد قط إلاوفيت به عاهدت الله تعالى على ان اقتل أباك وقد قتلته فإن تخلني أقتل معاوية فإن أنا قتلته أضع يدي على يدك وإن أقتل فهو الذي تريد فقال الحسن رضي الله عنه أما والله لا سبيل إلى بقائك ثم قام إليه فضربه بالسيف فاتقاه ابن ملجم بيد ثم أسرع بالسيف فيه فقتله»

وكانت وفاته سلام الله عليه «فـي سن سبع؛ وقـيل ثمان وخمسين؛ وقـيل ثمان وستـين، وقال عبد الله بن جرير الطبري: مات علـي سلام الله عليه وعمره خمس وستّون سنة، وقال غيره: ثلاث وستّون سنة. وكانت خلافته أربع سنـين وتسعة أشهر ويوما واحدا، وكانت مدّة إقامته سلام الله عليه بالـمدينة أربعة أشهر، ثم سار إلـى العراق، وقتل بالكوفة، كما تقدّم. وللنّاس خلاف فـي مدّة عمره وفـي قدر خلافته سلام الله عليه، والله أعلـم.

«وقال عبيد الله بن موسى بن جار بن الهذيل الحارثي يرثي عليّ بن أبي طالب ويذكر أنه حمل نَعْشه في هذا الموضع فقال:

بكيتُ عليّا جَهْدَ عَيني فلم أجِد على

الجهد بعد الجهد ما أستزيدُها

فما أمسكتْ مكنون دمعي وما شَفَت

حزينا ولا تُسلى فيرجى رُقودُها

وقد حمل النّعْشَ ابنُ قيس ورهطُه

بنجرانَ والأعيان تبكي شهودُها

على خيرِ من يُبكى ويَفْجَعُ فَقدُه

ويُضْرَبْن بالأيدي عليه خدودُها

وعلـي رضي الله تعالـى عنه أوّل إمام خفـي قبره قـيل إنّ علـيا رضي الله عنه أوصى أن يخفـى قبره لعلـمه أنّ الأمر يصير إلـى بنـي أميّة فلـم يأمن أن يمثلوا بقبره. وقد اختلف فـي قبره فقـيل فـي زاوية الـجامع بالكوفة؛ وقـيل فـي قصر الإمارة بها؛ وقـيل بالبقـيع وهو بعيد؛ وقـيل إنّه بالنـجف فـي الـمشهد الّذي يزار الـيوم.

ونترككم في الختام مع بعض ما عرفنا عن هذا الارث العظيم:

قال ابن عباس «ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب عليه السلام»، وقد ذهب في حبه جماعة من الناس مذاهب شتى إلى درجة أن جعلوه إلها وحين أحرقهم لكفرهم في الصحراء صاحوا «إنه الله» وهم يحترقون؛ و هناك منطقة في الصين يؤمن أهلها بأن «علي بن أبي طالب» «إله العرب» وهم جماعة «لا يملكون عليهم أحدا إلاّ من ولد ذلك العَلَوي، وإذا استقبلوا السماء فتحوا أفواههم وشخصوا أبصارهم إليها، يقولون: إن إله العرب ينزل منها ويصعد إليها» وهناك «طائفةٌ يقولون: إنّ علي بن أبي طالب مُستَتِر في السحاب» وصوته «صوت الرعد» ولا ننسى إنه القائل «يهلك فيّ رجلان: محب مفرط بما ليس فيّ ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني»، ولـ «علي بن أبي طالب» مزارات «في البصرة ثلاثة عشر مشهدا باسم أمير المؤمنين على بن أبي طالب صلوات الله عليه يقال لأحدها مشهد بني مازن ومشهد آخر يسمى مشهد باب الطيب وله في عدة أقطار مشاهد أهمها على الاطلاق قبره في النجف.

«أن النبـي قال لعلـي رضي الله تعالـى عنه: «أنت يعسوب الـمؤمنـين والـمال يعسوب الكفار». وفـي رواية يعسوب الظلـمة وفـي رواية يعسوب الـمنافقـين أي يلوذ بك الـمؤمنون ويلوذ الكفار والظلـمة والـمنافقون بالـمال، كما تلوذ النـحل بـيعسوبها، ومن هنا قـيل لأمير الـمؤمنـين علـيّ كرم الله وجهه أمير النـحل»، قَاْلِ صلى الله عليه وسلم لعلي: «إنَّ لَكَ في الجَنَّةِ بَيْتا ويُرْوَى: كَنْزا وإنِّكَ لَذو قَرْنَيْهَا أَي: ذُو طَرَفَي الجَنَّةِ ومَلِكُهَا الأَعْظَمُ، تَسْلُكَ مُلْكَ جميعِ الجنَّةِ، كما سَلَكَ ذُو القَرْنَيْنِ جَميعَ الأرض»، وأما قوله تعالى: انما وليكم الله ورسوله وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِـيـمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (المائدة:55) قال: عُنِـي به علـيّ بن أبـي طالب»

العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً