العدد 466 - الإثنين 15 ديسمبر 2003م الموافق 20 شوال 1424هـ

الدكتاتور والاحتلال

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مشهد اعتقال الرئيس العراقي السابق لا ينسى. فهو مثل تلك اللقطات السينمائية المدهشة التي تترك أثرها في المخيلة إلى فترة طويلة ويعاد تقليدها وتكرارها في أفلام أخرى. المشهد مخزٍ. فهو من جانب يشير إلى رئيس معزول كان قبل أكثر من ثمانية أشهر لا يسمع إلا لنفسه ولا يحاور أو يشاور إلا عقله، ويشير من جانب آخر إلى قوة كبرى نجحت في اصطياد مطارد قررت في لحظة ما أنه عدوها الأول.

المشهد متناقض ولكنه في النهاية يلتقي في نقطة مشتركة وهي استعداد المطرود (المطارد) للمساومة بعد أن فشلت كل محاولاته للهرب من بلاده. واستعداد الطرف الغالب الاستماع إلى المغلوب وأخذ ما يريده من معلومات لا يملكها غيره وتنازلات لا يستطيع أحد تقديمها حتى أعضاء «مجلس الحكم الانتقالي».

نقطة اللقاء في المشهد تثير الكثير من الأسئلة. فالرئيس المخلوع يتصرف وكأنه في موقع يسمح له بالتسوية أو إعادة إنتاج مساومة تضمن حياته مقابل معلومات يملكها عن السلاح والمال وشبكة الحزب. والطرف الغالب يتعامل معه كشيء يمكن أن يستفيد منه في فترة هو بحاجة إلى نوع من التفاهم تعطيه بعض صدقية فقدها خلال أكثر من تسعة أشهر على الحرب والاحتلال.

نقطة اللقاء هذه توضح الكثير من الغموض الذي سيطر على مشهد الاعتقال. فالمشهد مدمر في الكثير من لقطاته. فالطريدة مستسلمة ومطمئنة لمصيرها والصياد مرتاح إلى استعداد «الرئيس المطرود» للتعاون والتفاهم.

المشهد في مجموع لقطاته ليس عراقيا في المعنى السياسي، بل يتعارض مع الكثير من الملامح المعاصرة في تاريخ العراق الحديث. ففي 14 يوليو/ تموز 1958 وقع انقلاب عسكري أطاح بالحكم الملكي وأعلن النظام الجمهوري. وقام الانقلابيون بسحل رئيس الوزراء نوري السعيد في شوارع بغداد وتقطيعه. وفي 28 فبراير/ شباط 1963 انقلب الانقلابيون على حكم عبدالكريم قاسم وأعدموه على كرسي في حجرته. وغيرها من مشاهد القتل والسحل وإسقاط الطائرات للتخلص من الخصوم.

هذه المشاهد قفزت إلى واجهة المسرح العراقي مجددا حين انقلب حزب البعث على رئاسة عبدالرحمن عارف في 17 يوليو 1968 وتكرر المشهد حين أزاح صدام حسين الرئيس أحمد حسن البكر بعد سلسلة اغتيالات وتصفيات سرية وعلنية لم تتوقف حلقاتها حتى اللحظة الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع.

الآن، نحن أمام مشهد جديد ومختلف عن لقطات عشنا لحظاتها في تاريخ العراق الحديث. المشهد هادئ وغير دموي ولكنه يثير الريبة. فهل صدام (الدكتاتور) هو جبان إلى حد استعداده لبيع كل شيء مقابل ضمان حياته؟ وهل الاحتلال رؤوف إلى هذا الحد حتى يتعامل مع صدام بأسلوب تجاري يقايض تقديم الضمانات مقابل الاعتراف وكشف المعلومات؟

الأسلوب «الحضاري» مطلوب وهذا ما يجب أن تظهر به المحاكمة. فالتحقيق يجب أن يبتعد قدر الإمكان عن الانتقام والتشفي. صحيح أن صدام راكم كميات لا تحصى ولا تعد من الخصوم والأعداء وهناك طابور طويل من أسر الضحايا ينتظر دوره للسؤال أو الشماتة أو غيرهما من احتمالات عاطفية يتوقع ظهورها أو صدورها من هذا الطرف أو ذاك... هذا يجب ألا يعطل مسار المحاكمة والتحقيق معه لتوضيح الغامض في شخصية هذا الدكتاتور وسلوكه المقرف الذي أطاح بالكثير من الرموز وصولا إلى أقرب المقربين من أهله وأسرته.

إلا أن المخاوف تبقى مطروحة من النتائج التي ستسفر عنها التحقيقات والمحاكمات. فالدكتاتور كما يبدو أظهر استعداده للوشاية وقول ما يريدون منه قوله حتى يحفظ حياته ظنا منه أن عقارب الساعة قد تعود من جديد إلى الوراء. والاحتلال كما يبدو أظهر تفهمه لما يريده الدكتاتور، الأمر الذي يثير أسئلة عن احتمال إعادة استخدامه وعقد صفقة معه في فترة التحقيق وقبل بدء المحاكمة العلنية إذا سمح بها.

المشكلة في الدكتاتور أنه يظن أن دوره لم ينتهِ وأن وظيفته يمكن تجديدها من خلال إعادة إنتاج تسوية (مساومة) لا ترده إلى الحكم بل تضمن وجوده في مكان منعزل بعيدا عن الناس. والمشكلة الثانية أن الاحتلال يرى أن مهمته لم تنتهِ أيضا، فهو جاء إلى العراق ليس من أجل إلقاء القبض على دكتاتور وإنما استخدمه ذريعة لمشروع كبير يطاول المنطقة كلها. والآن بدأت وظيفة الدكتاتور تأخذ بعدها الجديد في سياق تأويل أو كشف الكثير من المواد (المعلومات) التي تعطي دفعة يحتاج إليها الاحتلال لاستتباع مهماته في حروب أخرى.

مشهد الاعتقال لا ينسى واللقطات «الإنسانية» ستترك أثرها في المخيلة إلى فترة طويلة. والسؤال، هل سيعاد تقليدها وتكرارها في أفلام أخرى؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 466 - الإثنين 15 ديسمبر 2003م الموافق 20 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً