العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ

الجاحظ: قلق الزمان والمكان

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تعتبر شخصية عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ (أبوعثمان) فريدة من نوعها في تاريخ المعتزلة السياسي والايديولوجي. فهو من تلامذة النظّام (فيلسوف الكلام) وفي الآن صاحب مدرسة خاصة به أسس من خلالها فرقة عرفت باسمه (الجاحظية أو العثمانية) كان لها دورها في تطوير منهج المعتزلة ونقده لاحقا. فالجاحظ قبل طرد المعتزلة من الدولة اختلف مع استاذه النظّام وانتقده بسبب مبالغة الأخير في طعنه في اعلام الصحابة. فالجاحظ على رغم اتباعه منهجية المعتزلة كان مستقلا في رأيه وصاحب وجهة نظر متميزة في قراءة تاريخ الاسلام والمسلمين وتحديدا ذاك الرعيل الأول من الصحابة وأصحاب الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.

هذه المواقف المستقلة ساعدت الجاحظ لاحقا في اتخاذ مسافة عن فرق المعتزلة الأمر الذي عرّضه لسلسلة هجمات من المتطرفين منهم، ودفعته تلك الهجمات للرد عليهم وانتقاد مسلكياتهم ونقض بعض الأدلة والافكار التي كان يجد فيها ابتعادا عن الواقعية والعقلانية. فالجاحظ أقرب المعتزلة الى العقلانيين وأكثر استيعابا لمنهج الواقعية في قراءة التاريخ واكتشاف عناصره وعوامله. فالجاحظ صاحب منهج في فهم التاريخ وكان من القلائل في عصره الذين حاولوا تفسير بعض الظواهر والحوادث في سلسلة مقالات ورسائل أسهمت في تطوير الوعي التاريخي سابقا في ذلك كبار المؤرخين من أمثال الطبري أو المسعودي.

الجاحظ إذا ظاهرة فريدة ومن الصعب التقليل من شأنه واختزال مجموعة أعماله في جملة قصيرة أو تصنيفه كفريق من فرق المعتزلة. فأعمال الجاحظ غنية ومتنوعة وأكبر بكثير من اختصارها في كلمة واحدة أو فقرة كما فعل الجرجاني في كتابه «التعريفات» حين صنف الجاحظية بأنها فرقة من «أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ» واردف تصنيفه بتعريف مختصر قال فيه: «قالوا: يمتنع انعدام الجوهر والخير والشر من فعل العبد، والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة» (الجرجاني، ص 100). هذا ظلم للجاحظ. واختصار مدرسته الفكرية التي عاش الجاحظ قرابة مئة سنة يكتب مؤلفاتها ومصنفاتها بهذا القدر من التجني عليه أمر يحتاج الى اعادة قراءة ودراسة ليستقيم ميزان العدالة.

الجاحظ شخصية فريدة من نوعها وكذلك يمكن القول عنه انه يتميز بشخصية غنية بالخبرة والذكاء الأمر الذي أعطاه ميزة التقدم والتطور والبحث عن الحقيقة انطلاقا من منهج تجريبي - تركيبي. فالجاحظ صاحب منهج واقعي يقوم على تركيب (ملفق أحيانا) يعكس قصة حياته القلقة والمتوترة. فهو رجل مسلم قلق لا يستكين لموقف نهائي وثابت الأمر الذي جعله عرضة للتقلب بسبب اختلاط مزاجه بين شكل يقال عنه أنه «بشع» وذكاء حاد وحب للمعرفة والاطلاع والقراءة قلّ ان وجد مثله في جيله واترابه. قال عنه محمد بن محمد عن أبي العباس محمد بن يزيد النحوي: «ما رأيت احرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، واسماعيل بن اسحق القاضي».

بشاعة الوجه وحب المعرفة والبحث عن الحقيقة كانت من أسباب قلق الجاحظ. اضافة الى ذلك هناك سلسلة من الأسباب الأخرى منها ضياع الحسب والنسب. آنذاك كانت مسألة القبيلة والأسرة والانتماء تحتل أهمية في النظام التراتبي الاجتماعي والجاحظ هو من القلة التي ضاع نسبها واختلف النسابون في تحديد هوية نهائية لمصدره العصبي - الاجتماعي. الكعبي يقول عنه: «انه كناني من بني كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر». وابن النديم في «الفهرست» يقول عنه انه «مولى لأبي القلمس عمرو بن قطع الكناني ثم الفقيمي. وكان جده أحدّ النسأة (الرقيق). وجده الأدنى لونه أسود يقال له نزارة، وكان جمّالا لعمرو بن قطع».

هذا الرجل في حيرة من أمره فهو لا بالأبيض ولا بالأسود ولا بالعربي ولا بالأعجمي ولا من قبيلة ولا من الموالي بل هو هذا المزيج المركب الفريد من نوعه في حسبه ونسبه وفي أصله وفصله وفي أصوله القبلية والعرقية وفي منبته الاجتماعي.

ذكاء الجاحظ كان طريقه للصعود والتقدم. فالذكاء عوض عليه كل ما كان يحتاجه للتقرب الى السلطة أو للوصول أو للتعارف. فهو فعلا شخصية قلقة ومركبة من مزيج غني من المعارف. وعناوين كتبه تدل على هذا القلق فهو كتب عن «القحطانية والعدنانية» وعن «السودان والبيضان» وعن «التسوية بين العرب والعجم» واعتبره البعض مؤسس «الفكر القومي العربي».

فالجاحظ مثقف بامتياز عاش في عصر كانت الدولة فيه تحترم العلم وتحتاج الى المثقفين اذ كان الخلفاء آنذاك يتقربون ويقربون العلماء وأصحاب العلم من ديوانهم ليكونوا صورة من المشهد وشهودا على زمنهم.

نجح الجاحظ في الاقتراب من السلطة فقرأ الخليفة المأمون كتبه في الامامة وقربه اليه بعد أن كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها كما يقول ابن النديم. ومع المأمون بدأت رحلة الجاحظ مع الدولة ومن ثم مع المعتزلة فحصد الشهرة والموقع ونال الرضى والاستحسان فحافظ على مكانته ونال ما يستحقه من تقدير واحترام في أيام المعتصم والواثق فكان نصيبه من نصيب ما أنعمت عليه الخلافة من تودد وتقريب لكل فرق المعتزلة وشيوخها. وحين توفي ابراهيم بن العباس الصولي وشغر منصب «ديوان الرسائل» تولي الجاحظ تلك المسئولية وكان له شرف تولي منصب تحمّل مسئولياته رجل من أمثال الصولي.

ومن موقعه ذاك اشرف الجاحظ على ديوان الرسائل وأخذ بتطوير بحوثه ودراساته؛ لأن ذاك المنصب يفرض عليه الدقة والتوازن بين المصالح والتفكير الواقعي بمصالح الدولة وسياسة الخليفة.

عاش الجاحظ كثيرا وكان ظريف جيله وصاحب نكتة وخفيف الظل، وحين سئل عن عمره أجاب من دون أن يوضح «أنا قريب من سن أبي نواس (نديم هارون الرشيد) وأنا أسن من الجمّاز» كما يروي عنه ابن النديم في «الفهرست».

وألف الجاحظ كثيرا ومن الصعب تعداد كتبه المشهورة حتى يومنا ومن أبرزها «الرسائل» و«البخلاء» و«الحيوان» والأخير يقع في خمسة أجزاء. والأهم من هذه الكتب تلك المؤلفات التي تعد بالعشرات وهي في معظمها مجهولة أو غير محققة أو مفقودة ومنها: فضيلة المعتزلة، الرد على المشبهة، الامامة على مذهب الشيعة، أصناف الزيدية، العثمانية (عثمان بن عفان)، الرد على النصارى، الرد على العثمانية، امامة معاوية، بني العباس، ما بين الزيدية والرافضة، التوحيد، صناعة الكلام، وجوب الامامة، الأصنام، التربيع والتدوير، الرد على اليهود، الاعتزال، والرد على الغولية. وغيرها من المصنفات التي كتبها أو تنسب اليه مثل كتاب «التاج» وهو كما يقال آخر ما كتبه الجاحظ.

الجاحظ إذا صاحب مكتبة في مختلف الحقول والميادين فهو قال عن المعارف انها «كلها طباع وهي فعل للعباد وليست باختيار لهم». اختلف مع ثمامة بن أشرس (صاحب المأمون) ووافقه على أن «لا فعل للعباد إلا الارادة، وأن سائر الأفعال تنتسب الى العباد على معنى انها وقعت منهم طباعا وانها وجبت بارادتهم». (البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 160 - 163).

في أيام المعتزلة استفاد الجاحظ كثيرا من مكانتها ودورها في صنع القرارات السياسية للدولة لذلك قال الكثير من الكلام التافه الذي حسب عليه وضده، وأخيرا دفع ثمنه حين انقلب المتوكل على المعتزلة وطردهم من ديوان الخلافة ورفض قبول التسوية التي عرضها عليه الجاحظ. فالجاحظ في نهاية حياته كان ضحية من ضحايا المعتزلة اذ دفع ثمن نهاياتها التي بدأت منذ عهد المتوكل.

بعد الاهانة اصيب الجاحظ بفالج أقعده في البصرة بعد عودته خائبا من بغداد. وهناك في بيته واصل كتاباته وهو مريض يعاني من أوجاع لا توصف وصفها مرارا في مقالاته. وفي أيامه الأخيرة انكب على كتابة الجزء الأخير من موسوعته «الحيوان»، وتوفي مقتولا تحت كتبه حين وقعت عليه مكتبته في خلافة المعتز سنة 255 هجرية / 869ميلادية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً