العدد 443 - السبت 22 نوفمبر 2003م الموافق 27 رمضان 1424هـ

ديمقراطية القرن الواحد والعشرين!

معنى خطاب بوش عن الحرية في «الشرق الأوسط»

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

قال الرئيس الأميركي الثالث جون آدمس في العام 1772، ان هناك ثلاثة انواع من الانظمة السياسيّة هي: الملكيّة، الارستقراطيّة والديمقراطيّة. تميل الاولى إلى الطغيان في وقت من الاوقات. تميل الثانية إلى الفرقة والتنازع على السلطة. اما الثالثة، فقد تنحو نحو الفوضى العارمة. كل ذلك بسبب الطبيعة البشريّة. وتجنبا لذلك، رسا النظام السياسي على مزيج من الانظمة المذكورة اعلاه.

حاليّا وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تبدّلت الارضيّة الايديولوجيّة للعالم الغربي بشكل جذري. وهذا ما عبّر عنه الكاتب الأميركي روبرت كاغان في كتابه «القوّة والضعف». فماذا عن هذا الكتاب؟

يقترح الكاتب التوقّف عن الادّعاء ان أميركا وأوروبا متساويتين في القوّة. فهذا خطأ، لان أميركا اقوى بكثير. فالأميركيون هم من كوكب مارس، أما الأوروبيون فهم من كوكب فينوس. أميركا تشعر ان العالم هو عالم هوبزي (نسبة إلى هوبز)، حيث الغلبة هي للاقوى. اما أوروبا، فهي تعيش في عالم كنطي نسبة إلى كانط، حيث السلام المستمرّ. وبسبب الفوارق في القوّة العسكريّة الهائلة بين الاثنين لصالح أميركا، أصبح لا بد من ان تكون هناك فوارق في المقاربات الايديولوجيّة. فإن سيكولوجيّة الضعف والقوّة، تجعل الاقوى ميّالا لاستعمال القوّة بدل الدبلوماسيّة لتحقيق اهدافه. اما الاضعف، فإنه يميل إلى الطرق الدبلوماسيّة التقليديّة غير العُنفيّة. فأوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية، سعت جاهدة إلى الاندماج الاقتصادي الذي يليه اندماج سياسي، وابتعدت بذلك عن اعتماد سياسة القوّة سبيلا لتحقيق الاهداف القوميّة. لكن الفضل في ذلك، يعود إلى المظلّة الامنيّة الأميركيّة. إذا أوروبا تعيش في عالم ما بعد القوّة. أما أميركا فهي عادت إلى عالم كانت تحاربه، فأصبحت تمثّل القوّة بحد ذاتها. وفي هكذا وضع، تبدّلت الادوار. فأصبحت أميركا تميل إلى القوّة، وأوروبا تعاندها. ويبدو العراق وكأنه خير دليل على هذا التناقض الاساسي بين المفهومين.

لاتزال أميركا تسعى إلى نشر الديمقراطيّة. لكن التحوّل الجذري في الممارسة الأميركيّة، هو في أن الديمقراطيّة أصبحت السبب الاساسي للذهاب إلى الحرب. وذلك بعد ان كانت، السبب الاساسي لتجنّب الحرب، وذلك انطلاقا من المبدأ الذي يقول: «الديمقراطيّات لا تقاتل بعضها بعضا».

وإلا فما معنى الخطاب الاخير الذي ألقاه جورج بوش عن هذا الموضوع؟ فماذا عنه؟

- أراد بوش ربط موضوع الديمقراطيّة في «الشرق الأوسط» بمشروعه الكبير في المنطقة. فالوجود الأميركي في المنطقة سيشجّع انتشار الديمقراطيّة على غرار ما حصل في أوروبا الشرقيّة. آنذاك، كان الكونغرس الأميركي قد سمح للرئيس بالمساعدة على نشر الديمقراطيّة عبر قانون خاص، الأمر الذي يظهر الاهتمام الأميركي بهذا الموضوع.

- كذلك الأمر ومن خلال الخطاب، اراد بوش تثبيت مبدأ «الاستراتيجيّة المتقدمّة للحريّة». فحيث توجد أميركا عسكريّا، ستنتشر الحريّة بالتأكيد. وقد يذكّرنا هذا المبدأ، بما كان يُطلق على الوجود الأميركي العسكري المتقدّم لقوات المارينز. وإذا ما غابت الديمقراطيّة عن منطقة ما، وكانت مهمّة للأمن القومي الأميركي، ولم تنصع الدول المعنيّة لمطالب الولايات المتحدة. فإن مبدأ السيادة المشروطة سيعتمد. ويقوم هذا المبدأ على المفهوم الآتي: لدولة ما، أيّة دولة سيادة، طالما هي تنفّذ ما تطلب منها أميركا، خصوصا إذا كان الأمر يتعلّق بما يُسمّى بالحرب على الإرهاب. والعكس قد يعني خرق سيادة هذه الدولة والتصرّف انطلاقا من مبدأ حق الدول في الدفاع عن نفسها. حتى أنه يأتي على ذكر لاسلحة الدمار الشامل.

- انتقد بوش سياسات أميركا السابقة في المنطقة، التي قامت على دعم انظمة ليست ديمقراطيّة. وأدّت تلك السياسات إلى غياب الديمقراطيّة والحريّة عن تلك المنطقة، الأمر الذي أدّى إلى تزايد الإرهاب.

- لكن الأمر الأهم والأخطر، بالنسبة إلى المحلّلين، هو ربط بوش للأمن القومي الأميركي مباشرة بنتيجة المشروع الأميركي في منطقة «الشرق الأوسط» فإذا فشل المشروع، ضُرب الأمن القومي الأميركي، والعكس قد يعني المحافظة على هذا الأمن. وقد تدلّ هذه الرسالة، عزم الادارة الأميركيّة على الاستمرار في العراق بشكل أو بآخر. وتعني أيضا، حث الأميركيين على تأييد المشروع، والاستعداد للتضحية كلما دعت الحاجة.

- لم ينس بوش إطلاق التهديدات ضدّ الدول الممانعة لاستراتيجيّته في المنطقة. كانت سورية وإيران وغيرهما في الصدارة.

- في الخطاب، ركّز الرئيس بوش على أن الدين الاسلامي الكريم، هو دين يتجانس تماما مع المفاهيم الديمقراطيّة التي يبشّر بها هو. كذلك الأمر شبّه الرئيس بوش في خطابه الوضع في «الشرق الاوسط» كما شبّهه سلفه الرئيس رونالد ريغان فيما خص الاتحاد السوفياتي في العام 1982. حتى ان بعض المعلّقين اطلق تسمية على الخطاب على الشكل الآتي: «الاسم هو بوش، لكن الفلسفة كانت فلسفة ريغان».

- واراد الرئيس بوش من ذلك، إعطاء ما يجري في العراق بُعدا فكريّا ايديولوجيّا، يتسامى به عن الواقع الاليم اليومي. فالرئيس بوش لم يشذّ عّما سبقه من الرؤساء الأميركيّين. فهم كانوا دائما يطلقون العقائد الاستراتيجيّة، واضعين الاخطار على الكيان الأميركي وكأنها يوم القيامة. وكان القصد من هذا الطرح، وتصوير وتضخيم المخاطر، فقط لتجاوز الكونغرس وجعله يوافق على صرف الاموال اللازمة للسلطة التشريعيّة. وإلا اعتبر الكونغرس وكأنه المسئول عن اي فشل أو خطر قد يقع في المستقبل. فعلى سبيل المثال، رسم الرئيس ويلسون الدور الأميركي وكأنه دور إلهي أعطي لها. أعلن ايضا الرئيس كنيدي، استعداد أميركا لدفع اي ثمن، وتحمّل أي عبء للدفاع عن الحريّة. أما الرئيس ريغان فقد اطلق شعار «امبراطوريّة الشرّ» لمحاربة الاتحاد السوفياتي. فلماذا قد يشذّ الرئيس بوش عّمن سبقه من الرؤساء؟

لكنه لا يمكن للمتابع لما يجري من تحوّل جذري على الساحة الفكريّة الأميركيّة، من ربط خطاب بوش بما يقوله عرّاب المحافظين الجدد نورمان بودهوروتز. فقد اقترح الأخير إجراء عمليّة تحويل جماعيّة للكثير من الانظمة في «الشرق الأوسط». وإن لائحته لمحور الشر تمتدّ لتشمل الدول الآتية: مصر، لبنان، ليبيا، السلطة الفلسطينيّة، المملكة العربية السعوديّة وسورية.

ما الغريب في السلوك الأميركي الحالي؟

كتب السيناتور الأميركي الراحل وليم فولبرايت عن موضوع القوّة وخطرها إذا ما استعملت بطريقة خاطئة، فيقول: «تميل القوّة إلى التماهي مع الفضيلة. فتعتقد الدول الكبرى ان هذه القوّة هي هبة من الله، أُعطيت لها لتنفيذ واجبات ما تجاه الدول الاخرى، كأن تجعلها اكثر غنى، وأكثر سعادة وترسمها على شاكلتها». هذا هو حال الادارة الأميركية الحالية. فهي تريد فرض نظامها على العالم وبالقوّة إذا دعت الحاجة. فالارضيّة الايديولوجيّة في المجتمع النخبوي الأميركي أصبحت مناسبة للمشروع الكبير. اما على الصعيد الشعبي، فإن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول كانت الدليل القاطع لصحّة رأي النخبة، على الأقل من وجهة نظرهم.

ما هي شروط إعادة بناء الدول، ونشر الديمقراطيّة حسب التجارب الأميركيّة؟

- التجارب الديمقراطيّة السابقة للبلد المنوي إعادة بناؤه.

- مستوى التقدّم الاقتصادي.

- مدى التجانس الاجتماعي بين الافرقاء المكوّنة للبلد المقصود.

- ويبقى العامل الأهم يتمثّل في مستوى الجهد المخصّص للمشروع، مقارنة مع عامل الوقت، الجهد البشري والمالي.

- أهميّة توافر اكبر عدد ممكن من الدول للمشاركة في مشروع إعادة البناء، لان التفرّد قد يطيل المشروع او يطيح به.

- ضرورة وحدة القيادة، من ضمن التعدّديّة في المشاركة خصوصا إذا ما كانت لدى المساهمين النظرة نفسها للمشروع، فباستطاعتهم عند ذلك تسيير المنظمات الدوليّة حسب مشيئتهم.

- ويبقى الأمر المهم في عدد القوات العسكريّة المولجة بحفظ الأمن. فكلما كان عدد القوات اكبر، قلّ عدد القتلى.

- كذلك الأمر، يتطلّب مشروع إعادة بناء الدولة ما لا يقلّ عن 5 سنوات. وقد يتعلّق هذا الأمر بمدى الدمار الذي لحق بالبلد المقصود خلال الحرب.

- وأخيرا وليس آخرا، يبقى الدور الأهم لنجاح مشروع إعادة البناء، في مدى تعاون الدول المحيطة بالبلد المقصود إعادة بناؤه.

توافرت كل هذه الشروط في البلدان التي نجحت فيها أميركا، وعلى رأسها اليابان والمانيا. ويتوافر البعض منها للمشروع العراقي.

فما هي إذا التحدّيات في العراق؟

ابتعدت الديمقراطيّة عن العراق لفترة طويلة. فالحكم السابق كان حكما احاديّا، لم يسمح ابدا بعمليّة ما يسمّى خلق القيادات البديلة، السياسيّة منها والعسكريّة. فالقيادات السياسيّة، اما قتلت أو كانت في المنفى. من هنا يبدو المأزق الحالي في عدم توافر زعامات سياسيّة تاريخية الآن تستطيع ان تجمع الكلّ حولها في احلك الاوقات. وأدّى هذا الأمر إلى قيام قيادات دينيّة كبديل لانها اقدر على الاستمرار واستقطاب الشعب تحت غطاء الدين. اما القيادات العسكريّة، فهي كانت ايضا مفقودة لان عمليّة اتخاذ القرار كانت تقتصر على مجموعة محدودة جدّا. من هنا كان الفشل العسكري، إلاّ فيما خص ضرب الشعب العراقي في الشمال والجنوب.

العائق الثاني قد يكون في تفرّد أميركا بالمشروع العراقي. حتى انها تحدّت مجلس الأمن وخاضت حربا لا تتمتع بالغطاء الشرعي والقانوني.

يبدو العراق مستمرّا في انقسامه الداخلي فيما خصّ مستقبل العراق. حتى ان الافرقاء الاساسيين الذين يتألف منهم العراق، يبدو وكان لكل واحد منهم موقفا مختلفا عن الباقين بالنسبة إلى الامور الآتية: النظام السياسي المستقبلي للعراق. الموقف من الاحتلال الأميركي. الموقف من دول المحيط. والموقف من عمليات المقاومة.

لا تبدو المقاومة مضطرّة لاقناع العالم والشعب العراق بما تقوم به. لكن بوش مضطرّ وبإلحاح إلى إقناع الأميركيّين، كما العراقيين، العرب وكل المسلمين بما يقوم به. يبدو ان بوش مضطرّ ايضا، ولإتمام مشروعه ان يتم انتخابه لولاية ثانية. لكن انتخابه متعلّق مباشرة بمدى النجاح أو الفشل في العراق. لذلك يدخل كل من الرئيس صدّام حسين واسامة بن لادن كناخبين اساسيّين في الانتخابات الأميركية المقبلة.

وأخيرا وليس آخرا، تبدو المقاومة وكأنها العائق الاكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة.

ماذا عن المقاومة؟

وصلت المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي إلى درجة مقلقة للادارة الأميركية الحاليّة. فالعمليات إلى تزايد في العدد والنوعيّة. وأصبحت الولايات المتحدّة في موقع المدافع، بعد ان فقدت زمام المبادرة. نتيجة ذلك استدعى بوش الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر على عجل إلى واشنطن لعقد اجتماع للمجلس الحربي الأميركي. لكن المقاومة لم تصل حتى الآن إلى درجة تجبر الرئيس على الخروج السريع من العراق. فالرئيس بوش، يبدو وكأنه لم يضع استراتيجيّة للخروج Exit Strategy. ويبدو ايضا ان الخروج حاليا ليس أحد الحلول المطروحة على بساط البحث لدى الادارة الأميركيّة. إذا ماذا يجري فعلا حاليّا؟

تحليلا لعمليات المقاومة يقول الخبراء ان ما يجري قد يصبّ ضمن احد السيناريوهات الآتية:

- سيناريو اوّل يقول ان تزايد عمليات المقاومة هو بسبب حلول شهر رمضان المبارك. وهي ستستمرّ حتى بعد انتهاء العيد. هنا ستعاني أميركا مشكلات كبيرة.

- يقول السيناريو الثاني، ان تزايد العمليات هو بسبب شهر رمضان المبارك. وستنحسر بعدها لتعود كما كانت.

- اما السيناريو الثالث فيقول، ان تزايد العمليات هو بسبب وصول المقاومة إلى نقطة مسدودة، ولم يعد لديها اي خيار سوى الهجوم. وإن لم تفعل ذلك، فسيقضى عليها.

لكن الاكيد، واستنادا إلى تاريخ تجارب المقاومة في العالم، أنه لا يمكن للمقاومة الاستمرار بهذا النمط، فهي ستستهلك قواها. كما قد تصبح اكثر عرضة لكشفها. وهي، أية مضّطرّة ايضا إلى الانتظار قليلا بعد كل عمليّة تقوم بها، وذلك بهدف إتاحة بعض الوقت للترجمة السياسيّة لانجازاتها. وكي تستطيع تقييم وضعها من فترة إلى أخرى، بهدف الاستمرار كما هو الوضع في حال النجاح، او التعديل في حال لزم الأمر.

إذا ما هو المرتقب من السلوك الأميركي؟

إذا لم يكن للرئيس بوش استراتيجيّة سريعة للخروج من العراق، وإذا كان الخروج السريع سيكون اكثر كلفة من البقاء، وإذا كان نجاح المشروع الأميركي يتطلّب ولاية ثانية للرئيس... إذا لا بد من اعتماد استراتيجيّة جديدة أميركيّة في العراق. وهي قد تكون على الشكل الآتي:

- لا بد لأيّة استراتيجيّة من ان تقوم على ابعاد ثلاثة هي: البعد السياسي، الاقتصادي والعسكري.

- في البعد السياسي، ستعمد أميركا إلى الاستمرار في طلب دعم الدول الصديقة والحليفة لارسال المزيد من القوات العسكريّة إلى العراق. تبدو كوريا الجنوبيّة اخيرا كخير مثال. كذلك الأمر، وعلى الصعيد العراقي الداخلي، ستعمد أميركا على توريط العراقيين كلّيا في القرارات السياسيّة الداخليّة، كنقل السلطة بأسرع مما كان متوقعا.

- في البعد الاقتصادي، ستستمر أميركا بطلب الدعم المالي بعد مؤتمر مدريد الذي عقد حديثا. كذلك الأمر، ستعيد بناء البنى التحتيّة للثروة النفطيّة، وهذا فعلا ما يجري العمل عليه حاليا.

- أما في البعد العسكري، تبدو أميركا مضطرّة إلى استعادة زمام المبادرة العسكريّة من المقاومة بعد ان كانت انتقلت إلى الوضع الدفاعي. وهي إن ارادت ان تنقل السلطة السياسيّة إلى العراقيين، فلا يمكن لها ان تنقلها وهي في وضع الدفاع. فقد تبدو ضعيفة، وكأنها تهرب من مسئولياتها وعاجزة عن اتمام مشروعها. من هنا كان بدء العمليّة العسكريّة الاخيرة تحت اسم «المطرقة الفولاذيّة».

وقد يقول البعض، ان أميركا قد تذهب ابعد من ذلك في توسيع عملياتها العسكريّة. وهنا مكمن الخطورة

العدد 443 - السبت 22 نوفمبر 2003م الموافق 27 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً