العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ

لماذا فشل المشروع الإسلامي في السودان؟ (1- 2)

خالد أبو أحمد comments [at] alwasatnews.com

تجربة الاسلاميين في السودان بما لها من صيت في ساحة الصراع الفكري الايديولوجي العالمي لم تحظ بالتناول الذي يكشف عن تكوينها الداخلي وعلاقة القاعدة بالقيادة ودقائق الحوادث التي مثلت مفاصل مهمة في تاريخها الطويل.

لم يكن طريق (الإنقاذ) الذي جاء الى السلطة في السودان لتحقيق احلام واشواق الاسلاميين في قيام دولة اسلامية مفروشا بالازاهير... وشأن كل الأنظمة التي مرت على حكم السودان واجه الكثير من المخاطر السياسية والاقتصادية والعسكرية وان لم تبدُ للإنسان العادي ولكن المراقب للحوادث من موقع قريب يدرك أن سنوات حكم نظام «الانقاذ» التي مرت لم تمر مر السحاب. كانت الحركة الاسلامية التي جاءت بالانقلاب العسكري تحمل في داخلها بذور الخلافات الداخلية وكان أكثرها خطورة الخلاف الكبير الذي حدث بين مؤسس الفكرة «الانقاذية» ورئيس الجمهورية والتي سميت بحوادث «الرابع من رمضان» التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحركة الإسلامية السودانية مؤدية في نهاية المطاف بفراق العسكر من المدنيين بقيادة حسن الترابي السياسي الأكثر إثارة للجدل في الخمسة عقود الماضية من القرن الماضي.

بل إن الحوادث التي أبعدت الزعيم الإسلامي عن الحكم مثلت بالنسبة إلى السودانيين الإسلاميين نقطة تاريخية من الصعب على تاريخ المنطقة والامة الإسلامية تجاوزها لقوة الحركة الإسلامية السودانية وقوة استقطابها وقوة ترويج أفكارها للإسلاميين في العالم قاطبة سيما وان الكثير من الحركات الاسلامية العربية كانت ترى في الحركة السودانية الانموذج الامثل، ولذلك وجد النظام السوداني في بدايات ظهوره الدعم «الاسلاموي» العربي والخليجي الامر الذي دعى زعيم منظمة القاعدة اسامة بن لادن الى الاقامة في السودان، وبكل تأكيد كانت هي الفترة الاكثر حيوية بالنسبة إلى الرجل في ان يعمل بصمت وقد كانت نتيجة لذلك كل الحوادث التي قامت بها «القاعدة» في العالم .

وقد أختلف في تحديد بداية الاختلافات التي أدت إلى «خلافات البشير- الترابي» فهناك من يقول إنها بدأت قبيل التحول من حال الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية (الانتقال من حال الثورة الى دولة المؤسسات) ومن المراقبين من يقول إنها بدأت بعد محاولة اغتيال الترابي في مطار أوتاو في كندا صيف 1992، وهناك من يحسب أن الخلافات الحقيقية بدأت بعد اتهام السودان بتدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا وآخرون غير متابعين لحركة الإنقاذ الوطني قالوا إن الاختلافات الحقيقية بدأت عندما برزت قضية التعديلات الدستورية في الانتخاب المباشر للولاة من القاعدة الشعبية ذلك الاختلاف الذي انحصر فيما بين رئاسة المجلس الوطني (البرلمان) ورئاسة الجمهورية التي كانت ترى «على الأقل» إرجاء أمر التعديلات إلى وقت آخر ، بينما كانت رئاسة المجلس التي يرأسها الترابي كانت ترى غير ذلك.

بعد ازدياد الاختلافات داخل الحركة الإسلامية وتفكير الترابي في ايجاد الحلول ومناداته الدائمة لبعض اصحابه بمصالحة حزب الأمة، وبالفعل بعد أكثر من ثلاثة أعوام من شدة الصراع بين الإسلاميين التقى الترابي رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي (في جنيف)، لكن أجهزة الإعلام لم تتمكن من كشف الأجندة الخاصة والسرية لاتفاق الصادق المهدي مع الترابي في لقاء جنيف والذي يكمن في الموافقة على استحداث منصب رئيس وزراء في ظل النظام الرئاسي وتعيين الصادق المهدي فيه، وبعد عودة زعيم الحركة الاسلامية من هذا اللقاء بدأت حركة الصراع تأخذ أبعادا جديدة داخل كيان الإسلاميين، وبشكل اكثر شراسة وقد علم الجانب الآخر من الحركة الاسلامية ما خرج به اجتماع جنيف الذي رعاه الامين العام للملكية الفكرية كامل ادريس!

كانت هناك اختلافات في وجهات النظر منذ تأسيس الحركة وهذا شيء طبيعي للغاية وأكبرها وأعظمها اختلاف وجهات النظر عند دخول فصيل الترابي في مصالحة وطنية مع «نظام مايو» بقيادة جعفر نميري في 1977 وعلى إثر ذلك انشقت مجموعة «الاخوان المسلمين» بقيادة صادق عبدالله عبدالماجد يوسف نور الدائم، ولم يكن ذلك من الخطورة بمكان بحيث يؤثر في مسيرة الاسلاميين الى أن جاءت انتفاضة أبريل/ نيسان 1985م التي جاءت بالنظام الديمقراطي وظهرت الحركة الاسلامية أكثر قوة على مواصلة برنامجها فدخلت الانتخابات وفاجأت المراقبين باحتلالها المركز الثالث واكتساحها جميع دوائر خريجي الجامعات. وعندها تحالف حزبا الأمة والاتحادي الديمقراطي فشكلوا حكومة ائتلاف وأصبحت الجبهة الاسلامية القومية في موقع المعارضة.

علي عثمان زعيما للمعارضة

ولما كان أمين عام الجبهة الإسلامية القومية الترابي المعارِضة الإسلامية في الجمعية التأسيسية (البرلمان) يرى أن مجموعة الشباب داخل المكتب القيادي لهم طموحات كبيرة ورؤى ووجهات نظر يكن لها الاحترام والتقدير. جاءت اللحظة التي يتعين فيها اختيار زعيم المعارضة في البرلمان والكثير من الشيوخ داخل القيادة ينظر إلى نفسه على أنه الأحق بهذا المنصب وراح كل منهم يلمع نفسه من خلال صحف المعارضة، مثل صحيفة «الراية» لسان حال الجبهة الاسلامية، وصحيفة «ألوان». ولكن الترابي أشار الى مجموعة كبيرة منهم باختيار علي عثمان محمد طه، ولم تكن إشارات الترابي لدى المكتب القيادي إلا أوامر وتعليمات في نظر الكثير منهم، وجاءت لحظة الاختيار من داخل الاجتماع التاريخي والكل يعلم أن زعيم المعارضة هو الشخص الذي أشار اليه الترابي. وتم الاختيار رسميا وأعلن في صحافة المعارضة، وقد وجد تعيين علي عثمان محمد طه زعيما للمعارضة في البرلمان ترحيبا واسعا من قاعدة الحركة الإسلامية، لكن أشخاص بعينهم كانوا رافضين لهذا التعيين على رغم أن هذا التعيين تم بالشورى، ولكن من يجرؤ على المجاهرة والافصاح بوجهة نظر داخل مكتب الشوري تتضارب مع وجهة نظر الأمين العام التي هي في نظر البعض مقدسة ولا يمكن بأي حال من الأحوال الإتيان برأي مخالف لها... المهم تم اختيار المحامي الشاب زعيما للمعارضة على رغم الرفض الداخلي والاستهجان المحدود وسط مجموعة من الشيوخ كل منهم يرى نفسه الأحق بزعامة المعارضة للتاريخ الطويل في الحركة الإسلامية والمجاهدات المتواصلة منذ أيام جبهة الميثاق الإسلامي وحركة الاخوان والجبهة الإسلامية القومية وارتياد السجون والمعتقلات في الكثير من الأنظمة التي حكمت السودان والعمل في الجهاد المسلح في صحراء ليبيا وأدغال إثيوبيا.

ولكن لم تشفع لهم كل هذه المجاهدات أمام ثورة الشباب العارمة. من هنا بدأت الأزمة الحقيقية داخل الحركة الإسلامية بين وجهتي نظر الأولى ترى أن الترابي يملك زمام الحركة بشكل فردي ويتحكم في القرارات كافة. الثانية ترى أن الترابي هو الماكينة الفكرية والقيادة التاريخية وهو الذي أسس الحركة الإسلامية بشكلها الحديث من خلال آرائه الفكرية في أسلمة السياسة فلا ينبغي اختيار قيادة أخرى مادام حيا يرزق.

وكان الخلاف الثاني الذى جاء فوجد الجبهة الاسلامية القومية قد تصدعت شيئا ما وأصبح هناك تكتلان داخل مكتب القيادة، لكن تنظيم الاسلاميين لم يكترث بحسبان أن الخلافات في وجهات النظر ظاهرة صحية وطبيعية وأمكن للجبهة مع سخونة الجو السياسي في فترة الديمقراطية الثالثة تجاوز مهدداتها الأمنية كافة ولم تكن خلافاتها الداخلية تؤثر في وحدتها لأن القاعدة الشعبية بعيدة كل البعد عن هذه الخلافات وكانت عندما تسمع أن هناك خلافات تستهزئ بهذه الأقاويل باعتبارها محاولة لشق الصف، بل كانت القاعدة تحسب أن وجود خلافات وسط قياداتها وشيوخها من المستحيلات... ولكنها كانت موجودة.

مشروع التمكين... تسلم السلطة

جاء العام 1989 ودخلت الجبهة الإسلامية مع الأحزاب الطائفية في حكومة سميت حكومة «الوفاق الوطني» ولم تكن على وفاق أبدا، فكان جهازها الأمني مستيقظا يرصد ما يجرى في الساحة من اتصالات سرية خارجية مع جهات حزبية وعسكرية في الداخل: فعقدت الجبهة الإسلامية القومية على مستوى المكتب القيادي ومكتب الشورى القيادي اجتماعا كان الأخطر من نوعه ونوع الأجندة المطروحة ومنها كان واحدا باسم التمكين.

ومشروع التمكين كان مشروع تسلم السلطة، ولم يكن طرح مشروع تسلم السلطة للمرة الأولى فقد سبق طرحه ونوقش ولم يوافق عليه لأن المستقبل بحسبان قيادة تنظيم الاسلاميين مازال يحتاج الى أن تلعب فيه الحركة الإسلامية سياسيا دورا كبيرا، ولم تكن هناك أية ضغوط على الحركة شديدة وقوية ولم يكن في الساحة من يفكر في انقلاب عسكري والكل مبتهج بالحرية والديمقراطية. ولكن لماذا طرحت الجبهة الإسلامية مشروع تسلم السلطة للمرة الثانية؟وفي ذلك الوقت بالذات؟!

الجهاز الأمني الخاص بالجبهة وبحسب معلوماتي المتواضعة كان قد رصد حركة اتصالات خارجية واسعة مع عسكريين سودانيين عقائديين في الداخل، علاوة على أن الحكومة المصرية كانت جاهدت لتغيير سياسي في السودان يحافظ على مصالحها فيه، في وقت انتشرت فيه أدبيات الاسلام السياسي على نطاق واسع وصادف ذلك فعلا اكتساح الطلاب السودانيين التابعين للحركة الاسلامية السودانية الانتخابات الطلابية في مصر وكل المقاعد وأصبح البرنامج الاسلامي يتم تداوله داخل المجتمع الطلابي المصري، وفي الحقبة ذاتها التي كانت عناصر الاخوان المسلمين المصرية تفوز فيها بالكثير من الاتحادات النقابية وأصبح «الخط الاسلامي» يحاصر مصر من الداحل ومن السودان.. ولم يكن غريبا أن تظهر في الأجواء محاولات مصرية جادة لدعم أي تفكير في انقلاب عسكري في السودان. وكان الوسط الصحافي يدرك بحاسته الصحافية تلك المحاولات - ليست المصرية فحسب بل العراقية بواسطة حزب البعث العربي الاشتراكي الموالي لبغداد، اضافة الى المراقبين في السودان والمحللين - ويدرك أن اكتظاظ طرقات العاصمة الخرطوم بالأجانب وهم يصولون ويجولون بسياراتهم آنذاك ما هي الا علامة لتغيير مفاجئ سيحدث في السودان خصوصا اذا وضعنا في الحسبان الاختراق الأمني للحدود من الجهات كافة بداية بالحرب الأهلية في غرب السودان مع الحدود التشادية، والجبهة الجنوبية المستعرة باستمرار، اضافة الى الجبهة الشرقية التى كانت بين الفينة والأخرى تشتعل بواسطة العصابات المشهورة التي كانت تحرك بين السودان واثيوبيا ومصر في الشمال وكانت تتناصب النظام السوداني العداء كرد فعل لطرح المشروع الاسلامي.

الجبهة الاسلامية وضعت كل هذه النقاط في حساباتها وكانت أجهزتها الأمنية تخترق مجموعة من الضباط الذين كانت ستتم عبرهم محاولات انقلابية، بل كانت (ساعة الصفر) تحت يدها - هذا ليس تضخيما لامكانات الحركة الاسلامية ولكنها حقائق مجردة - وعندما انعقد اجتماع مكتب القيادة والشورى كانت كل المعطيات أمام الاجتماع للخروج بنتيجة واضحة بخصوص تسلم السلطة أو عدمه وهذه المرة كانت الموافقة كلية وبنسبة 100 في المئة وحتى الذين كانوا قد رفضوا الفكرة في المرة الأولى كانوا أكثر المتحمسين للمشروع الذي سمي «التمكين»! ولم يناقش ذلك الاجتماع الكيفية أو التفاصيل بل أوكلت دراسة وتنفيذ المشروع برمته للأمين العام حسن الترابي دون أن يحدد التاريخ أو الوسيلة.

الانقلاب الداخلي

الاسلاميون داخل كيان الحركة الاسلامية الحديثة يعرفون تماما أن عملية محاولة اغتيال الترابي في كندا (مايو/ ايار 1992م) وما تلاها من حوادث كانت انقلابا حقيقيا داخل الحركة أذكر بثقة شديدة وبذاكرة متقدة أنه قبل سفر الترابي الى كندا برز الى السطح حديث عن ضرورة تكثيف الحماية الأمنية على الترابي. وقبل ثلاثة أيام فقط من مغادرته مطار الخرطوم التقت مجموعة من قادة الحركة بالترابي وأبلغوه شفاهة وأنه مغادر الى كندا والولايات المتحدة الأميركية لابد من وضع احتياطات الأمن والسلامة كافة، ولم يهتم الترابي بهذا الحديث واعتبره مجرد اشفاق عليه وأنه بقوة الله يغادر.

وضرب تكتم شديد على برنامج الزيارة وانحصرت معرفة البرنامج في شخص أو شخصين، حتى أقرب الإعلاميين من الترابي ما كان يعلم بالبرنامج فغادر الترابي الى حيث ذهب بصفة شخصية وليس بصفة رسمية وحدث ما حدث هناك في كندا وكان وقع الخبر على الاسلاميين في السودان كالصاعقة في ذلك الشهر من أشهر صيف السودان الساخن من العام 1992م. علما بأنه حتى تاريخ مايو 1992 ومحاولة الاغتيال لم يكن «التنظيم الاسلامي» قد حل بعد، وكانت كل القطاعات التنظيمية تسير وفق ما خطط لها.

جاء حسن الترابي من كندا ووضع تحت المراقبة الصحية وأبعدت عنه في تلك الفترة كل ملابسات الحوادث التي حدثت في غيابه، ولكنه كان يعلم أن شيئا ما قد دبر أثناء غيابه وكان يسأل عن أمور بعينها ولا يجد إجابات شافية لأن المسئولية قد انتقلت الى آخرين دون علمه. لم يمر هذا الحدث مرور الكرام داخل الحركة الإسلامية وبدأت العداوة والبغضاء ترتسم على علاقات الإسلاميين الموالين للشيخ والموالين للقيادي الشاب علي عثمان محمد طه. وحتى لا يصبح الترابي من دون عمل فاعل، ولأنه اشتهر بالحيوية والحركة الشديدة والمتواصلة تم إقناعه على مضض بترك العمل الداخلي والتفرغ النهائي للعمل الخارجي تحت دعاوى أن المسلمين في أنحاء الكرة الأرضية يحتاجون إلى ماكينة فكرية في حجمه وأن المستضعفين من المسلمين في الأرض (الحركات الإسلامية) تحتاج لمن يلم شملها ويأخذ بيدها ويحرك فيها الروح تجاه المخططات الغربية، وكانت المظلة لهذا العمل هي «المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي» ومن داخله كانت تخرج الأفكار والدراسات والمواجهات، ما هي الا ايام قليلة وكان الاسلاميون المعارضون لانظمتهم يملأون طرقات العاصمة الخرطوم من تونس وليبيا والجزائر والسعودية، وكانوا من خلال هذا التنظيم العالمي الذي تبنته الخرطوم لحل مشكلة الترابي في الحكم يتحركون في السودان بكل حرية وقد استخرجت للكثير منهم الجوازات السودانية وتم تسجيل الكثير منهم في الجامعات، واعطي الغالبية منهم مشروعات استثمارية في قلب العاصمة في شكل كافتيريات سياحية باعفاءات من الضرائب والاتاوات التي تأخذها الحكومة غالبا من المحلات التجارية.

وهؤلاء العرب المعارضون كانت احوالهم المادية جيدة للغاية اذ كانت تصلهم التحويلات المالية من دول اوروبية وغربية، وفي الوقت ذاته انشغلت الاطر التنظيمية باعداد هؤلاء المعارضين في تنظيمات فئوية فالطلاب منهم كانوا في اتحاد الطلاب العرب الوافدين وعلى هذه الشاكلة اصبحوا جميعهم في قوالب تنظيمية، ليسهل على الأجهزة السودانية التعامل معهم.

وكانت نفقات هذه الأعمال تخرج من الموازنة العامة للدولة الأمر الذي أدخل الحكومة السودانية في مشكلات كثيرة مع المجتمع الدولي واستطاعت من خلاله مصر والولايات المتحدة تأليب العالم بأسره على السودان تحت دعوى احتضان السودان للإرهاب، ولكن هل ابتعد الترابي عن ممارسة مسئولياته من منطلق رئاسته وقيادته الحركة الإسلامية في تصريف بعض الأمور ذات الصبغة التنفيذية فيما يتعلق بالشأن الداخلي السياسي وغيره؟ هنا كان مصدر الصراع بينه وبين تلميذه علي عثمان محمد طه ، وطبعا كان رئيس البلاد عمر البشير يرقب عن كثب ما يدور داخل دوائر الحركة وتأثيرات الناتج عنه في دولاب العمل الرسمي. بل لم يكن عمر البشير بعيدا، فقد كانت التقارير تصل اليه من عدة مصادر، منها ما يسمعه من علي عثمان نفسه ومن آخرين تضرروا من قيادة الترابي.

وفي هذا الصدد كانت دوائر سياسية خارج الحركة الإسلامية تتهم الرئيس عمر البشير بأنه دمية في يد قادة الحركة وذلك من الصورة التي بدأت في الظهور من خلال وجود الافغان العرب المتزايد، وازدياد نبرات التحدي ضد الولايات المتحدة والدول العربية ووصفها من خلال الاعلام السوداني بشكل كثيف بأنها ذنب اميركا ، ولم تكن مسألة اتهام رئيس الجمهورية دمية في ايادي قادة الحركة الاسلامية، صحيحة ألبتة - اذ لم يجد الرئيس فرصة الا وانتهزها وبيّن فيها للإسلاميين المتصارعين علمه بدقائق صراعاتهم وتأثيرها على مستقبل الحكم في السودان. وكانت مجموعة قليلة ذهبت للقاء الرئيس لشرح وجهة نظرهم فيما يدور داخل الدوائر الخاصة بالحركة الإسلامية، ولكن الرئيس رفض سماع ما يريدون قوله بحجة أن ذلك شأن داخلي وهو ليس معنيا به. ولم تكن تأثيرات ما بعد حادثة كندا تقف عند هذا الحد، بل راحت مجموعة كبيرة من المعارضين لقائد الحركة يشيعون أن عقلية حسن الترابي تأثرت أيما تأثير نتيجة الضربة الشديدة والقوية التي تعرض لها في رأسه على يد لاعب الكاراتيه هاشم بدرالدين... وأخذت هذه الشائعات تأخذ أبعادا كثيرة وخطيرة لابعاد الترابي نهائيا عن ساحة العمل الدعوي والتنفيذي الذي اعتاد الترابي قيادته قرابة الخمسة عقود حتى ان تحليلات كثيرة في الساحة حينها ألمحت الى أن حادث كندا دبرته عقول ( سودانية ) ومن داخل المتصارعين على النفوذ في الحركة الإسلامية بل اتهمت شخصيات بعينها اعتادت أسلوب الإقصاء بشكل غير معهود في أدبيات الحركة الإسلامية..!!

لكن على رغم ذلك ظل الترابي يمسك بالمفاتيح المهمة للغاية في لعبة الحكم في السودان الأمر الذي أوجد الكثير من الهواجس في نفسية رئيس الجمهورية عمر البشير حتى انه أعلن ذات مرة في لقاء مع مجموعة من قياديي الحركة ومن بينهم الترابي نفسه أن كثيرا من القرارات تصدر من غير معرفته بل من غير أن يتم التشاور معه فيها، فكانت بالتأكيد لم تكن الأسباب المذكورة آنفا هي وحدها التي أدت الى قرارات الرابع من رمضان التي احالت الترابي ومجموعته من الساحة السياسية فرصة مواتية لآخرين لكي يوغروا صدر الرئيس وعرفوا فيما بعد بمجموعة (مذكرة العشرة) الذين كانوا يرون أن رئيس الجمهورية بلا صلاحيات حقيقية وان الصلاحيات في يد الترابي الذي كان يرأس المجلس الوطني (البرلمان) ويرأس الحزب الحاكم وان هذه الصلاحيات تجعل من رئيس الجمهورية ديكورا فقط ليس الا وتجعل من الترابي الحاكم الفعلي والحقيقي للسودان وبيده مقاليد الأمور... ويقول المراقبون السياسيون ان مذكرة العشرة هي أول صرخة داخل الكيان تندد بأسلوب الترابي في تمسكه بالصلاحيات كافة، ويضيفون أن المذكرة أحد العوامل الاستراتيجية التي أدت الى قرارات الرابع من رمضان ومن ثم أدت الى ابعاد الترابي من الحكم.

قاعدة الحركة واعتلال المنهجية

قال ابراهيم الرفاعي أبوالحسن في مقال له بعنوان «عندما يتحدث الصامتون» - نشرته صحيفة «الصحافي الدولي» السودانية في العام 2000م « ان السنوات الماضية أثبتت اتساع الفجوة بين شيخ الحركة الإسلامية ومعشر حملة الشهادات الذين يعانون من أسقام مجتمعات العالم الثالث مثل القصور الذاتي والكسل العقلي وسكون العزيمة وخصوصا أن الشخصية السودانية تتميز بضعف بنيتها لحداثة تكوينها، وقد أدى ذلك بدوره إلى إصابة الحركة الإسلامية بمرض الطفولة الذي أسماه الأستاذ الطيب بو عزة ( عقدة الشيخ والمريد ) وأعراض هذا المرض هي تحلق مجموعة من المريدين حول الشيخ الذي يمارس نوعا من الجاذبية والنفوذ على مريديه تصل الى درجة الاستحواذ والافتتان» فيمنح الشيخ ثقة عمياء غير محدودة، ونجد في هذا الصدد نماذج غاية في الغرابة تحتاج الى دراسة مفصلة.

ثم يقول ابوالحسن: «ابتليت الحركة الإسلامية السودانية بنشوء طبقة من السياسيين المحترفين حجبت القاعدة عن القيادة فأفرزت الكثير من التشوهات والانحرافات دفعت البعض من شريحة الوعي إلى العزلة الاختيارية أو الجلوس في المقاعد الخلفية، وانقسمت الغالبية الباقية الى فرقتين فرقة المريدين تبرر ما يحدث من الأخطاء غاية في الأهمية هي السبل كافة الى ما حدث أخيرا» والتجاوزات بتبريرات لا تقنع أحدا، أما الرافضة فيروجون أنهم مغلوبون على أمرهم لأن الشيخ ممسك ولا يتنازل عن شيء..واذا حاول أحدهم أن يمسك ويصر على رأيه يصنف من قبل المريدين بأنه ( حاقد على الشيخ ) فيخطط لابعاده نهائيا أو الصاق التهم به... فلا يلبث أن يوافق على كل ما يقوله الترابي!

وبدى واضحا ان القاعدة الشعبية التي كانت لدى الاسلاميين انهارت تماما بعد بروز الخلافات التي اكدت فيما بعد مستوى الخصومة بين المتصارعين والمستوى الذي وصل اليه (الاسلاميون) في مفارقة قيم الاسلام وادبيات الحركة الاسلامية التي عمقتها في اعضائها طيلة 50 عاما المنصرمة من عمرها.

إن الفكر الإسلامي هو نتاج العقل المسلم منطلقا من الدين الإسلامي، فالفكر والمنهجية الإسلامية الفاعلة هي أساس أي بناء حضاري، وما عايشه الشعب السوداني في تجربة الحركة الإسلامية السودانية من العام 1989م الى فترة الصراع المكشوف بين القيادتين فيما عرف بصراع (البشير- الترابي) هو اعتلال في الفكر (الاسلاموي) الذي جاءت به الإنقاذ في كل المجالات وخصوصا السياسة. وعلى رغم وجود نظرية اسلامية، فإن الحركة الإسلامية لم توفق في تقديم حلول للمشكلات التي يطرحها وطرحها الواقع في ضوء تلك النظرية وقيم الدين أي تأصيل حلول لقضايا المجتمع السوداني من خلال رؤية سليمة للمذهبية الإسلامية، مثل: قضايا تداول السلطة والتقسيم العادل للثروة والقضاء على الفقر والمرض وتردي الخدمة المدنية. والمتابع والمعايش للتطورات في الجماعة الحاكمة في السودان في الفترة من 1995 إلى 2000 يجد الحركة الاسلامية فشلت حتى في الحفاظ على كوادرها الخاصة في المقام الأول من الوقوع في الممنوعات والمحظورات وقد بدأ فناء الحركة الاسلامية التي كانت ملء السمع والفؤاد في هذه الفترة الامر الذي بين بشكل واضح الاستقالات الجماعية للشباب الاسلاميين من الاجهزة الامنية والنظامية لانهم وجدوا ان الاهداف العظيمة التي من اجلها دخلوا الحركة الاسلامية ضاعت سدى بعد تسلم الحركة للحكم

إقرأ أيضا لـ "خالد أبو أحمد"

العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:13 م

      محمدجار النبي

      الاستاذ المحترم خالد ابواحمد
      تحية طيبة..
      قرأت المقال واعجبت به كثيراً وقد اوردت حقائق لم أكن اعرفها في فشل النظام السوداني وانا مغترب لأكثر من 20 عاماً ولا اعرف في الحقيقة ما يدور في البلد من تطورات لكن هذا المقال الجميل كشف لي عن معلومات لم تكن في حسباني..
      شكرا جزيلا على تنويرنا بالأسباب التي جعلت بلادنا الآن تتصدر كل تقارير الفشل في العالم من الشفافبة وإلى الفساد المالي والبلد الاكثر عنفاً ..إلخ..

اقرأ ايضاً