العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ

جذور الفكر الليبرالي عند تركي الحمد

على خلفية محاضرة مركز الشيخ إبراهيم

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

هناك عناصر إن آمنت بمبادئ أو أفكار معينة ستكون مخلصة لها وتظل تضحي من أجلها بينما هناك عناصر تتلون مع تغيرات الطقس. والمفكر السعودي تركي الحمد صاحب رواية «أطياف الأزقة المهجورة» المكونة من ثلاثة أجزاء وهي العوامة والشميسي والكراديب من هذا النوع المخلص لأفكاره. والمتتبع لمسيرة هذا المفكر يجده مر بتحولات فكرية مختلفة لأنه نبت في مرحلتي الستينات والسبعينات الحساستين من القرن الماضي. فهي المرحلة التي عاشت فيها أمتنا العربية تحولات فكرية وسياسية متضاربة وبرزت أحزاب قومية وإسلامية وناصرية وبعثية متناقضة إلى جانب بروز الفكر الاشتراكي والأحزاب الماركسية.

وعاش الحمد وسط هذه الأمواج المتلاطمة وهو بعد في المرحلة الثانوية فتقلب بين الفكر البعثي والقومي والماركسي، غير أنه ظل يستهويه الفكر الليبرالي مع قناعته بأن الدين الإسلامي لا يتناقض مع كل هذه الأطروحات لو أفسح المجال أمام القراءات القرآنية المختلفة غير المتزمتة من منطلق الشعار المعروف أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان. ورأى أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال ترك المجال واسعا أمام الاجتهاد والقراءات المختلفة التي تضع التطور الزمني في الحسبان إذ كشف ذلك خلال محاضرته التي ألقاها في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث أن القيم الإسلامية لا تتناقض مع الفلسفة الليبرالية التي تعتمد على ثلاثة محاور هي الحرية والتسامح والفردية مستشهدا بعدة آيات قرآنية لإثبات صدقية ما يطرحه، وإمعانا في التأكيد على عدم وجود أي تناقض بين الفكر الإسلامي والليبرالي قال وبإصرار «أنه لا خلاف بين ثقافتنا وبين قيم الليبرالية إذا أمكننا استلهام النصوص بقراءة مختلفة عن القراءة التقليدية التي أصرت عليها عناصر تضييق الخناق على تفسير آيات القرآن وتجعله حكرا على ما تراه هي فقط».

وحذر من الجمود الذي اوقعه فيه أولئك المتشبثون بقراءة واحدة ضيقة وقال: «إن هذا العالم لا ينتظرنا ولا يخضع لمطالبنا خاصة وأننا لا نمثل شيئا في عالم اليوم اقتصاديا ولا ثقافيا ولا سياسيا ولا حتى اجتماعيا لأن العقل العربي غير متحرك مما لا يعطيه القوة على التعامل مع المتغيرات ومع استيعابه لهذه المتغيرات».

إن الحمد على رغم عومه بين مختلف التيارات الفكرية في مراحل مبكرة من حياته ظل مخلصا وأمينا لأفكاره حتى بعد أن دفع ضريبة آرائه فدخل السجن قرابة عامين.

إن تشبثه وإيمانه بالفكر الليبرالي غير المتناقض مع الدين الإسلامي جعله ضحية استعداء الكثير من العناصر الدينية المتزمتة التي رأت في فكره خروجا على نواميس الرؤى التقليدية للقراءات الجامدة.

لكن قافلة المعتدلين وفي مقدمتهم تركي الحمد سارت دون أن تلتفت إلى الأصوات التي حولها، فألف مجموعة من الكتب المهمة، خارج إطار الروايات وهي مرتبطة بأفكاره القومية كان الأول «الحركة الثورية المقارنة» ثم «دراسات أيديولوجية في الجامعة العربية» و «الثقافة العربية أمام تحديات التغيير» ثم كتاب رابع هو «عن الإنسان أتحدث»، ولهذا فقد تمت محاربته من قبل هذه العناصر وبشدة وصار ضحية جهل هؤلاء بالطرح المعتدل والمستنير فلم تتوقف رسائل التهديد والوعيد ضده، ومن خلال الانترنت والبريد الالكتروني بتحريض المسئولين عليه وحتى بعض الصحف، ولنقرأ نموذجا لهذه الرسائل، ففي ملحق الحصن السياسي نجد هذه الرسالة بالبريد الالكتروني، تحت عنوان «تركي الحمد بين المجون والإلحاد» تقول الرسالة:

«نفيدكم أننا وجدنا في عدد من الكتب والروايات المطبوعة المتداولة للمدعو تركي الحمد الأستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود مجموعة من الأقوال التي فيها استهزاء ظاهر بالدين والرسول صلى الله عليه وسلم والذات الإلهية»، وتضيف:

«وتمكنا من إثبات صحة نسبة هذه الأقوال للمدعو تركي الحمد وتبين أنه هو مؤلف تلك الكتب فعلا، وعلمنا أن المدعو تركي الحمد لم يصدر عنه أي تصحيح أو توبة عن تلك الأقوال ولذا فهو مسئول عنها حسب علمنا حتى كتابة هذه الرسالة»، وتنتهي الرسالة بقولها:

«ونحن هنا نضع بين أيديكم نماذج من هذه الأقوال مفترضين أن الواجب الشرعي يحتم إحالته على المحكمة الشرعية ومواجهته بالأقوال المنسوبة إليه والحكم عليه شرعا بما يستحق. فإن مما لا شك فيه أن قضية المدعو تركي الحمد ومغالطاته وتعديه على الدين وأهله أمر لا يجب السكوت عنه وهو أمر خطير والسكوت عنه أمر أخطر».

وبرزت فئة مماثلة للدكتور الحمد في المملكة العربية السعودية خصوصا في أعقاب حوادث 11 سبتمبر/ أيلول التي دفعت الولايات المتحدة بالدعوة للشراكة مع الشعوب ما أتاح الفرصة أمام المثقفين المعتدلين من العناصر الليبرالية للظهور بعيدا عن عالم الخوف الذي سيطر على المثقف السعودي.

وكان لأقلام هؤلاء دور بارز في الدفاع عن وطنهم ضد التهم الباطلة التي وجهتها الولايات المتحدة للمملكة بضلوعها في الإرهاب، وتبادلوا العرائض مع المثقفين الأميركان وتحاوروا من خلالها، وهم يواصلون معركتهم إلى جانب الحكومة السعودية من خلال كتاباتهم في مختلف الصحافة المحلية والعربية والخارجية ما نبه الحكومة إلى أهمية التعامل بشكل مرن مع هؤلاء المثقفين المعتدلين.

وازدادت حاجة القيادة السعودية لهذه الفئة الليبرالية المعتدلة لقدراتها الثقافية والسياسية من جهة ولأنها صارت تواجه عنفا عاما من قبل العناصر المتزمتة، ومن هنا فإن الحكومة السعودية إثباتا لحسن نواياها في رغبتها للإصلاح أعلنت عن استعدادها لإقامة مجالس بلدية منتخبة بعد عام من تاريخ صدور البيان، وتركي الحمد كان من بين هذه الأقلام القوية التي تواصل دورها في إبراز الحقائق أمام العالم من خلال طرح رؤاه بأن الدين لا يتعارض مع الفلسفة الليبرالية.

وفي رد تركي الحمد على سؤال لإحدى الملاحق الثقافية لصحيفة «الجزيرة» السعودية يشعر القارئ كيف تمكن أن يوصل أفكاره إلى قرائه وفي وقت مبكر من حياته الثقافية والفكرية الصاخبة المليئة بالتحديات إذ يقول «لم أهتم بأمر كهذا... إنما ما أردت أن يصل إلى القارئ هو ذلك الألق الطويل من المواقف المثيرة للدهشة... فكانت الثلاثية أملا مهما وطموحات عزلاء إنسانية المنظور... غنية في جلالة ألمها، مناضلة للخروج من العادي والسطحية والمألوف. كنت تواقا إلى أن يصل العمل إلى مستوى الرضا. فكان لي ما أردت تقريبا. لم أعد أرتب أي أمر يصلني بالقارئ سوى هذا الكم الهائل من السرد بالصراحة نوعا ما».

ولفت نظري رده الآخر عن كتابه المقبل عندما كشف قائلا: «أعد هذه الأيام عملا روائيا استنبط فيه أهم حدث وقع في العالم (11 سبتمبر/ أيلول) وأحاول أن أبني في هذا السياق مفردة إجابة واضحة لا تقبل الجدل الطويل عن ما هية هذه الأسئلة المحيرة عن أسباب إقدام مجموعة من الشباب على هذه الخطوة التي تعد هي الأخطر في التاريخ الحديث». ويضيف: «كلنا نعلم أن هؤلاء الشباب الذين قادوا تلك الطائرات في رحلة الموت نحو أبراج التجارة العالمية كانت لديهم جملة من الأسئلة المقلقة والمحيرة تلك التي تبدأ من تاريخهم الأول في إعلان الجهاد على يدي مؤسس مفهوم «الجهاد المقدس» الشيخ عبدالله عزام حتى موته أو اغتياله العام 1987م وما تلاه من «ألغاز» تتمثل في تاريخ هذا الحادث الذي جعل الأمر يزداد غرابة وفرادة».

إن تركي الحمد هذا المفكر الذي صمد بشدة أمام التيارات والأمواج المرعبة التي وقفت تحاربه من دون هوادة منذ بدايات الدخول في ساحة العمل الروائي الذي يقول عنه الكاتب عبدالله الناهسمي الشهراني «أتمنى أن يكتب الدكتور تركي يوما ما أن أحلامه قد تحققت رغم صعوبتها. وكم هو رائع في مهاجمته لغرائز الكره والحقد والتعصب الأعمى وحب القتل والسلاح». جاء ذلك تعليقا له على مقال لحمد عن أحلامه حين يقول: «الحلم شيء جميل، بل إنه شيء لذيذ، فعلى رغم أنه كثيرا ما يكون نوعا من الهروب من قسوة الواقع من ناحية، إلا أنه كثيرا ما يشكل نوعا من الحافز للبحث عما في الحياة من جمال، ومحاولة تحقيق هذا المجال، وفي ذلك يكمن معنى الإنسان وغايات الإنسان من ناحية أخرى، فالإنسان أولا وأخيرا كائن حالم، ولولا الحلم ما كانت الحياة ذاتها، قد يكون الحلم مجرد هروب من الواقع إذا كان هو المسيطر على الذهن فقط، ولكنه أحد بواعث الحياة والحافز على تحقيق الآمال إذا كان جزءا من الحياة وليس اختزالا لكل الحياة فالحلم هو التاريخ الحقيقي لحياة الإنسان على هذه الأرض إذ لولاه لما كان هناك أي نوع من التاريخ المعاش». ولا ننسى أن استكمال دراسته الجامعية والعليا بالولايات المتحدة وبقاءه فيها لأكثر من عقد من الزمان ربما كان أيضا من بين عوامل تشبثه بالفكر الليبرالي وتعمقه في نفسه.

من هنا فإن المفكر والروائي السعودي تركي الحمد منذ بدايته في العمل السياسي وهو يصر على أنه لا خلاف بين ثقافتنا وبين قيم الليبرالية إذا ما استلهمنا النصوص القرآنية بقراءة مختلفة ومفتوحة ما يكشف تشبثه بالفكر الليبرالي المتصالح مع الدين الإسلامي، فهذه هي الجذور التاريخية للفكر الليبرالي عند الدكتور تركي الحمد، وقد بدأت ملامح من أحلامه تظهر إلى السطح ولا ندري ماذا تخبئه الأيام القادمة له ولمن أ خلصوا من زملائه لفكرهم الليبرالي؟ لكن الذي يعرفه الإنسان أن عجلة الزمان لن تعود إلى الوراء فهذه طبيعة الحياة

العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً